أحمد شوقي وشوقي إليه ( الحلقة الثالثة)
كريم مرزة الأسدي
المقدمة :
تركنا شوقي مع أم كلثوم ، وكدنا ننهني مشوارهما إلا قليلاً ، و من ثم - المفترض - ندخل عالمه مع ربيبه الموسيقار الشهير محمد عبد الوهاب ،ولكن أرتأيت أن أقطع السلسلة المنهجية البحثية ، وإلا فالحياة لا تسير وفق سلاسل وترتيبات كما يفهمها البشر ، وإنما تخبط خبطة عشواء ، ومن قال إنني تتبعت أمير الشعراء وفق منهجية ثابتة لا تحيد ...!! مهما يكن ، قراءاتي له في أمكنة متباعدة ، وأزمنة متباينة ، ولكن نوادره وطرائفه مع حافظه ومحجوبه وغيرهما من أيام بواكر شبابي ، عندما كنت أتسلى متمتعا بطرائف الشعراء القدماء والمعاصرين ، بل حتى الشعبيين المشهورين النابهين و ( حسجتهم) - الحسجة : كلمة شعبية عراقية تعني البلاغة بتورياتها وتلميحاتها على الأخص - ، وكنت أحفظ تورياتهم وغمزاتهم ومساجلاتهم ومواقفهم وجناساتهم وطباقاتهم ، ومقابلاتهم ، واستعاراتهم وكناياتهم وتخميساتهم ...، بل أدون كل شيء بدفاتر للذكريات ، أعود لها متى أشاء ، لأتماهى بذكرها ، وأدهش الآخرين بعبقرية قائليها ...!! ومما أتذكر قارئاً ومدوّنا وباحثاً :
بادئ ذي بدء ، وقبل التطرق لمسيرة وحيات شوقي إليكم هذا الموجز الإطلالي :
الشاعران تعاصرا ، ولد أحمد شوقي بحي الحنفي بالقاهرة في 20 رجب 1287 هـ الموافق 16 أكتوبر (تشرين الأول) 1868 - وتوفي في 14 أكتوبر ( تشرين الأول) 1932 م لأب کردي وأم من أصول ترکية وشرکسية ، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب من الغنى والثراء ، وهو كاتب و شاعر مصري يعد من أعظم وأشهر شعراء العربية في العصور الحديثة، يلقب بـ (أمير الشعراء) .
محمد حافظ إبراهيم ولد في محافظة أسيوط 24 فبراير ( شباط) 1872 - 21 يونيو ( حزيران) 1932م. شاعر مصري ذائع الصيت. ولقب بشاعر النيل وبشاعر الشعب، وقد كانا مرتبطين ببعضهما بطريقة غير عادية فقد أثروا أدبنا العربي و لغتنا الجميلة .
نشرع بعلاقته الموسعة مع حافظ إبراهيم ، وما للأخير من مواقف طريفة مع غيره ...!!
1 - شوقي الغاضب المتجهم ، وحافظ المداعب المبادر :
كان شوقي وحافظ - رحمهما الله - بين حين وآخر يلتقيان ويتسامران ويتفسحان ، وفي مرّة من مرّات الفسحة والتجوال ، تأمل حافظ وجه صاحبه الشوقي الكئيب المتألم ، فأراد أن يخفف عليه ، ويقلب الصفحة المتجهمة ببيت شعر لطيف ليعود شوقيّه إلى عادته المرحة المنبسطة ، قال مرتجلاً:
يقولون إن الشوق نارٌ ولوعـةٌ ***فما بال (شوقي) اصبح اليوم باردا
فرد عليه أحمد شوقي ببيت قارص تورية بـ (حافظ) :
وأودعتُ كلباً وإنساناً وديعةً *** فضيّعها الانسانُ والكلبُ (حافظُ)
بعضهم يجعل ( شوقي) هو المبادر ، وهذا لا يعقل وغير منطقي أن يبادر شوقي بهذا البيت الجارح القاسي دون انفعال آني ، حفّز آلبته بيت حافظ ، إلا أن يكون الأمر مبيتاً من شوقي ، وهذا يعدُّ لؤماً وخبثاً ، وأمير الشعراء من المحال يتصف بمثل هذه الخصال الخسيسة ، ثم أن بيت حافظ جلي وواضح بقوله : ( فما بال (شوقي) اصبح اليوم باردا) ، نعم كان شوقي باردا ، حرّكه حافظ ، فردّ شوقي عليه ملاطفاً منبهاً : خلّي بالك من زوزو ...!! أنا لست بارداً ،بل ساخناً ، وأكثر من ذلك لاذعاً ، توسعت بالأمر لشهرة البيتين الظريفين ، وما كنت معهما لأعرف ما دار بينهما من قبلُ من حديث ، والله أعلم ، رحمهما الله كانا صديقين حميمين حتى الممات .
2 - مداعبه شعريه بين امير الشعراء احمد شوقى والشاعر حافظ ابراهيم :
قال شوقى فى احد قصائده المغناة الشهيرة :
مال واحتجبْ ***وادعى الغضبْ
ليت هاجري***** يشرح السببْ
عتبه رضــا ******ليتــــه عتبْ
فداعبه حافظ فى قصيدة مثلها قائلا:
شال وانخبطْ ****وادعى العبطْ
ليت هاجري ****يبلــــع الزلطْ
عتبهُ شــــجى*****حبّهُ غلــطْ
كلما مشـــــى ****خطوةً سقطْ
إن أمـــرهُ ***فى الهوى شططْ
3 - حافظ إبراهيم أسرعهم بديهة في ( القلقاس) :
القلقاس نبات يصنف ضمن زمرة الخضروات الجذرية لأنه يملك جذوراً غنية بالنشويات الصالحة للأكل، وأوراقاً خضراً تشبه آذان الفيل ويمكن طبخها كما تطبخ أوراق.
اجتمع ذات يوم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي على وجبة غداء، وكانت الوجبة تحتوي على القلقاس، فتحدى الثلاثة بعضهم بعضاً بذكر كلمة القلقاس في بيت من الشعر. فغلبهم الحافظ سرعة نباهةٍ بخفة ظلّه ، وأريحية طيبه ، فقال فوراً:
لو سألوك عن قلبي وما قاسى
فقل قاسى قل قاسى قل قاسى
4 - قصيدة لحافظ يودع فيها شوقي :
عندما ذهب شوقي إلى مؤتمر المستشرقين في جنيف ، نظم ( حافظه ) قصيدة ، خاطبه فيها ( يا شاعر الشرق) ، اعترافاً منه بقدره ومنزلته :
يا شاعر الشرق اتئ ****ماذا تحاول بعــد ذاك
هذي النجوم نظمته ****درر القريض وما كفاك
وسموت في أفق السعود **فكدت تعـثر بالسماك
ودعتك مصر رسولها ***للغرب مذ عرفت علاك
5 - حافظ يعتذر لشوقي عن عدم حضور عقد كريمته ( أمينة) لمرضه:
عندما أراد شوقي أن يعقد قران ابنته (أمينة) في قصره (كرمة ابن هانيء) ، دعا شاعر النيل (حافظ إبراهيم) للمشاركة في هذا الحفل؛ ولكنه كان مريضاً، فأرسل إلى (شوقيه) معتذرًا بخلق إنساني رقيق ، ومهنئاً بذوق قضائي رفيع :
يا سيدي وإمامــــي ** ويا أديـــــب الزمان
قدعاقني سوء حظي ** عن حفلة المهرجان
(وكنت أول ســـاعٍ *** إلى (رحاب ابن هاني
لكن مرضت لنحسي ****في يوم ذاك القران
وقد كفاني عقابـــــا ***ما كان مـن حرماني
حرمت رؤية (شوقي) ****ولثم تلك البنـان
فاصفح فأنت خليقٌ ***بالصفح عن كل جاني
إن فاتني أن أوفـــــي ***بالأمس حق التهاني
فاقبله مني قضــــاءً ***وكـن كريـــــم الجنان
6 - شوقي من منفاه الأسباني يشكو هموم غربته برسالة شعرية لـ (حافظه) ، فيجيبه مغرّدا:
لما نفي (شوقي) في بداية الحرب العالمية الأولى ( 1914 م) إلى برشلونة أسبانيا ، وذلك بعد خلع عباس الثاني ، وتولية حسين كامل سلطنة مصر ، والناس - كعادتهم - قريبون ممن هو قريب من السلطان ، ويبتعدون متنكرين عند ابتعاده ، وهذا شأن شوقي ، وشوقي شاعر حساس تضيق به الأنفاس من العرق الدساس ، والوسواس الخناس ، بثَّ همومه ، وخوالجه ، وآلامه وآماله إلى صديقه الوفي ، ورأى فيه ما يكفي ويفي ، فأرسل له رسالة يقول فيها :
يا ساكني مصر إنا لانزال على **عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينـا
هلا بعثتم لنا من ماء نهركــــمُ ***شيئــاً نبل به أحشاء صادينـا
كلُّ المناهل بعد النيل آسنــــــة ****ما أبعد النيل إلا عـن أمانينا
لا ريب هذه المشاعر العاطفية الوطنية والإنسانية ، تهزّ شاعرية حافظ ، وتجيش أحاسيسه ، وتثير وجدانه ، فأجابه :
عجبت للنيل يدري أن بلبله ****صــادٍ، ويسقي ربا مصر ويسقينا
والله ما طاب للأصحاب مورده **ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا
لم تنأ عنـه وإن فارقت شاطئـــه ***وقد نـأينـا ، وإن كنّـــا مقيمينـا
مصر هبة النيل ، وشوقي بلبله الصدّاح ، فما بال النيل يروي الربا ، وأهل مصر ، وغرّيده ظمآن عطشان ، والله لا يطيب طيب إلا بقربكم ، فبعدكم قرب ، وقربنا بعد ، هذا ما يقوله حافظ لشوقي ...!!
وبعد ما يفارب خمس سنوات نفياً صدر العفو عنه ، وعاد إلى كناته ومصره
في فبراير سنة 1919م ، فأستُقبِل بحفاوة وترحيب من قبل الآلاف من الشباب وعلى رأسهم شاعر النيل حافظ إبراهيم ، الذي أنشد:
وكلُّ مســافرٍ سيعود يومًا ***إذا رُزِقَ السَّلامةَ والإيابا
ولو أني دعيت لكنت ديني***عليه، أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي**إذا فهت الشهادة والمتابا
وقد ســـبقت ركائبي القوافي ***مقلــــدة أزمتها طرابـا
تجوب الدهر نحوك والفيافي **وتقتحم الليالي لا العبابا
7 - شوقي يرثي حافظه ، وكان الأخير قد بايعه لإمارة الشعر.
رثى شوقي حافظه ، وقد سارا معاً بالحياة متلازمين ، متحابين ، متعاضدين ، فشوقي مواليد 1868م ، وحافظ ولد بعده بأربع سنوات ( 1872 م ) ، و ماتا في السنة نفسها ( 1932م ) ، ولكن حافظ سبق صاحبه في مغادرة الدنيا بأربعة أشهر ، إذ توفي في ( يونيو / حزيران) ، وشوقي توفي في ( أكتوبر / تشرين أول) ، وكان يتمنى شوقي أن يموت قبل حافظ ليرثيه بأروع قسيدة رثاء ، كما رثى - من قبلُ وقبلُ - جرير صاحبه الفرزدق ، وقد تعاصرا وتناقضا وتصارعا خمسين عاماً ، وتوفيا في السنة نفسها ( 114 هـ) بفارق عدّة أشهر أيضاً .
