لم تكن الباحثة التونسية زهية جويرو مخطئة - حينما كتبت في مجلة الفصيل عدد (يوليو - أغسطس 2019) إن كل الدراسات المختصة سواء الاستراتيجية - الأمنية أو السوسيولوجية والفكرية تتفق على أن ظاهرة التطرف وما نتج عنها من أعمال إرهابية لا يمكن أن تعالج بالاقتصار على الوسائل الأمنية - العسكرية، وقد بينت تجارب كثيرة إن الاقتصار على هذا النوع من المعالجة قد أدى إلى نتائج عكسية، فالأفكار المتطرفة تنمو وتزدهر في البيئات المغلقة، ومنها البيئة التي يهيئها العمل السري الذي تعتمد الجماعات المتطرفة استراتيجية تنظيمية، وفي هذه البيئة المغلقة نفسها وفي إطار العمل الحركة السري ينمو النشاط الإرهابي بمختلف مكوناته بدءا من التعبئة والتجييش وصولا إلى العمليات العنيفة والدموية بشتى أشكالها، لقد ظلت الكثير من الدول تتعامل مع حركات الإسلام السياسي وأطروحاته بمقاربة أمنية – عسكرية على امتداد عقود، ولكن ذلك لم يقض على تلك الحركات ولم يحد إلا قليلا من انتشار أطروحاتها بين صفوف فئات اجتماعية معينة.
إذا كان كما تشير من الأهمية أن نستفيد من الاستراتيجية التي وضعتها مراكز البحث بمختلف تخصصاتها بشأن مكافحة التطرف فهو إثباتها إن أجدى مجال لمقاومة التطرف هو التعليم والبحث العلمي، أما التعليم، وبخاصة تعليم الآداب والإنسانيات والفنون والتعليم في المراحل الأولى والمتوسطة، فإنه يقوم على ضبط خطط وبرامج مناسبة لصنع عقل نقدي منفتح ولتمكينه من آليات الفهم والنقد من جهة، ونشر ثقافة التنوع والاختلاف والنسبية عبر مواد بعينها وبرامج مختارة اختيارا دقيقا يقوم عليه مختصون في كل المجالات، وإخراج الدراسات الدينية من احتكار المؤسسات التقليدية القائمة على التلقين والتقليد، ويعني ذلك إن المدرسة بكل مستوياتها هي الحلقة الأولى الأساسية في خطة مقاومة التطرف والإرهاب ومن دون إدماج المدرسة في هذه الخطة واعتبارها الإطار والفاعل الأساسيين فيها، ستظل عقول الأطفال والمراهقين والشباب معرضة للاختطاف.
وإن الجانب الأهم هو أن نجاح المدرسة في تحقيق الهدف الأساسي يعتمد على إكساب العقول المعارف والمنهجيات التي تكسبها بدورها مناعة ضد كل أشكال التلاعب وضد كل الأطروحات المتطرفة مهما كانت خلفيتها.
إذا كانت الأساليب التي تستخدمها الجماعات المتطرفة من أجل بسط سلطتها على العقول والخطط التي تسير عليها للوصول إلى هذه الغاية التي تعدها حلقة ضرورة من أجل الاستحواذ على السلطة في المطلق، فإنه لا يمكن مقاومة ذلك إلا بتجنيد المؤسسة التعليمية لهذه المهمة وذلك لغايتين هما إكساب الإطار التربوي والتعليمي العقول والكفاءات النقدية والحصانة المعرفية التي تتيح لها حدًّا من الاستقلالية ومن الموقف النقدي إذا ما تدعى إليه.
أما الثانية فهي فتح المجال كاملاً من أجل البحث والنشر وعدم الحجر على الأعمال العلمية مثل الندوات والمؤتمرات والمشاريع البحثية التي تتوافق مع استراتيجية الدولة في مقاومة التطرف والعنف والإرهاب وعدم الخضوع للابتزاز الذي تمارسه جماعات الضغط باسم حماية المعتقدات ومنع التعدي عليها ومنع استفزاز الشعور الديني، ذلك إن هذا الخطاب هو الخطاب نفسه المؤسس للتطرف والإرهاب، إذ من غير المفهوم أن تنساق الدولة التي ترفع شعار مقاومة التطرف والعنف في مثل هذا الخطاب، وأن تستجيب له بأي شكل من الأشكال.
