الشيخة بهية/ محمود شباط

 


الشيخة بهية سيدة القصر المنيف وسيدة البلدة وما جاورها، حباها الله بجمالٍ قل نظيره، وبحصافة رأي وصلابة كيان أهَّـلاها للفصل في مشاكل أهل بلدة عين الحور، وكرمٍ حاتمي ينعم به كل محتاج، فحازت على محبة وتقدير واحترام أهل البلدة والمنطقة، وفوزها لفترتين متتاليتين بمنصب رئيس المجلس البلدي بالتزكية، وكذلك لترؤس اتحاد بلديات القضاء.

بينما كان بعلها الشيخ نجيب يغط في قيلولة العصر كانت الشيخة بمفردها أمام النافذة، تجول بناظريها الجميلين على الدرج الحجري العريض المفضي إلى بوابة القصر، فالطريق العام، ثم تمسح جنة الأشجار المثمرة وساقية المياه التي تعبر أسفل القصر وروضاته الغناء.

انتقلت إلى الجهة الغربية من القصر فلاح لها من البعيد غروب نصف قرص الشمس الأحمر خلف الجبال، وعليه صورة سلفتها مليحة الحامل في شهرها السادس تدير راحتها ببطء وغنج على بطنها المكور.

لم يكن ينقص الشيخة بهية بعد عشرين سنة من زواجها من زوج تحبه ويحبها سوى  طفل أو طفلة، من جانب كي تشبع فطرة الأمومة ومن جانب آخر، وقد يكون بذات الأهمية أو أكثر، كي تثبت، يوما ما، لسلفتها بأنها هي أيضا بشرية مكتملة الكيان.

لو كانت الأقدار المكتوبة كالكلمات المكتوبة لسعت الشيخة بكل ما أوتيت لمحو ما سوف يحدث لها في يوم أسود قاتم حين وردها دعوة لها ولزوجها من قائممقام القضاء لتكريمها في فندق محترم على حسن أدائها وقيادتها للمجلس البلدي. 

قبيل اللحظات الأخيرة من أثناء الوليمة اتجه القائممقام مترنحا نحو الشيخة بكشف يتضمن المبالغ التي يقترحها لكل بلدية، وقف لبرهة يحدثها منحنيا فأحست سيدة مسنة بالحرج لوضعه وقدمت له كرسيها.

يبدو بأن اقتراب القائممقام من الشيخة أكثر مما أوقعها في حرج،أبعدت كرسيها قليلاً، استمر القائممقام، في محادثتها فكانت ترد بابتسامة حيية سريعة خاطفة، أو بهزة رأس، ثم تميل نحو زوجها المنزعج جدا، تهدئه وشوشة وتضيف ما في طبقها إلى طبقه. 

سألها القائممقام بلسان بالكاد يمون عليه عن عدد أولادها، ردّت الكأس إلى الطاولة بامتعاض، أجلت رشفة كانت على وشك ابتلاعها ثم تذكرت سخاءه في تمويل البلديات، بلعت ريقها وردت بغصة بصوت منخفض: "ألله ما طعم". كان حينها قد ثمل وزاد في ثمله، قرب يده من يدها فأبعدتها وبدلت مقعدها بآخر.

حاجة البلدية للقائمقامية حتمت على الشيخة بهية تجاوز ما اعتبرته هلوست ثمل، خفضت اتصالاتها الهاتفية به، واتصالاتها به إلى الحد الأدنى، شعر بامتعاضها، بدوره أقفل حنفية التمويل إلى حدها الأدنى.

اتصل مرارا ولم ترد، جاءتها منه رسالة نصية يدعوها فيها لشراكة لشراء نزل صغير في العاصمة يرغب صاحبه في بيعه بداعي السفر، ويدرُّ مبلغا محترماً من المال، زانت الفكرة، بدت لها بأنه يريد أن يعمر ما تدمر من ثقتها به، هي بحاجة ماسة كي تبقي على منح التعليم وقروض الإسكان للمحتاجين، استشارت الشيخ الذي تفهم الموقف، وأحاطت القائممقام علما بموافقتها فقال لها بأنه حجز لهما مبيتا في الفندق كي ترى بأم عينها ازدهار الحركة. وبأن صاحب الفندق سوف يولم على شرفها وشرف الشيخ.

قبيل انتهائهم من المائدة العامرة بأشهى المأكولات والمشروبات، اكفهر وجه الشيخ كما يفعل حين يرتاب أو يتوجس شراً، كان قد بدأ يشعر بخدر ونعاس عرف سببهما ولكن لسانه لا يطاوعه للتعبير. أشار صاحب الفندق على اثنين من موظفي الفندق أن يساعدا الشيخ في الوصول إلى الغرفة رقم 101، لمحته الشيخة بعينين زائغتين يبتعد مستندا إلى الشابين، تحت تأثير خدرها هي أيضاً، وزوغانها بدأت تهذي بكلمات غير مفهومة، لم تستطع تفسير كل ما يجري حولها، إنما لم يفتها بعضه، عادت صورة سلفتها ببطنها المكور تلوح على شبكية عينيها، وقفت مترنحة واتكأت على كتف القائمقمام، أشارت عليه السير باتجاه الغرفة رقم 102 وهي تهمس ببطء وبأحرف متقطعة: سوف ترى بنت الشويكي بأني لست عاقراً.

ضبابية وعيها لم تتح لها أن تدرك في حينه بأنها كانت في طريقها إلى ارتكاب غلطة العمر التي مشت برجليها إليها، و إلى مسلسل ابتزاز ما انتهى إلا بانتهائها قبل أن ترى عيناها ثمرة تينع في أحشائها، ويتسنى لها لملمة الزجاج المهشم.

الخبر في : 29/08/2020   


CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق