المفاجأة في النص، تكمن في غياب عنصر المفاجأة، فمن الصفحات الأولى في الرواية، يدرك المتلقي اتجاه البوصلة، كما يدرك أسهُم الطريق الدالّة على الخريطة بأكملها، ويقرأ 157 صفحة من القطع المتوسط، بأسلوب السهل الممتنع – إن دقّ التعبير- ويمر باثنين وأربعين عنواناً، يشكل كل عنوان مشهداً من المشاهد الروائية، وفي شدّ هذه المشاهد بعضها إلى بعض تكوّن الرواية تشكيلة فسيفسائية، تمرّدت على الشكل الروائي النمطي الذي يسلسل الأحداث ويوائمها بالزمان والمكان والشخوص. حيث يبدو المشهد الواحد، قصة بحد ذاته، اكتفت بزمكانيتها وشخوصها وأحداثها.
يستهل الشاعر زهير قطام النصّ بمقدمة شعرية: (إلى روح عدنان) فتظهر مفردات الموت والرثاء والحزن والبكاء... (ص1).
ويقول نبيل عمرو، إنها قصة عدنان بما يمثل من جيل شهد البدايات، واجتاز كل الفصول المكتظة بالخطر والألم ... (ص2)
وورد في المقدمة: رغبة الكاتبة أسماء ناصر في توثيق من لم يأخذ نصيبه من توثيق موضوعي..(ص12) وفي مقابلة إذاعية مع الكاتبة، قالت: " إن "فدائي عتيق" هو نصّ يحاول تخليد سيرة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الإسرائيلي، والتي ما زالت مستمرة حتى الآن بأشكال مختلفة، وأن هذا النضال مستمر حتى كنس المحتل من أرضنا، وعودة الأرض إلى أصحابها الشرعيين".
ولضخامة الأحداث فإنّ النصّ التقليدي لا يمكنه حمل هذه الأحداث الجسام التي مرّت بها القضية الفلسطينية، وبهذا المعنى فإنّ الفدائي "عدنان عيّاش" هو النموذج الذي تتقاطع حوله الرواية كلها، فكأنه نقطة الأصل في المستوى الديكارتي الرياضي، والذي تتحرك حوله الأحداث يمنةً ويسرةً، وإلى أعلى وأسفل، بما اقتضته الظروف، وبهذا المعنى فإن النصّ يرصد الأحداث ويحللها، ويتأملها، ثم يعيد إنتاجها ونشرها، وكأنها ما زالت خضراء طازجة يمكن معايشتها... والتفاعل معها.
لكن السؤال الذي يمكننا طرحه في هذه المرحلة: هل يشكل النصّ سيرة؟ وإذا كان سيرة هل هي ذاتية أم غيرية؟ أم هل هو رواية تاريخية توثق البطل والحدث والمكان، وتحاول ترتيب الأحداث بطريقة سردية روائية؟
نعم، يراوح النصّ بين السيرة والتاريخ، ولعلّه سيرة تاريخية للبطل "عدنان عيّاش" وهو أيضا سيرة ذاتية، فقد اعترفت الكاتبة أنّ عدنان كان يسرد عليها، وهي تكتب المسرود، ثم تعيد صياغته، فالسارد الأول هو البطل (عدنان) يقصّ عن ذاته، وما يتشابك مع هذه الذات من تفاصيل، في الوقت ذاته فإن أسماء (الزوجة/ الروائية) هي التي كتبت وقصّت عن عدنان، وهي إلى حدّ كبير مشاركة في البطولة، بشكل أو بآخر، وهذا ما يضفي على النصّ مصداقية كبيرة، إضافة إلى شهادات الآخرين، الذين كانوا يستلمون السرد ويقصون، مثل (نبيل عمرو، وغازي الحسيني وآخرين).
وليس صعباً علينا أن نعرف أن هذا السارد منحاز لقضيته، وهو المناضل من أجل الانتصار، والمضحي بروحه والمستعد للموت في سبيل رسالة سامية، حتى غدت نجاته من الموت بسبب أن أجله لم يَحِن بعد، وتلك هي إرادة الله.