وحافظ عرف عن رثائه المبكي والشجي والحكيم لرجالات عصره ، ووجوه قومه ، وأعيان شعبه وأدباء وشعراء أمته حتى قال هو عن شعر رثائه :
إذا تصفحت ديواني لتقرأني ****وجدت شعر المراثي نصف ديواني
هذه هي الدنيا ، وهذا قضاء ربّك ، مهما يكن من أمر ، نعود لنقول : رثى شوقي حافظه الأمين ، وأشار لما ذهبنا إليه بقصيدة همزية من البحر الكامل جاءت جزلة بلفظها ، عميقة بمعىانيها ، حكيمة بأبياتها ، شجية بألحانها ، منها :
قد كنت أوثر أن تقول رثائي **يا منصف الموتي من الأحياءِ
لكن سبقت، وكل طول سلامة ****قــــدر ، وكل منية بقضاءِ
بالأمس قد حليتني بقصيــــدةٍ ****غراء تحفظ كاليد البيضاء
غيظ الحسود لها وقمت بشكرها**وكما علمت مودتي ووفائي
في محفل بشرت آمالي بــــهِ ****لما رفعت إلى السماء لوائي
بالأبيات الأخيرة يعني شوقي قصيدة حافظ التي بايعه بها لإمارة الشعر سنة 1927 م ، والتي يقول فيها الحافظ الأمين :
صبح شوقي شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها، لا تفوته مناسبة وطنية إلا شارك فيها بشعره، وقابلته الأمة بكل تقدير، وأنزلته منزلة عالية، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر عام 1346هـ/1927م في حفل أقيم بدار الأوبرا بمناسبة اختياره عضواً في مجلس الشيوخ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه "الشوقيات"، وحضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه، وأعلن حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً:
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي ***بشـعر أمـــــيـر الدولتيـن ورجّعـي
أعيدي على الأسماع ما غردت به ***يراعة شـوقي في ابتـداءٍ ومقطــع
أمـــــــيـر القوافـي قد أتيت مبايعـاً **وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
8 - شوقي يرثي نفسه ، وكان يتوجس من الأقدار أنْ تدهمه ..!!
في عام 1905 م توفي الشيخ الشهير محمد عبده ، فوقف سبعة شعراء على قبره يرثونه ، و أرسل شوقي ثلاثة أبيات لتلقى ، يقول فيها
مفسـر آي اللـه بالأمس بيننـا *** قـم الـيوم فسر للـورى آيـة الموت
رحمت ، مصير العالمين كما ترى ****وكلّ هـناءٍ أو عزاءٍ إلى فـــوت
هـو الدهـر مـيلادٌ فشغلٌ فماتـمٌ ** فذكرٌ كما اتقى الصدى ذاهب الصوت
وكان أول الشعراء الذين القوا قصائدهم حفني ناصف ، واخرهم حافظ إبراهيم ، ثم أنشدت أبيات شوقي بعد ذلك.
و تنبأ أحد الأدباء : ان هؤلاء الشعراء سيموتون بحسب ترتيب إلقائهم لقصائدهم ، وصدقت نبؤته ، فكان حقّي أولهم ، ونزل الموت على حافظ آخرهم ، بقى دور شوقي ، فما كان منه إلّا أن يهرب للإسكندرية لائذاً بها من الحق ، فلحقته المنية بعد حافظ بأربعة أشهر …، وكان قد نظم قبل وفاته وصيه جاء فيها :
أقول لهم فى ساعة الدفن خففوا ***عليّ ولا تلقوا الصخور على قبري
ألم يكف همٌ فى الحياة حملتــه****فأحمل بعد الموت صخراً على صخرِ
توفى شوقي فى 14 أكتوبر 1932 م ، وخلّف لنا شعراً خالدا، رحمه الله ، ورحمنا آجمعين .
وعاهدتكم بطرائف ومواقف لشوقي وحافظ ومن حولهما ، وإليكم ما جاد به القلم من طريفتين حافظتين ...!!
9 - حافظ إبراهيم وتاجر الكتب الصفيق المغالي :
شاءت الأقدار أن يتعرف الشاعر حافظ إبراهيم على تاجر كتب ، جلده جلد الحمار لا يحترق بالنار ، ولا العنكبوت تتقرب منه لقسوته ، ويذكرني هذا الوصف بوصف أحمد شوقي لجسر البسفور الذي ( وتمضي الفأر لا تأوي إليه).
مهما يكن من أمر ، قال حافظ ابراهيم في هذا التاجر الصفيق الذي كان كلما ذهب إليه حافظ لشراء كتاب أحس بحاجته إليه، غالى في الثمن، ورفض أن يخفض من قيمته . وكان بليداً جافاً ، غخاطبه حافظنا :
أَديمُ وجهكَ يا زنديقُ لو جُعِلتْ *** مِنهُ الوقايةُ والتجليدُ للكتبِ
لم يعلُها عنكبوتٌ أينما تُركتْ *** ولا تخافُ عليها سطوةَ اللهبِ
10 - حافظ إبراهيم ، وقيمة الإنسان فيما يرتدي :
كان حافظ ابراهيم الكبير فقيرالحال ، بسيطاً متواضعاً زاهداً كأغلب الشعراء والفنانين الكبار المطبوعين ، وذات يوم اشترى ثوباً جديداً فلاحظ أن الناس – كثيراً منهم- يتعامل معه باحترام أكبر فقال مخاطباً ثوبه الجديد:
يا ردائي جعلتني عند قومي *** فوق ما أشتهي وفوق الرجاءِ
إن قومي تروقهم جِدّةُ الثـــــو *** بِ ولا يُعشَقُونَ غير الرِداءِ
قيمة المرءِ عندهم بين ثـــــوبٍ *** باهرٍ لونهُ وبيــــن الحذاءِ
وإلى الملتقى في حلقة أخرى عن طرائف ومواقف شوقي ومن حوله ، ومن ثم نكمل المشاوار مع شوقي لشوقي ... والله المستعان على سالف الزمان ...!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر:
1 - الشوقيات ...ديوان أحمد شوقي .
2 - ديوان حفظ إبراهيم
3 - مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ = أبريل - مايو 2012م ، العدد : 5 - 6 ، السنة : 36
دراسات إسلامية : شوقي في شعر حافظ - بقلم : أ. د. محمد مصطفى سلام.
4 - صحيفة ( الأهرام ) المصرية ، عدد يوم 6 يناير 2016م - مقالة بقلم عبد الحسيب الخناني.
كريم مرزة الأسدي
المقدمة :
تركنا شوقي مع أم كلثوم ، وكدنا ننهني مشوارهما إلا قليلاً ، و من ثم - المفترض - ندخل عالمه مع ربيبه الموسيقار الشهير محمد عبد الوهاب ،ولكن أرتأيت أن أقطع السلسلة المنهجية البحثية ، وإلا فالحياة لا تسير وفق سلاسل وترتيبات كما يفهمها البشر ، وإنما تخبط خبطة عشواء ، ومن قال إنني تتبعت أمير الشعراء وفق منهجية ثابتة لا تحيد ...!! مهما يكن ، قراءاتي له في أمكنة متباعدة ، وأزمنة متباينة ، ولكن نوادره وطرائفه مع حافظه ومحجوبه وغيرهما من أيام بواكر شبابي ، عندما كنت أتسلى متمتعا بطرائف الشعراء القدماء والمعاصرين ، بل حتى الشعبيين المشهورين النابهين و ( حسجتهم) - الحسجة : كلمة شعبية عراقية تعني البلاغة بتورياتها وتلميحاتها على الأخص - ، وكنت أحفظ تورياتهم وغمزاتهم ومساجلاتهم ومواقفهم وجناساتهم وطباقاتهم ، ومقابلاتهم ، واستعاراتهم وكناياتهم وتخميساتهم ...، بل أدون كل شيء بدفاتر للذكريات ، أعود لها متى أشاء ، لأتماهى بذكرها ، وأدهش الآخرين بعبقرية قائليها ...!! ومما أتذكر قارئاً ومدوّنا وباحثاً :
بادئ ذي بدء ، وقبل التطرق لمسيرة وحيات شوقي إليكم هذا الموجز الإطلالي :
الشاعران تعاصرا ، ولد أحمد شوقي بحي الحنفي بالقاهرة في 20 رجب 1287 هـ الموافق 16 أكتوبر (تشرين الأول) 1868 - وتوفي في 14 أكتوبر ( تشرين الأول) 1932 م لأب کردي وأم من أصول ترکية وشرکسية ، وكانت جدته لأمه تعمل وصيفة في قصر الخديوي إسماعيل، وعلى جانب من الغنى والثراء ، وهو كاتب و شاعر مصري يعد من أعظم وأشهر شعراء العربية في العصور الحديثة، يلقب بـ (أمير الشعراء) .
