وصفت شخصيات يهودية عديدة قرار بيني چانتس بشق حزب "كاحول لافان" وبالانضمام، مع حليفة جابي اشكنازي، الى معسكر بنيامين نتنياهو، بالخيانة العظمى؛ وذلك في لحظة تاريخية فريدة فرّط فيها جانتس بجبهة مكونّة من واحد وستين نائبًا في الكنيست الجديدة، كاد تماسكها، لو بقي رغم هشاشته التي نعرفها، أن يفضي إلى فتح كوّة ضيقة في جبهة الفاشية الزاحفة بجنون نحو جميع مراكز السلطة ومؤسسات الدولة جمعاء.
لم يشعر قادة القائمة المشتركة ومصوتوها، بطبيعة الحال، بنفس مشاعر الخيانة نحوهم، فلقد أوصوا على جانتس، عند رئيس الدولة، رغم كونه اختيارًا سيئًا ولعلمهم بأن امتناعهم عن التوصية عليه يعادل فعليًا دعمهم، عند رئيس الدولة، لترشيح نتنياهو؛ وهو، في حالتنا، كان الامكانية المستحيلة والاختيار الأسوأ.
من أراد التخلص من معسكر نتنياهو وسعى يفتش عن غانتس وحزبه كبديل سياسي جديد، شعر بالخيانة؛ ومن اختار، كالقائمة المشتركة، غانتس وكاحول لافان، كجسر من قش، لم يشعر بالخيانه، بل بالصدمة وبخيية لآماله التي بنيت من خلال علاقات حتمتها الظروف السياسية القائمة ومصالح الطرفين الحزبية؛ وصاغها، الى جانب غانتس، شركاؤه في الحزب الذين طُعنوا في ظهورهم، كما صرحوا بانفسهم.
بين مشاعر الخيانة والشعور بالخيبة فوارق شاسعة لا تعكس تباين التوقعات بين مركبات تلك التحالفات الملتبسة وحسب؛ بل تكشف، وهو الاهم، عن وجود طاقات ايجابية دفينة قد يكون لها تبعات سياسية في المستقبل، اذا احسنّا فهمها والوصول اليها واستقطابها نحونا.
كثيرون من المواطنين اليهود شعروا بخيانة غانتس لاحلامهم لأنهم كانوا يتمنون، في الواقع، اسقاط معسكر نتنياهو؛ وفتشوا، من خلال تصويتهم للمعسكر الآخر، الذي اشتمل على القائمة المشتركة، عن بديل سياسي جديد وجدي.
كانت هذه لحظة تلاقت فيها المقاصد، وتشابكت، عن قصد أو بدون قصد، بشكل عملي، أماني من رغبوا في نجاح معسكر من اليهود نادى: "فقط ليس نتنياهو"، وبين شعارنا، نحن المواطنين العرب، وسعينا من اجل اسقاط حكم اليمين.
فنتائج الانتخابات الاسرائيلية الأخيرة كشفت عن حدوث تغييرات جذرية مقلقة داخل المجتمع اليهودي، وعن وجود طاقات مبشرة داخل المجتمع العربي، لن نخطيء اذا اعتبرنا تلك التغييرات شهادة وفاة لعهد سياسي حزبي بدأ مع قيام الدولة وتطور عبر محطات عديدة، كانت اهمها احداث عام 1977؛ التي عرفت بسنة الانقلاب؛ حين استولى فيها مناحيم بيغين وحزبه، الليكود، لأول مرة منذ ١٩٤٨، على مقاليد الحكم، فوضع عربة النار على سكتها فانطلقت واحرقت ما احرقت في طريقها حتى وصلت الى محطتها الحالية.
لم اوافق ولا اوافق اليوم مع من فرحوا بسبب القضاء الفعلي على بقايا اليسار الصهيوني، كما كان يسمي نفسه، ولا مع من يذكرونا، بنشوة، بأننا كنا نفتش عن قوى يهودية سرابية غير موجودة بالاصل؛ فخلوّ الخارطة الحزبية الاسرائيلية من قوى سياسية تدّعي اليسارية، حتى لو انها لم تجسّد، في أغلب الأحيان، مفاهيم ذلك اليسار السياسي الحقيقي، ينذرنا بالوصول الى خط النهاية وبولادة مجتمع يخزن في داخله قوة تدمير وبطش لا تعرف الحدود ولا الروادع.
لم تكن جميع نتائج الانتخابات سلبية كما ذكرنا؛ فردة فعل المجتمعات العربية كشفت عن نضوجها السياسي، وبرهنت على تحلّيها بمسؤولية عالية وجاهزية لمواجهة المخاطر الجسيمة المحدثة بمصيرنا.
بالمقابل، شكّلت "هذه" القائمة المشتركة عنوانًا سياسيًا لاولئك المواطنين، وتحوّلت، في نفس الوقت،الى ملجأ شرعي وآمن لآلاف من المصوتين اليهود الذين رأوا فيها، لأول مرة، موئلًا لتطلعاتهم السياسية وبيتًا اجتماعيًا مقبولا.
