جامعة هلسنكي
في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها عبد اللطيف (عبد حنونه) بن إبراهيم السراوي (هستري) الدنفي (١٩٠٤/١٩٠٣-١٩٩٥، من معمّري سامريّي حولون) بالعبرية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (ابن أخت زوجته، ١٩٤٤- )، الذي بدوره نقّحها، اعتنى بأُسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٦-١٢٤٧، ١٥ آب ٢٠١٧، ص. ٧١-٨٠. هذه الدورية التي تصدُر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الراهن؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدُر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة نسَمة، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”أبو فارس يصل جبل جريزيم قادمًا من يافا
لا، لا؛ إنّي لا أبحَث عن شُهرة إعلامية. دعْني أعيش حياتي بهدوء، حتّى في الثمانين من عمري، بجانب زوجتي المخلصة والمعتنية جدًّا بصحّتي صبورة (تسيپوراه). ماذا تقول، قصّة؟ هنالك في الطائفة قاصّون أفضل منّي، فلا تنِقّ عليّ (تُلحّ وتلحّ) لأحكي لك قصّة. خذيه عنّي يا صبوره؛ لا، لا، أُقعُد! لا تذهب، تريد أن تسمَع قصّة، إنّي آخرُ من يقول لك لا، أعِرني سَمْعك!
أنا لم أُولَد لأرويَ لك أساطيرَ وأصنافًا أُخرى من الخُزَعْبِلات. تجاوزتُ الثمانين من العمر في هذا العالَم، وتسنّى لي رؤيةُ أشياءَ لم ير أكثرَ منها من أبناء طائفتي سوى قلائل. ما أستطيع قولَه لك أنّ أيّامي الحُلْوة قليلةٌ جدّا، إذا ما قورنت بما عايشتُه من أيّام عسيرة في حياتي. يُمكنني إحصاء أيّامي السعيدة في حياتي، على أقلَّ من أصابع اليد الواحدة. هل ترغَب في التفاصيل؟ تفضّل!
بادىء ذي بَدْء، يوم اقتراني بصبوره ابنة المرحوم حُسني (يفت) صدقة، الذي احترمته أكثر من أيّ إنسان عرفته في العالَم، وكنت ممتنًا له على موافقته على هذا الزواج. يتلو ذلك يومُ ولادة بِكري رامي، ثم اليوم الذي فُتحت فيه الحدود في العام ١٩٦٧. ويُمكنني على الإصبع الرابعة ذكر يوم سعيد إضافيّ، ألا وهو يوم زواج ابني البكر رامي من مريم ابنة كمال (تميم) الحبيبة أكثر من كلّ ما عرفت من بنات. وإذا أمدّ الله في عمري ورزقني بحفيد أوّل فسيكون ذلك اليوم الخامسَ وترتفع الإصبع الخامسة.
وُفّقتَ في انتزاع ذلك منّي في آخر المطاف. أُقسِمُ أنّي لا أُطالبُ أحدًا بأيّ شيء، إنّي أودّ أن أعيش حياتي بهدوء. وما أريده أيضًا إجابةً على إلحاحك المتواصل هو سرْد إحدى القصص الرائجة في أوساط الطائفة حول إحدى الشخصيات الأكثر احترامًا وتبجيلًا؛ وأنا شخصيًا بجّلتها، وكنت آونتها ابن حوالي أربعة وعشربن عامًا عندما توفّاه الله عام ١٩٢٨، وانتقل إلى عالم كلّه خير، إنّه إبراهيم بن فرج (مرحيب) صدقة رحمة الله عليه، وقدِ ٱعتدنا مناداته بالكنية ”أبو فارس“ على اسم ابنه فارس (مرحيب)؛ وكان أبو فارس أيضًا جدَّ زوجتي من جهة أبيها.
ينبغي لي أن أحكي لك عن المرّة الأولى التي حظيتُ فيها بالتعرّف عليه. في تلك الأيّام سكنّا كلَّ الوقت في نابلس. كنّا نرى أبا فارس مرّة واحدة في السنة، في أيّام عيد الفسح على جبل جريزيم، حينما كان يأتي مع عائلته من مكان سكَنه في يافا. كان ينصِب خيمته على الجبل في مكان منفرد قليلًا عن باقي ساكني الخيام.