محمد حافظ إبراهيم ولد في محافظة أسيوط 24 فبراير ( شباط) 1872 - 21 يونيو ( حزيران) 1932م. شاعر مصري ذائع الصيت. ولقب بشاعر النيل وبشاعر الشعب، وقد كانا مرتبطين ببعضهما بطريقة غير عادية فقد أثروا أدبنا العربي و لغتنا الجميلة .
نشرع بعلاقته الموسعة مع حافظ إبراهيم ، وما للأخير من مواقف طريفة مع غيره ...!!
1 - شوقي الغاضب المتجهم ، وحافظ المداعب المبادر :
كان شوقي وحافظ - رحمهما الله - بين حين وآخر يلتقيان ويتسامران ويتفسحان ، وفي مرّة من مرّات الفسحة والتجوال ، تأمل حافظ وجه صاحبه الشوقي الكئيب المتألم ، فأراد أن يخفف عليه ، ويقلب الصفحة المتجهمة ببيت شعر لطيف ليعود شوقيّه إلى عادته المرحة المنبسطة ، قال مرتجلاً:
يقولون إن الشوق نارٌ ولوعـةٌ ***فما بال (شوقي) اصبح اليوم باردا
فرد عليه أحمد شوقي ببيت قارص تورية بـ (حافظ) :
وأودعتُ كلباً وإنساناً وديعةً *** فضيّعها الانسانُ والكلبُ (حافظُ)
بعضهم يجعل ( شوقي) هو المبادر ، وهذا لا يعقل وغير منطقي أن يبادر شوقي بهذا البيت الجارح القاسي دون انفعال آني ، حفّز آلبته بيت حافظ ، إلا أن يكون الأمر مبيتاً من شوقي ، وهذا يعدُّ لؤماً وخبثاً ، وأمير الشعراء من المحال يتصف بمثل هذه الخصال الخسيسة ، ثم أن بيت حافظ جلي وواضح بقوله : ( فما بال (شوقي) اصبح اليوم باردا) ، نعم كان شوقي باردا ، حرّكه حافظ ، فردّ شوقي عليه ملاطفاً منبهاً : خلّي بالك من زوزو ...!! أنا لست بارداً ،بل ساخناً ، وأكثر من ذلك لاذعاً ، توسعت بالأمر لشهرة البيتين الظريفين ، وما كنت معهما لأعرف ما دار بينهما من قبلُ من حديث ، والله أعلم ، رحمهما الله كانا صديقين حميمين حتى الممات .
2 - مداعبه شعريه بين امير الشعراء احمد شوقى والشاعر حافظ ابراهيم :
قال شوقى فى احد قصائده المغناة الشهيرة :
مال واحتجبْ ***وادعى الغضبْ
ليت هاجري***** يشرح السببْ
عتبه رضــا ******ليتــــه عتبْ
فداعبه حافظ فى قصيدة مثلها قائلا:
شال وانخبطْ ****وادعى العبطْ
ليت هاجري ****يبلــــع الزلطْ
عتبهُ شــــجى*****حبّهُ غلــطْ
كلما مشـــــى ****خطوةً سقطْ
إن أمـــرهُ ***فى الهوى شططْ
3 - حافظ إبراهيم أسرعهم بديهة في ( القلقاس) :
القلقاس نبات يصنف ضمن زمرة الخضروات الجذرية لأنه يملك جذوراً غنية بالنشويات الصالحة للأكل، وأوراقاً خضراً تشبه آذان الفيل ويمكن طبخها كما تطبخ أوراق.
