" الحق في المشي منتصبا هو أمر أساسي لجميع التمردات وإلا لن تكون هناك انتفاضة "
- أرنست بلوخ- مبدأ الأمل-
إذا فشلت الثورة في الواقع الاجتماعي ولم تقدر القوى الاجتماعية الصاعدة من الاستيلاء على الحكم والقطع مع النظام القديم وحصلت انتكاسة سياسية بعدية وصار انقلاب عسكري ورضي الناس بالحال ونجحت الثورة المضادة في إعادة ترتيب الأوضاع نبحث عن الأسباب في الثقافة والذهنية ونفتش عن الثورة في العقل وعن المكاسب المدنية والقيم الحضارية والمبادئ التوجيهية في المؤسسات المستقرة.
أما إذا نجحت الدولة في بسط نفوذها وتطوير أدوات التحديث وعصرنة المجتمع وخلقت آليات للتعبئة وصنعت مشروعا حضاريا للمواطنين على أساس السيادة الوطنية ولحقت بركب التقدم على المستوى التكنولوجي والتصنيع الحربي وحسمت معركة الفجوة الرقمية والتنمية الاقتصادية فإننا نبحث في عقول نخبها وسواعد أبنائها وبناتها وفي المنظومة التربوية التي كونت المهارات ودور الثقافة التي شجعت على العمل وعلى الابتكار ونعود إلى البيئة الاجتماعية الحاضنة للاستفاقة والى المحيط المتطلع إلى التفوق.
لقد تشكلت سرديات كبرى حول العلاقة الضدية بين القديم والجديد وحول العلاقة الودية بين العقل والثورة وحصلت ثورات اجتماعية مهمة نتيجة تفجر ثورات على الصعيد الأدبي والفكري والعلمي والفني بمجتمع معين وحصل تقدم كبير على مستوى وعي الشعوب بمهامها واقتلعت عن جدارة مكانها في القمة بين الأمم المتحكمة في المعمورة بفضل الثورة في العقل والتجديد في العلوم والإصلاح للمعتقدات ولأنظمة التعليم.
لكن كيف يمكن تشكيل مقاربة عقلانية للثورات تحميها من العنف والعسكرة والحرب الأهلية والارتداد؟ وهل يجوز الاشتغال على مقاربة ثورية للعقل تخلصه من التمركز حول ذاتها وتوقظه من شدة وثوقيته؟
لعل ثورة بلا عقل هي عصيان اجتماعي بلا مقصد إيتيقي وتمرد للجمهور دون برنامج للتحرر ومشروع للبناء وعقل بلا ثورة هو طاقة خاملة وجهاز عاطل ومنظومة إيديولوجية فارغة وخزانة من المعارف العقيمة والمقولات الضارة ونسق من النظريات المجردة وشبكة من التصورات المحافظة والرؤى الضالة.
من هذا المنطلق تحتاج الجماهير إلى العقل التواصلي والتأويلي والتغييري لكي تترشد الممارسة وتتخلص العملية الانعتاقية من الشمولية وتشتغل على قلب الأوضاع لفائدتها وتكنس الفساد وتواجه نصب المتحيلين. كما تحتاج النخب المثقفة إلى الطاقة الثورية والحماسة العاطفة لكي تنتصر على جبنها وأنانيتها الضيقة وتحدد سلم الأوليات وتلتحق بالقوى الثورية في معركتها الكبيرة مع الاستعمار والاستبداد وبقايا الإقطاع.
ما أحوج الثقافة الخاصة بنا إلى الثورة العقلانية والعقل الثوري وما أحوج الجماهير إلى النظرية الثورية والممارسة العقلانية لكي تتجنب الخوض في القضايا الثانوية والمشاكل المفتعلة وتقنع الطابور الخامس بالمشاركة في نحت الملحمة الكبرى ضد الشمولية وتنطلق في استكمال مهام التحرر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي وتصنع رأيا عاما مضاد لكل ارتداد على المسار وتمنع أي حنين للماضي الشمولي.
كما يتطلب الأمر من العقل الثوري أن يضع خطة استراتيجية مدروسة ومحكمة للقيام بالتغيير الجذري وإعادة بناء وإعادة تأسيس كل الهياكل والهيئات والمنظمات والمؤسسات التي تهتم بالمرافق العمومية وترعى مصالح الناس وتوفر لهم الخدمات الاجتماعية على أساس التناصف والمساواة والتوزيع العادل.
فمتى تعمل الثقافة السياسية على التجديل بين العقل والثورة مثلما قامت الفلسفة بتجديل العلاقة بين النظرية و الممارسة؟ وماهي الشروط الفلسفية التي تساعد على تثوير العقل الجمهوري وعقلنة الثورة الاجتماعية؟
0 comments:
إرسال تعليق