الجميع احترمه وبجّله، ذو لحية بيضاءَ طويلة متدلية. بالتأكيد لم يطرأ على بالي قطّ أن أجرؤَ على محادثته. كان شاعرًا حكيمًا جدّا؛ ضليعًا بكل معنى الكلمة في العبرية والآرامية، أبحر فيهما كالسمك في الماء. كان يخطّ رسائل ضافية لكبار السنّ والكهنة في نابلس. وحدث أنّ بعض مستلمي الرسائل كانوا ينتظرونه حتّى عيد الفسح ليطلبوا منه عند قدومه إلى الجبل، أن يقرأ مجدّدًا الرسالة التي أرسلها لهم ويشرح لهم مضمونها، إذ كانت لغة أبي فارس فصيحة جدّا.
في تلك الأيّام عاش أبو فارس في يافا مع زوجته وأولاده الثمانية، ستّة صُِبيان وبنتان، أمّا بقية أبناء الطائفة فكانت تسكن في نابلس برئاسة الكاهنين الأكبرين، يعقوب بن أهرون ثمّ إسحق بن عمران (عمرم). صلة متواترة ربطت أبا فارس بالطائفة النابلسية، كان يحضُر إلى جبل جريزيم في كلّ عيد فسح.
مدرسة وارن (Warren) العبرية
كلّ سامري كان يأتي من نابلس إلى مِنطقة يافا في غُضون السنة، كان يُعرّج على بيت أبي فارس، بيت واسع بحسب ما سمعتُ. أنا لم أحْظ أن أكون هناك. في ذلك الوقت، كان السفر من نابلس إلى يافا في عِداد الكماليات المشتهاة وتمخّض عنّه تبذير المال الذي افتقدته، بالرغم من أنّي كنتُ ابنَ أربعة وعشرين عاما وقتَ وفاة أبي فارس.
ولكن دَعْنا نعود إلى أيّام الطفولة والصِّبا، التي قضيتها بين أبناء الطائفة في نابلس، في بيت أبي إبراهيم الصغير المكتظ والمكوّن من غرفة كبيرة واحدة وحجيرة مدخل، في حارة الياسمينة القديمة في نابلس.
كنتُ أخرُج من هذا البيت كلَّ صباح بعد الصلاة وترويقة خفيفة إذا توفّرت، متوجّهًا إلى المدرسة التي أقامها الكاهن الأكبر يعقوب، بمساعدة المحْسن الأمريكي وارن، لتعلّم التوراة ومواضيع عامّة. ظلت تلك المدرسة قائمة حتى وفاة الكاهن الأكبر يعقوب. الحرب العالمية الأولى وموت الكاهن الأكبر يعقوب في نيسان ١٩١٦ أدّيا إلى إغلاق المدرسة، وحينذاك كنتُ ابنَ اثني عشر ربيعا.
هذه المدرسة الواقعة في دار قادري بنابلس، كانت مكوّنةً من بضع غرف وفيها ثلاثة صفوف، اثنان للذكور وواحد للإناث. لا تسألوني عمَّن كانت البنات، عليك أن تستفسر من المرحومة روزه. هل قد سألتها؟ حسنًا. أنا أقُصّ عليك عن صفَّي الصُّبيان، واحد للأطفال وآخر للفتيان. ولم يبق من صفّ الفتيان سوى حضرة الكاهن الأكبر يعقوب بن شفيق (عزّي)، أطال الله في عمره [كانت وفاته عام ١٩٨٧]، وهو حفيد الكاهن الأكبر يعقوب بن أهرون. وقد تعلّم مع يعقوب بن شفيق في صفّه أبناء عائلة الكهنة صدقة بن إسحق والأخوان واصف (آشر) وناجي (فنحاس) ابني توفيق (متسليح)، ومن عائلة الدنفي إسحق بن فياض (زبولن) وبدير بن عبد الله؛ ومن أسرة صدقة كان يوسف بن حسن (يفت) صدقة الذي انضمّ للألمان في الحرب العالمية الأولى ومنذ ذلك الوقت اختفت آثارُه.
معلّمو صفّ الفتيان كانوا الكاهن إبراهيم بن خضر (فنحاس)، معلم الصلاة والشعر الديني؛ معلّم عربي مسيحي اسمه حبيب علّم الحساب واللغتين الإنجليزية والعربية. وإن كنت تسمع كاهننا الأكبر يتكلّم الإنجليزية بطلاقة فهذا بفضل المعلم المسيحي حبيب. ويذكر أن أبرز تلميذ في صفّ الفتيان، كان بلا شكّ صدقة بن الكاهن إسحق الكاهن، رحمة الله عليه.
والآن ننتقل إلى صفّنا نحن الأطفال، حيث كان العدد بالطبع أكبر. أبناء أبي فارس لم يتعلّموا في نابلس بل في مدرسة في يافا، في مدرسة يهودية وليست عربية! حسنًا، المهمّ أن أحدّثك عمّن تعلم في صفّنا: الأخوان فهمي (ناڤون) ووجيه (يفونه) ابني عبد الرحيم السراوي (عِيڤِد هرحوم هستري)؛ عابد (عوڤاديه) بن حسن (يفت) صدقة، خليل بن فياض لطيف (أبراهام بن زبولن ألطيف)، توفيق بن صباح المفرجي (متسليح بن صفر مرحيب)، الأخوان صبري وإسماعيل (حِكْمت) ابنا إسماعيل السراوي (الستري)، مفرج بن رزق (مرحيب بن شت) وابن عمّه إبراهيم بن سعد المفرجي (سعد مرحيب، العبد (عيڤد حنونه) لطيف (ألطيف)، رجا (أب سكوه) بن عبد الله لطيف الدنفي وصبحي بن عبد الرحيم (عيڤد هرحوم) السراوي (هستري) الدنفي الذي مات من مرض عُضال في شبابه وكان أبرز طالب في صفّه. وأخيرًا أذكُر التلميذ المسيحي حنانيا ابن معلّمة صفّ البنات، وأنا بالطبع كنت في الصفّ ذاته. ولو نسيتُ ذكر هذه الحقيقة الأخيرة لانطلقت صيحاتُ والدتي الحاثّةُ وفيقةَ، سيّدة الأمّهات، وعصا الكاهن أبي الحسن (آب حسده) بن يعقوب لتذكّراني بالحقيقة.
نعم، معلِّمانا كانا الكاهنين أبو الحسن (أب حسده) بن يعقوب وعمران (عمرم) بن إسحق؛ الأوّل علَّمَنا الصلاة والشِّعر في الدفتر والثاني علّمَنَا قراءة التوراة. في صفّ البنات علّمت أُمّ حنانيا المسيحية الحساب والخياطة بماكينات، زوّدها وارن للمدرسة بواسطة ممثّليه في البلاد، جون وايتنچ، نائب القنصل الأمريكي في القدس والأخ المسيحي وِب (Web) في نابلس. والكاهن عمران علّم البنات العبرية القديمة والقراءة في التوراة. والجدير بالذكر أنّ بدوية (بدويه) زوجة الكاهن أبي الحسن تقرأ حتّى يومنا هذا في التوراة مثلها مثل أحد الأبناء.
الكاهن الأكبر يعقوب بن أهرون مدير المدرسة العبرية
هذا الكاهن لم يُعلّمْنا، لكنه عمل في مراقبة برنامج التعليم؛ كان يتنقّل من صفّ لآخرَ. طويل القامة، ذو جلال ورهبة؛ يتكىء على عصاه ويمشي الهُوَيْنا، يتفرّس في المعلمين والتلاميذ على حدّ سواء بنظرة صارمة. وإذا أخطأ أحد التلاميذ، وكم بالحري أحد المعلّمين، لم يسلم من عصاه أحد؛ كلاهما نال قدْرًا كبيرًا من الضرب بعصاه الطويلة. وإجمالًا كلّنا أحببناه وبنفس القدْر الكبير كنا نهابه.
كان يحضُر إلى المدرسة مرّة كلّ بضعة أشهر، أحد ممثّلي وارن ليتفقّد حاجيات المدرسة، وليراقب نشاط المدرسة كي يقدّم تقريرًا للمحسن وارن، الذي عُرف بأهميته الكبيرة في أمريكا آنذاك. أذكُر أنّه حضر وارن ذات مرّة بلحمه وشحمه، على رأس وفد كبير، وهكذا أصِل إلى قصّة تعرّفي لأوّل مرّة على إبراهيم بن مفرج (مرحيب) صدقة، وهو عُنوان القصّة، أبو فارس.
استقبال المحسِن وارن
ماذا أقول لك؟ نعم، أبو فارس لم يكن شاعرًا فحسب بل ومرتّلًا أيضا. أنتَ تعلم أنّ معظم الأشياء التي يتشرّبها الإنسان في طفولته وصباه تُحفر في ذاكرته حتّى نهاية حياته ولا تخبو. إنّي أذكرُه واقفًا في ركن مذبح الصلاة بجانب قدس الأقداس في الكنيس، ويرتّل أشعارًا على مسامع الطائفة. وفي بعض الأحيان كانت تلك أشعارًا طويلة من نظمه.
وفي نابلس، عرف أبناء الطائفة أنّه عند حضور أبي فارس لمناسبة يوم السبت أو عيد ما، فمعنى ذلك أنه سيتلو أحد الأشعار أو كلّها في تلك المناسبة. أذكر أنّه كان يُطيل في الأناشيد، وحدث ذات مرّة، عندما كان الوسيط الرئيسي في صلحة كبيرة في السنوات الأولى لكهانة الكاهن الأكبر إسحق بن عمران، أقاموا حفلة كبيرة في بيت المسنّ عبد الله بن مرجان (أب سكوه) لطيف الدنفي. أبو فارس كان نجمَ الصلْحة، نظم بعض القصائد، وكرّس كلًّا منها لأحد الخصوم الكُثر. أذكر أنّنا نحن الأطفال والفتيان، قد طُردنا من مكان الصلحة، ولكننا اختبأنا بجوار المكان، وسمعنا كلّ الأشعار التي نظمها وألقاها أبو فارس، حتّى ساعات الصباح، إلى أنّ بعض المجتمعين أخذوا يتساءلون بصوت عالٍ سمعناه، هل أبو فارس نظم الأشعار من أجل الصلحة أم أنّ الصلحة من أجل الأشعار.
لنعُد إلى الوراء، لحادثة تعرّفي الأولى على شخصية أبي فارس، وإلى أيّام مدرسة وارن. بأمرٍ من الكاهن الأكبر يعقوب بن أهرون، انشغلت الطائفة برُمّتها بالتحضيرات لزيارة المحسن الأمريكي الأولى والأخيرة، وهو الذي موّل المدرسة بكامل صفوفها ومعلّميها. وتلك التحضيرات أضفَت جوَّ عيد كبير، يوم زيارة أبرز مُحسن ساعد السامريين في بداية القرن العشرين.
لم يكتفِ الكاهن الأكبر يعقوب بأن يقوم وارن بزيارة للصفوف، وحضوره بعض الحصص. إنّه فكّر أو ربّما جاءته الفكرة من زيارته للقدس، وهي إقامة جوقة من الفتيان لاستقبال الضيف وارن بالغناء والزهور. وعلى من ألقى الكاهن الأكبرُ مهمّةَ نظْم الشعر، على أبي فارس بالطبع، لا غيره. وحقًّا جلس هذا الرجل الحكيم ابن الواحدة والخمسين سنة في بيته في يافا، ونظم قصائدَ وخطاباتٍ لاستقبال المحسن المعروف.