وقد ظهر السارد في الوقت ذاته على أنه كلي المعرفة، يعرف الناس الذين يحتكّ بهم، ويتحسس المكان بتجلياته كلها، فهو يعرف السهل والجبل، يعرف الشارع والحارة، ويمشي في كل بيئة بترقب وحذر، وهو مُعرّض في كل لحظة للموت (كان على بعد صدفة من الموت) ص12، مما يجعل المتلقي يشارك السارد في حذره وخوفه، وهو ينتقل مع السارد من كلمة لأخرى، ليدهشنا السارد في نهاية الرواية بقوله (مش كل إشي بنحكى) ص154، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على أن السارد –رغم معرفته- التامّة في أحداث الرواية كلها، إلا أنه لم يكشفها كلها، فقد أظهر أشياء، وأخفى أشياء أخرى، ربما لأن الحالة الأمنية لا تسمح بكشفها، فضلاً عن أن السارد قد صرّح لزوجته الكاتبة، وهو على فراش مرضه في المشفى... (سننهي الرواية) حال الخروج من المشفى.. لكنه لم يخرج من المشفى حيّاً... وهنا نسأل: هل اكتملت الرواية؟ فنجد الإجابة عند نبيل عمرو (أدعو ست أسماء إلى إكمال الكتابة عن عدنان بعد عودته إلى الوطن ص9).
ومهما كان الراوي (السارد) فإن لغة النص اتسمت بالبساطة والبعد عن التكلف والتعقيد، ففي الوقت الذي كانت فيه قادرة على حمل معلومات – دقيقة- عن مناضل فلسطيني، عن حركاته كلها وسكناته، فقد تتبعت أيضاً تجلياته من لحظة ولادته إلى لحظة وفاته وعلى مدار اثنين وأربعين عنواناً، تبحّرت في حِلّه وترحاله، ووصف نضالاته، والمخاطر التي واجهته، سيّما وأن عدنان عياش، موضوع النص الرئيس من مؤسسي حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، إضافةً إلى أن اللغة نقلت لنا نُتَفاً من تجارب مجاييل عدنان ونضالاتهم، وذكرت أسماء كثيرة، بالرغم من كل هذا فإننا وجدنا هذه اللغة ترقّ في أحيان كثيرة، وتصبح أقرب للشعرية " يتوارى القمر، مفسحاً المدى لخيوط ذهبية، تسللت في أفق آسر، كما عذراء نهضت للتّوّ من نومها لاستقبال عاشق"ص13. وهناك ملاحظة لغوية لافتة في النص، تتجلى في إضافة "أل التعريف" للاسم "هذا العدنان سيحتل قادم أيامي" ص31، "هذا اليوسف نصير الضعفاء" ص19، ولعل زيادة تعريف العلم بإضافة "أل التعريف" إليه، يدلل على رفعة مقامه، وسموه في قلب السارد، علّ ذلك يؤثر في وعي المتلقي.
وتصف اللغة بانسيابية وتلقائية مثلث المنتج النصي ( الزمان، والمكان، والشخوص)، حيث يظهر المكان وكأنه تتابع لخشبة مسرحية، كلما اكتمل فيها مشهد، انتقل الذي يليه إلى مضمون آخر، فمن بين أمّر، إلى الأردن، إلى ألمانيا، فلبنان، فالجزائر، ففلسطين ثانية، فتونس... وكل مشهد من هذه المشاهد يحمل في طيّاته صراعاً استراتيجياً مع العدو، في سبيل التحرير والدفاع عن الأرض، وبناء الدولة. وفي هذا الصراع، والترجمة العملية له، فإن المتلقي يشعر وكأنه يمشي في حقل من الألغام.
من هنا فإن من البدهيّ أن يتعالق المكان بالحدث النضالي البطولي، وتشعر به وكأنه رديف أساس للمناضلين.
إضافة إلى البطل الرئيس، ظهرت شخوص كثيرة في النص، وبالرغم من كثرتها، إلا أنها لم تجسد أي تنوع في سلوكياتها، أو أي تنوع في رؤيتها للحدث الرئيس – المتمثل في الصراع مع العدو- فالشخوص التي ظهرت كلها شخوص مناضلة، واعية لما تقوم به من أفعال، وعلى مستوى واحد في تفعيل الأحداث... وربما كان هذا مأخذاً على السرد، الذي لم يتطرق إلى نوعيات أخرى من الشخوص، فعلى مدار العمل النضالي الذي ظهر في النص، لم يظهر عميل واحد للمحتل أو جاسوس... وهذا يتعارض مع الواقع والمرحلة التي عاشتها الثورة الفلسطينية، سواء أكان ذلك في داخل الوطن أم في خارجه.