أما الركن الذي تراه ضروريا ضمن استراتيجية مقاومة التطرف الديني خاصة فهو تحرير الدراسات الإسلامية ودراسة الأديان عامة من احتكار المؤسسات التقليدية؛ لأن هذه المؤسسات ترفض رفضًا قطعيًا إدراج العلوم والمناهج الحديثة في برامجها ومناهجها، وهو ما جعل منها قلاعا منغلقة لا قدرة لها إلا على تلقين الموروث وعلى إعادة إنتاجه دون أية إضافة، وإذا أخذنا في الحسبان إن هذا الموروث الذي لا نعده في ذلك سلبيًا مطلقًا، قد إنتاج لعصور غير عصرنا وضمن بنى اجتماعية ومادية عمومًا وبنى ذهنية ومعرفية مختلفة تمامًا عن البنى التي تحكم المجمعات والذهنيات الراهنة، فضلاً عن ذلك الموروث قد عالج أسئلة غير أسئلتنا واقترح أجوبة تتماشى مع أوضاع مضت لكنها لا يمكن أن تتماشى مع عصرنا وأوضاعه، ولهذا السبب وغيره يساهم ما تعيد المؤسسات الدينية التقليدية، وبخاصة المؤسسات التعليمية، إنتاجه في تعميق جملة من المفارقات التي تعمق اغتراب المسلم عن عصره وتحد من قدرته على أن يكون فاعلا مشاركا في إنتاج المعارف الجديدة وفي تطوير أوضاع بلدانه، إن الإسلام الذي أطلق في قرونه الأولى حركية تاريخية شملت العلوم والمعارف وطورت المجتمعات وركزت الدول حتى أصبحت الحضارة الإسلامية ودولتها وقتها أهم حضارات العالم وأقوى دولة، أصبح اليوم عاجزا عن المشاركة بأي إسهام مهما كان بسيطًا في حركية المعارف الإنسانية، ولم يعد الإسلام يذكر على صعيد العالم إلا مقترنًا بالتطرف والإرهاب فكيف يمكن لمؤسسات تعليمية لا برامج لها غير تلقين «العلوم الإنسانية» ولا مناهج لها غير ما هو متوارث أن تلعب دورًا في إرجاع الإسلام الحضارة الإسلامية إلى حيويتهما؟ كيف يمكنها أن تنتج معرفة تتناسب مع عصرنا ومشاغلنا وأسئلتنا؟
وبناءً على هذا لسنا في حاجة إلى التذكير بأن تلك الحركية التي أطلقها الإسلام في عصره الأول والتي أشرنا إليها آنفًا ما كانت لتتاح إلا بتفاعل العلوم العربية والإسلامية الخالصة مع ما كان متاحًا آنذاك من معارف سائل الأمم وعلومها التي نقلت إلى العربية عبر الترجمة.
وفي مقابل ذلك، إن تحديث الدراسات الدينية مشروط بتوظيف المعارف الحديثة الخالصة بهذا الحقل مثل معارف السوسيولوجية والتحليلية النفسية، وباستخدام مناهج فعّالة أثبتت جدواها في تجديد المعرفة الإنسانية بالأديان من جهة مكوناتها وأنظمتها ونصوصها ورموزها، ومن جهة وظائفها الفردية والجماعية، وهي معرفة تشترك في كونها لا تمثّل أي خطر على الدين كما يُشيع أعداء التجديد والاجتهاد.
وترى أن استخدام هذه المعارف والمناهج في السياقات الغربية لم ينقضْ الدين ولا قلّل من المؤمنين به بل أسهم في عقلنة الوعي والسلوك الدينيين. ولذلك فتح مؤسسات جامعية ومراكز بحوث مختصة في الدراسات الدينية الحديثة وفي تطبيقها على دراسة الإسلام بكل مكوناته وإلى إتاحة مثل هذا المشروع من التمويل والتجهيزات.. ومن الحريات الأكاديمية وبخاصة حرية البحث العلمي أمرًا حيويًّا.
إذا كان كما تقول إن المؤسسات الإسلامية العريقة في بعض الدول العربية بحاجة إلى إصلاح فهذا يعني إن أولى مهامها أن تنشر الفكر الإسلامي الاجتهادي والتنويري خلاصة القول، إن إدراج المدرسة والجامعة والبحث العلمي والمؤسسات الدينية الرسمية في خطة للإصلاح تجعل هدفها الأقصى تفكيك أصول التطرف والإرهاب ورسم سياسات مقاومته وتربية الأجيال الجديدة على التفكير النقدي وعلى الفكر المنفتح وتقبّل الاختلاف بوصفه تنوّعًا وإثراء هو القاعدة الأولى في برنامج يحتاج إلى قواعد وأركان أخرى.
0 comments:
إرسال تعليق