الكاهن الأكبر نظّمَنا، كلّ تلاميذ الصفوف الثلاثة، صفّ الفتيان وصفّ الأطفال وصفّ البنات، في صفّين. وقمنا في خلال بضعة أيّام بحفظ القصيدة التي نظمها أبو فارس. وصل وارن إلى المدرسة ومعه زوجته وابنه تشمبرلين ومساعداه وايتنچ ووليام بارطون، وممثلاه في فلسطين. الانفعال كان سيّدَ الموقف؛ وارن ببَدْلته البيضاء وعلى رأسه قُبّعة كبيرة واسعة الحافات؛ سار بمعيّة الكاهن الأكبر يعقوب ببطىء بين صفّي التلاميذ، ونحن أنشدنا له قصيدة أبي فارس الطويلة، والذي وقف مقابلَنا وتتّبعنا لئلّا نُخطىء، لا سمح الله.
وكذلك معلِّمُنا، الكاهن أبو الحسن بن يعقوب، كان واقفًا بالمرصاد. دُوّنت قصيدة أبو فارس بخطّ يد الكاهن على لِفافة كبيرة مزيّنة، وكانت ستُقدّم هدية للمحسن وارن. وهكذا وقفنا وأنشدنا بيتًا بعد بيت وبينها القرار. إنّي ما زلتُ أتذكّر حتّى هذا اليوم كلّ القصيدة، وأعرف يقينًا القرار والأبيات الأولى؛ كتب أبو فارس القصيدة بلحن معروف في الأعراس.
إسمح لي لأنشدَ لك:
القرار كان كالتالي:
الأمر من الله صدر
والفرح خيّم على بني عيبر
بواسطة الرجل الموقّر
الذي أعدّه الله للخير
ثم ورد البيت الأوّل:
إسمه وارن، جمع أناسًا ذوي بهاء فائض
وكان غيورًا على نسل لاوي ويوسف
المسمّى بجماعة يعقوب
لستܽ بحاجة لأصف لك مدى انفعال وارن، من المكانة ومن الحقيقة، بأنّ السامريين يستخدمون كلّ دولار دفعه وارن خيرَ استخدام لمصلحة مدرستنا. وكذلك لا حاجة لي أن أذكر لك، بأنّ ذلك الرجل الكبير أراد أن يساعدنا. ولمعرفة ذلك بجلاء، تكفي قراءة ما خطّه أبو فارس عنه. مع هذا، بوسعي أن أقول لك فقط، أنّ إنشادَنا لقصيدة أبي فارس أمامَ وارن، قد ساهم أكثرَ من أيّ شيء آخرَ لإنجاح الزيارة، وكانت تلك المناسبة الأولى لتعرّفي على هذه الشخصية.
ألصُلْحة الكبيرة
ولكن قبل أن أسرُد عليك قصّة طرده لروح شرّيرة، كانت في جسم شاب يافاوي، بودّي أن أعود وأقُصّ عليك عن ”الصلحة“ الكبيرة، التي كان نجمَها، وفيها طرد روحًا شرّيرة من قلوب سامريين كُثر، كانوا متورّطين في شجار وخصام بسبب ما قد يؤدّي اليوم أيضا إلى نشوب معاركَ في طائفتنا.
بعد موت الكاهن الأكبر يعقوب بن أهرون، في نيسان ١٩١٦، خلفه في الكهانة الكبرى إسحق بن عمران (عمرم). ويذكر أن الكاهن يعقوب، كان شمّاس الكنيس حتّى مماته، وقام بجميع مهامّ الشماسة لوحده، ولم يُعط أيّ دور لا لأبنائه ولا لأبناء أعمامه. بعد وفاة يعقوب نشِب خلاف كبير بين الكهنة، حول مُهمّة الشماسة، إذ أنّ الكاهن الأكبر الجديد إسحق بن عمران، بالرغم من حكمته الكبيرة وفطنته الجمّة، لم يرغَب في القيام بعمل الشمّاس.