اجتمع ذات يوم أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي على وجبة غداء، وكانت الوجبة تحتوي على القلقاس، فتحدى الثلاثة بعضهم بعضاً بذكر كلمة القلقاس في بيت من الشعر. فغلبهم الحافظ سرعة نباهةٍ بخفة ظلّه ، وأريحية طيبه ، فقال فوراً:
لو سألوك عن قلبي وما قاسى
فقل قاسى قل قاسى قل قاسى
4 - قصيدة لحافظ يودع فيها شوقي :
عندما ذهب شوقي إلى مؤتمر المستشرقين في جنيف ، نظم ( حافظه ) قصيدة ، خاطبه فيها ( يا شاعر الشرق) ، اعترافاً منه بقدره ومنزلته :
يا شاعر الشرق اتئ ****ماذا تحاول بعــد ذاك
هذي النجوم نظمته ****درر القريض وما كفاك
وسموت في أفق السعود **فكدت تعـثر بالسماك
ودعتك مصر رسولها ***للغرب مذ عرفت علاك
5 - حافظ يعتذر لشوقي عن عدم حضور عقد كريمته ( أمينة) لمرضه:
عندما أراد شوقي أن يعقد قران ابنته (أمينة) في قصره (كرمة ابن هانيء) ، دعا شاعر النيل (حافظ إبراهيم) للمشاركة في هذا الحفل؛ ولكنه كان مريضاً، فأرسل إلى (شوقيه) معتذرًا بخلق إنساني رقيق ، ومهنئاً بذوق قضائي رفيع :
يا سيدي وإمامــــي ** ويا أديـــــب الزمان
قدعاقني سوء حظي ** عن حفلة المهرجان
(وكنت أول ســـاعٍ *** إلى (رحاب ابن هاني
لكن مرضت لنحسي ****في يوم ذاك القران
وقد كفاني عقابـــــا ***ما كان مـن حرماني
حرمت رؤية (شوقي) ****ولثم تلك البنـان
فاصفح فأنت خليقٌ ***بالصفح عن كل جاني
إن فاتني أن أوفـــــي ***بالأمس حق التهاني
فاقبله مني قضــــاءً ***وكـن كريـــــم الجنان
6 - شوقي من منفاه الأسباني يشكو هموم غربته برسالة شعرية لـ (حافظه) ، فيجيبه مغرّدا:
لما نفي (شوقي) في بداية الحرب العالمية الأولى ( 1914 م) إلى برشلونة أسبانيا ، وذلك بعد خلع عباس الثاني ، وتولية حسين كامل سلطنة مصر ، والناس - كعادتهم - قريبون ممن هو قريب من السلطان ، ويبتعدون متنكرين عند ابتعاده ، وهذا شأن شوقي ، وشوقي شاعر حساس تضيق به الأنفاس من العرق الدساس ، والوسواس الخناس ، بثَّ همومه ، وخوالجه ، وآلامه وآماله إلى صديقه الوفي ، ورأى فيه ما يكفي ويفي ، فأرسل له رسالة يقول فيها :
يا ساكني مصر إنا لانزال على **عهد الوفاء وإن غبنا مقيمينـا
هلا بعثتم لنا من ماء نهركــــمُ ***شيئــاً نبل به أحشاء صادينـا
كلُّ المناهل بعد النيل آسنــــــة ****ما أبعد النيل إلا عـن أمانينا
لا ريب هذه المشاعر العاطفية الوطنية والإنسانية ، تهزّ شاعرية حافظ ، وتجيش أحاسيسه ، وتثير وجدانه ، فأجابه :
عجبت للنيل يدري أن بلبله ****صــادٍ، ويسقي ربا مصر ويسقينا
والله ما طاب للأصحاب مورده **ولا ارتضوا بعدكم من عيشهم لينا
لم تنأ عنـه وإن فارقت شاطئـــه ***وقد نـأينـا ، وإن كنّـــا مقيمينـا
مصر هبة النيل ، وشوقي بلبله الصدّاح ، فما بال النيل يروي الربا ، وأهل مصر ، وغرّيده ظمآن عطشان ، والله لا يطيب طيب إلا بقربكم ، فبعدكم قرب ، وقربنا بعد ، هذا ما يقوله حافظ لشوقي ...!!
وبعد ما يفارب خمس سنوات نفياً صدر العفو عنه ، وعاد إلى كناته ومصره
في فبراير سنة 1919م ، فأستُقبِل بحفاوة وترحيب من قبل الآلاف من الشباب وعلى رأسهم شاعر النيل حافظ إبراهيم ، الذي أنشد:
وكلُّ مســافرٍ سيعود يومًا ***إذا رُزِقَ السَّلامةَ والإيابا
ولو أني دعيت لكنت ديني***عليه، أقابل الحتم المجابا
أدير إليك قبل البيت وجهي**إذا فهت الشهادة والمتابا
وقد ســـبقت ركائبي القوافي ***مقلــــدة أزمتها طرابـا
تجوب الدهر نحوك والفيافي **وتقتحم الليالي لا العبابا
7 - شوقي يرثي حافظه ، وكان الأخير قد بايعه لإمارة الشعر.