نحن نشهد، اذن، على بدايات تحولات في بعض المفاهيم التقليدية وفي البنيان العاطفي الذي نشأت عليه الاجيال المتعاقبة داخل المجتمع الصهيوني. ومن يلاحق أولئك الذين صوتوا للقائمة المشتركة ويسمع قصصهم سيكتشف انهم تغيروا نفسيًا؛ وذلك بعد اسقاطهم لبعض الموانع التي صقلت مفاهيمهم الصهيونية نحو العرب المُخرجين لديهم من نطاقات الانسانية والشرعية؛ حيث كان مجرد التفكير في التصويت لقوائمهم محرّمًا، والاصطفاف معهم في نفس الخندق السياسي يعتبر خيانة لا يقدم عليها يهودي صهيوني يحب شعبه ودولته وعائلته.
فمن صوّت للقائمة المشتركة أعلن معارضته الفعلية لمظاهر التغوّل السياسي الحاصل عند معظم الحركات والاحزاب السياسية الدينية والصهيونية الحاكمة وفرضهم لقوانينهم الدينية والابرتهادية على المجتمع برمته؛ واعلن كذلك رفضه لمظاهر الفساد السلطوي الذي وصل الى درك خطير ورفضه لممارسات الحكومة القعمية، وليس ضد العرب وحسب.
لقد تنبه قادة القائمة المشتركة الى ضرورة تحوّلهم الى حاضنة سياسية تستوعب مصوتيها العرب، وتستقطب كذلك جموع التائهين اليهود بالرغم من تعريفهم لانفسهم كصهاينة وديموقراطيين. ومن سبيل ذلك تبنت القائمة خطابًا سياسيًا جديدًا - وضح بشكل خاص في حالة النائب ايمن عودة - كان مبنيًا على الصدق وعلى الواقعية ومستشرفًا للأمل ولا يهادن في الحق، لكنه لا يصنّع الخوف والتخويف ولا يحترف العبثية؛ خطابا كان كفيلًا باقناع آلاف اليهود التائهين بان مستقبلهم مع هذه القائمة، وبأنها محط ثقة لآمالهم ووسيلة لانقاذهم من اليأس ومن الضياع؛ وقد نكون في حضرة واقع جديد في اسرائيل حيث لا يسار فيه ولا يمين ولا وفاق يهودي حول معنى واحد للصهيونية.
قرار آلاف اليهود الصهاينة بدعم القائمة المشتركة من جهة ودعم مئات الآلاف لحزب كاحول لافان، على الرغم من تفاهماته مع القائمة المشتركة، من جهة ثانية، يثبتان ان نواة التغيير موجودة داخل المجتمع الصهيوني اليهودي وان كثيرين منهم مستعدون أن ينضموا الى "حزبي" وان يقفوا "معي" ضد الاحتلال الاسرائيلي وان يدعموا مطالبي في المساواة الكاملة داخل دولة تحترم جميع مواطنيها وتؤمن بالشراكة الحقيقية بين أكثرية لا يجوز لها ان تمارس قمعها ضد اقلية لا تقبل ان تبقى الضحية.
رغم خشيتي من المستقبل، أشعر بوجود فرصة مؤاتية للعمل السياسي المختلف والذي يجب ان يطرق أبوابًا جديدة ويعتمد خطابا جديدا ويستشرف عتبات عالية لكنها ضرورية.
لن يحصل هذا الا اذا اقررنا بحدوث انقلاب ايجابي خطير في الخارطة السياسية الحزبية في بعض البنى النفسية والاجتماعية اليهودية.
اعرف ان هنالك فوارق كبيرة في مواقف الفرقاء حول مسألة التعاون السياسي مع القوى اليهودية التي تعرّف نفسها كصهيونية؛ فمنعًا من تحول هذه الجزئية الى عامل في تصديع بناء القائمة، سيكون من الطبيعي ان تتولى الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواه مهمة بناء تصور سياسي جديد قد يفضي الى اقامة اطر اجتماعية وسياسية تجمع تحت سقوفها النشطاء الجبهوين والوافدين اليهود الجدد الذين بدأوا بتذويت اهمية وجود هذا النمط من العمل كوسيلة للوصول الى مستقبلهم المشترك الآمن.
ان المهمات المنوطة بالقائمة المشتركة جسيمة والمسؤولية الملقاة على عاتق الجبهة الديمقراطية، في مسألة تطوير العلاقات السياسية داخل المجتمع اليهودي، مصيرية، وجميع هذه المهام لن تتحقق الا اذا تكاملت الرؤى بين الكل/ القائمة المشتركة، وبين مركباتها من الأحزاب والحركات.
سيترك ما سيحدث لنا في الاشهر القريبة آثاره علينا وعلى اولادنا؛ ولن يكون ذلك مقصورًا على تحركات القائمة المشتركة وعلى ادائها فحسب، بل سيتعلق ايضًا بما سيجري داخل سائر مؤسساتنا القيادية، وخاصة داخل لجنة المتابعة العليا؛ لا سيما بعد ان اعلن رئيسها، محمد بركة، انه لن يترشح لمنصبه بعد انتهاء مدة ولايته الحالية في شهر اكتوبر القادم.
يتبع ..
0 comments:
إرسال تعليق