انضمّ لذلك الخلاف الكبير مؤيّدو الكهنة؛ لم يبق سامريّ إلّا وكان له ضلع في ذلك، ولذلك وجب تدخّل شخص من الخارج للتوسّط بينهم. وكان أبو فارس الساكن في يافا، أنسبَ شخص لتولّي تلك المهمّة. جمع أبو فارس كلّ الأطراف، طرد الروح الشرّيرة من قلوبهم بحلوّ الكلام، ونظم أيضًا أشعارًا أُلقيت في ”الصلحة“. الكاهن توفيق (متسليح) بن خضر (فنحاس) كان الشمّاس الرئيسي، وساعده الكاهنان أبو الحسن (أب حسده) بن يعقوب وإبراهيم بن خضر (فنحاس).
أبو فارس المعروف في يافا
”ما هذا، مضت ثلاث ساعات منذ أن بدأتَ باعتصار القِصص منّي عن شخصية أبي فارس؟ ”أُنظر، إنّي أحكي لك عن أبي فارس طارد الروح الشريرة، ولكن بسبب التعب الذي أخذ يظهر عليّ، وها زوجتي صبوراه (تسيپوره) عزيزتي، حبيبتي تتباطأ في مطبخها، ولم يصمُد صبري بوجه إلحاحك وإصرارك، وعليه سأقُصّ عليك أخيرًا هذه القصّة.
يا صبوراه، هاتي بعض التضييفات والشراب لي ولابن أُختك، إذ بسبب إسهابنا في الحديث عن أبي فارس لم نشعُر كيف انتفى كلّ الكم الكبير، ممّا لذّ وطاب على المائدة - هذه هي الحال، أنا أروي وهو يأكل، هنيئًا مريئا. حسنًا، عمّا كنّا نتحدّث وأين وصلنا؟ أي نعم، مهمّة أبي فارس المركزية في الصلحة الكبيرة، وفيها وُزّعت مهام الشماسة في الكنيس في نابلس- لعمري لا أفهم أولائك الذين اشتركوا في الخلاف الكبير. عمّا كان الخلاف، على وجه الإجمال؟ تعلمُ أنّهم لم يُشعلوا نورًا في الكنيس القديم في نابلس، إلّا في بداية ثلاثينات القرن العشرين، وهكذا كانت الصلوات الرئيسية في السبوت والأعياد والمناسبات الدينية الأخرى، تتِمّ في معظمها في ظلام تامّ تقريبًا، وبصوت منخفض منعًا لإغاظة جيراننا المسلمين.
وإن تسألني أنا وكثيرين من مجايليّ عن الخلاف السخيف هذا، فلا تجِد أحدًا منهم كان يتخاصم من أجل الحصول على مكان مركزي في الصلاة في الكنيس، في حين أنّ لا أحد من المصلّين يراه بسبب الظلمة. ما كان من الممكن القول ”شوفوني يا ناس“ للمباهاة، إذ حقًّا لم ير أحدٌ الآخرَ وقتَ الصلاة، وكنّا نتعرّف على المصلّين من أصواتهم.
هذه هي طبيعة البشر، يريدون أكثر دائمًا، وقلائلُ يكتفون بما لديهم. اليوم، يتقاضى المرنّمون راتبًا من وزارة الأديان، ولكن آنذاك كلّ المرنمين الذين عرفتهم كهنة وعاديين، انبحّت أصواتهم ولم يفكّر أحد بأنّهم قد يستحقّون أجرًا ما.
أجل، الحياة لا تعني المال فقط، إنّها بالأساس شرف. عدد غير قليل من الكهنة اعتبر الترنيم شرفًا كبيرا، ولذلك نشِب الخلاف الكبير الذي تمكّن أبو فارس بشخصيته القويّة من وضع نهاية طيّبة له.
الروح الشرّيرة دخلت ابنَ أبي محمود
تتناول القصّة الأخيرة أبا فارس وهو في يافا، حيث جرت له حوادثُ كثيرة وجميلة، ولبعضها صلة بالعجائب. أختار من القصص الكثيرة واحدةً تعكِس بشكل نموذجي حكمةَ أبي فارس العظيمةَ، وهي مَثل لطرد الروح الشريرة. كلّ جيران أبي فارس وروّاد السوق في يافا احترموه، كما احترمهم هو، ولم يستخفّ بأحد عربيًا كان أم يهوديا، وكانت له حانوت كبيرة في السوق لبيع الأقمشة. نقرأ الآن في أشعاره عكس ذلك ولكن ذلك خاصّ بالناحية الدينية.