ويبدو الزمان بشكل تتابعي على الأغلب، فهو يسير حسب الأحداث والمنحى التاريخي للأمام، إلى أنه يتوقف تماماً عند وصف المشاهد والأهوال، خصوصاً في قصف الاحتلال لمواقع المناضلين والناس الآمنين، وفي قتل الأطفال والشيوخ والنساء... ويتوقف الزمن عند وصف الشهادة، وقد يصبح استرجاعاً لماضٍ سلف، يدلل على حنين وشوق، ففي النص حالات من الاغتراب شديدة، تظهر في مواطن كثيرة، فمثلاً حين يتذكر البطل أمّه وهو في ألمانيا، ويقارن ثلج ميونخ بثلج بيت أمّر، وحين يتذكر حرب 1948 وسنة النكبة، ومشاهد من تاريخ شهيد القسطل عبد القادر الحسيني وحتى نضالات زوجته وجيهة الحسيني... إلخ
وإذا كان العنوان "فدائي عتيق" هو العتبة الأولى للولوج إلى النصّ، فإنّه في الوقت ذاته، هو العتبة الأخيرة للخروج منه والدخول إلى نصّ آخر، إذ نادى الأستاذ نبيل عمرو بأن من الضرورة أن يكتمل النصّ بجزء ثانٍ، ليصور الجزء الجديد البطل في الوطن بوضوح وتفصيل، وبأسلوب روائي، ويكون (فدائي عتيق) هو مدخل آخر لجزءٍ قادمٍ. وعلى أية حال، فقد ذُكِرَ العنوان "فدائي عتيق" بشكل صريح في صفحة 12، كما ذُكِرَ على سبيل اشتقاق المعنى (الآمال القديمة) صفحة 9، وفي كلا الحالين كان الفدائي العتيق، رمزاً للعزة، والتضحية والفداء، بحمله البندقية الحرّة الشريفة، لتحرير الوطن. إن هذا الفدائي كان استثنائياً يعيش على الكفاف، وشظف العيش، لا تهمّه الدنيا ولا كمالياتها، وهو مستعد لبيع حياته في سبيل الله والوطن والناس، لا تهمّه الذات بقدر ما يهمّه المحيط، تلك كانت الآمال القديمة، وهنا يشفّ العنوان عن القسيم الآخر للفدائي العتيق، وجلب النص مقارنة موضوعية بين ماضي الثورة، وحاضر أبنائها الحالي، لذا فقد شكل العنوان صراعاً بين سياقيْن مختلفيْن، بل متناقضين، من هنا فإن فدائي عتيق هو عنوان أو مفتتح لنصّ، وكأنه المبتدأ، والخبر يتمثل في النصّ بكل ما يحمل من مضامين ورسائل، أو كأنه خبر للنصّ، ومبتدأ لنصّ آخر، يمكن أن يرويه أحد أصدقاء (عبّاس الأقاليم) هذه المرة، وبقلم الكاتبة أسماء ناصر نفسها. ونرى على الغلاف أيضا صورة للبطل (عدنان عيّاش) وكأن ناجي العلي يرينا حنظلة، ويري حنظلة وجهه لفلسطين السهل والجبل( هذا ما قالته أسماء ناصر في مقابلة إذاعية)، إنها فكرة الشهيد يرث شهيداً آخر، فكما ورث الشهيد ربحي العزّوني حذاء شهيد مغربي قضى في الجولان السليب في حرب الأيام الستّة، ها هو الشهيد عدنان عيّاش يرث رؤية الشهيد ناجي العلي، وكأن الشهادة ممتدة وطويل طريقها، بل هي رواية بحد ذاتها، فقد احتفى النصّ بشهداء فلسطين الذين قدّموا أرواحهم في سبيل الوطن، فهم كثر... لكنهم باقون في الوعي والوجدان...
0 comments:
إرسال تعليق