على أرض الواقع، هو احترم كلَّ إنسان، وكثيرون احترموه بالرغم من كونه غير مسلم، احترمه جدًّا مسلمو يافا الذين كوّنوا كلّ سكان المدينة تقريبا، وذلك لورعه الشديد بتقاليده ودينه. كان جيرانه يستمعون لصوته العذب عند صلاته في الصباح الباكر. ولم يذهب إلى حانوته إلا بعد أن يكون قد علّم أبناءه ما تيسّرمن التوراة ومن الأشعار الدينية.
حوادثُ عجيبة متنوّعة حدثت له، جعلته شخصًا شهيرًا ذا أعاجيبَ بأعيُن أهل يافا. في كل يوم تقريبًا كان من يطرُق بابَ منزل أبي فارس طالبًا مساعدته ونصيحته في أيّة قضية كانت. ولم يبخُل أبو فارس بنصيحته الحسنة على أحد، لأنّه كان يتسلّم مقابل ذلك أجرًا جيّدا. وفي بعض الأحيان، كان أبو فارس بنفسه يُحدّد مِقْدار أجر أتعابه كما سنري في هذه القصّة.
ذات مرّة، طرق وجيه عربيٌّ، كان يسكُن بجوار أبي فارس، بابَ بيته طالبًا مساعدته. لن أُفصح عن اسم الرجل، ولكن القصّة معروفة. دعْنا هنا نطلِق عليه في القصّة الاسم أبا محمود. بعد الانتهاء من مراسم الضيافة الشرقية، عرض أبو محمود على مسامع أبي فارس، قضية حزينةً حدثت لابنه الوحيد. روى أبو محمود أنّ روحًا شرّيرة، روح جنون، قد دخلت مؤخّرًا جسم ابنه الوحيد، الغالي جدًّا عليه وعلى زوجته؛ جُنّ لدرجة وجوب حبسه في إحدى غرف المنزل، خوفًا على سلامة الناس. أبو محمود لا يعلَم ماذا حصل لابنه على حين غِرّة. كلّ شيء قبل ذلك كان على أحسن حال، وكان محمود على وشك الزواج، وبدأت التحضيرات للعرس، لزواجه من ابنة عمّه الجميلة والطيّبة جدّا، وفجأة في صباح ما، كان سيكون آخرَ صباحه في العزوبية، لم يأتِ محمود لوجبة الفطور، بالرغم من دعوة أبيه له مرارًا وتكرارا؛ وأخيرًا، قام أبو محمود وراح إلى غرفة محمود لإيقاظه من نومه العميق.
المتظاهر بالمرض
فوجىء أبو محمود وذُهل جدًّا، إذ وجد ابنه عُريانًا كحاله يوم ولادته، ممدًّدا علـى سريره، مطلقًا تأوّهاتٍ وأصواتًا غريبة، واللعاب يسيل من فيه. يبدو أنّه لم يعرِف أنّ محدّثَه هو أبوه، بل روح شرّيرة دخلت فيه. تغيّرت حالته من سيّء إلى أسوأ في كلّ يوم، فاضطرّ أبو محمود إلى أن يكبّل ابنه بقيود، ربطها بقضبان حديد نافذة غرفته، وبالطبع بطَل الحديث عن العرس وأُلغيت كلّ الشروط.
لعلّ أبا فارس يستطيع أن يساعد الوالدين المسكينين، وربّما بنصيحته الحسنة، يُعيد روح ابنه الحبيب الطيّبة لجسمه، كي يسلُكَ كباقي البشر. إبنهما الوحيد، ولا أعزّ لهما منه في الدنيا. بكى أبو محمود وهو يقصّ القصّة، وما كان من أبي فارس إلّا أن هدأّه بكلماتٍ همسها في أذنه، وبتربيتات على كَتِفه.
استجاب أبو فارس لطلب أبي محمود، وذهب معه إلى بيته. طلب أبو فارس من الوالد أن يجلِس مع الشاب على انفراد، بدون أيّ إزعاج من أحد وقت الحديث معه. دخل الغرفة، وجد الشاب مُكبّلًا بقيود وملقىً في رُكن الغرفة. عند دخوله أخذ الشاب يُصدِر أصواتًا وتأوّهاتٍ كما روى أبوه. حدّق أبو فارس بالشاب دون أن ينبِس ببنت شفة لوقت طويل، إلى أن بدأ الشاب بتفحّص أبي فارس بعينيه الوجِلَتين متتبّعًا إيّاه.
الآن، حان دور أبو فارس للنظر بعينيه الثاقبتين إلى أعماق نظرة الشاب محمود، الذي لم يصمُد أكثر فخفض عينيه متأثّرًا بضغط نظرة أبو فارس.
”يا محمود! لماذا تتصرّف بجُنون وإنّي أعلم بجلاء من نظرة عينيك بأنّك براءٌ منه، وهناك من وراء سَحْنتك وسلوكك تكمُن قضية حبّ، لا تخَف منّي، تستطيع أن تحكي لي كلَّ شيء وسأُساعدُك“ قال أبو فارس.
أبو فارس ضيفُ الشرف في العُرس
كان صوت أبي فارس العذبُ جدًّا، قد أثار الانفعال الشديدَ لدى محمود، وقبل أن أنهى أبو فارس كلامه، أخذ محمود يبكي بصوت عالٍ. وبين انفجار دموع واحد لاخرَ، بسَط محمود بصوت متقطّع على مسامع أبي فارس، سببَ جنونه الوهمي. ينوي والداه تزويجه قسْرًا من ابنة عمّه، ولكنّه يحِبّ بنتًا أخرى، لا تقِلّ جمالًا منها، ولكنّه يخشى من معارضة والديه؛ لذلك ارتأى أن يسلُك هذه الطريقة، لم يرَ أيّة إمكانية أُخرى.
هدّأه أبو فارس بقوله ”لا تهتمّ، كلّ شيء سيكون على ما يُرام؛ ابنة عمّك قد زُوّجت لآخرَ، إنّي سأُساعدُك“. خرج أبو فارس من الغرفة إلى الوالدين القلقين. طلب منهما مقابلَ نصيحته قَرْعة كبيرة وعشرين ليرة من الذهب لإرضاء الروح الشرّيرة التي ولَجت جسدَ محمود.
سُرعان ما لبّى أبو محمود طلب أبي فارس؛ خبّأ الأخير النقود في حُضنه ودخل غرفة الشاب من جديد؛ وبعد وقت قصير خرج الاثنان؛ تبسّم محمود نحوَ أبيه وأُمّه السعيدين واستماحهما عُذْرا؛ شكرهما لأنّهما عرفا اختيار الرجل المناسب لطرد الروح الشريرة من قلبه.
”كيلا تعود الروح الشرّيرة ، يجب تزويج محمود في الحال“، قال أبو فارس مخاطبًا والدَي الشاب، وأضاف قائلا ”وأعلم بوضوح من هي الصبية الملائمة له“ وأفصح عن اسمها، الذي ذكره له محمود وهما وحيدان في الغرفة. أجابه الأب والأمّ ”سنحترم رغبتَك يا سيّدي المبجّل ونتواصل بوالديها غدا“.
قصّة الأعجوبة هذه انتشرت، ورفرفت في جميع أنحاء يافا. الجميع جاء لحضور عُرس محمود؛ وبالطبع ضيف الشرف كان أبو فارس، الذي تمكّن من تسليم زوجته قمر (يرحه) القرعة الضخمةَ، لتحضّر منها طعامًا شهيًّا مُسَكَّرًا لعيد العُرْش“.
0 comments:
إرسال تعليق