رثى شوقي حافظه ، وقد سارا معاً بالحياة متلازمين ، متحابين ، متعاضدين ، فشوقي مواليد 1868م ، وحافظ ولد بعده بأربع سنوات ( 1872 م ) ، و ماتا في السنة نفسها ( 1932م ) ، ولكن حافظ سبق صاحبه في مغادرة الدنيا بأربعة أشهر ، إذ توفي في ( يونيو / حزيران) ، وشوقي توفي في ( أكتوبر / تشرين أول) ، وكان يتمنى شوقي أن يموت قبل حافظ ليرثيه بأروع قسيدة رثاء ، كما رثى - من قبلُ وقبلُ - جرير صاحبه الفرزدق ، وقد تعاصرا وتناقضا وتصارعا خمسين عاماً ، وتوفيا في السنة نفسها ( 114 هـ) بفارق عدّة أشهر أيضاً .
وحافظ عرف عن رثائه المبكي والشجي والحكيم لرجالات عصره ، ووجوه قومه ، وأعيان شعبه وأدباء وشعراء أمته حتى قال هو عن شعر رثائه :
إذا تصفحت ديواني لتقرأني ****وجدت شعر المراثي نصف ديواني
هذه هي الدنيا ، وهذا قضاء ربّك ، مهما يكن من أمر ، نعود لنقول : رثى شوقي حافظه الأمين ، وأشار لما ذهبنا إليه بقصيدة همزية من البحر الكامل جاءت جزلة بلفظها ، عميقة بمعىانيها ، حكيمة بأبياتها ، شجية بألحانها ، منها :
قد كنت أوثر أن تقول رثائي **يا منصف الموتي من الأحياءِ
لكن سبقت، وكل طول سلامة ****قــــدر ، وكل منية بقضاءِ
بالأمس قد حليتني بقصيــــدةٍ ****غراء تحفظ كاليد البيضاء
غيظ الحسود لها وقمت بشكرها**وكما علمت مودتي ووفائي
في محفل بشرت آمالي بــــهِ ****لما رفعت إلى السماء لوائي
بالأبيات الأخيرة يعني شوقي قصيدة حافظ التي بايعه بها لإمارة الشعر سنة 1927 م ، والتي يقول فيها الحافظ الأمين :
صبح شوقي شاعر الأمة المُعبر عن قضاياها، لا تفوته مناسبة وطنية إلا شارك فيها بشعره، وقابلته الأمة بكل تقدير، وأنزلته منزلة عالية، وبايعه شعراؤها بإمارة الشعر عام 1346هـ/1927م في حفل أقيم بدار الأوبرا بمناسبة اختياره عضواً في مجلس الشيوخ، وقيامه بإعادة طبع ديوانه "الشوقيات"، وحضر الحفل وفود من أدباء العالم العربي وشعرائه، وأعلن حافظ إبراهيم باسمهم مبايعته بإمارة الشعر قائلاً:
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي ***بشـعر أمـــــيـر الدولتيـن ورجّعـي
أعيدي على الأسماع ما غردت به ***يراعة شـوقي في ابتـداءٍ ومقطــع
أمـــــــيـر القوافـي قد أتيت مبايعـاً **وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
8 - شوقي يرثي نفسه ، وكان يتوجس من الأقدار أنْ تدهمه ..!!
في عام 1905 م توفي الشيخ الشهير محمد عبده ، فوقف سبعة شعراء على قبره يرثونه ، و أرسل شوقي ثلاثة أبيات لتلقى ، يقول فيها
مفسـر آي اللـه بالأمس بيننـا *** قـم الـيوم فسر للـورى آيـة الموت
رحمت ، مصير العالمين كما ترى ****وكلّ هـناءٍ أو عزاءٍ إلى فـــوت
هـو الدهـر مـيلادٌ فشغلٌ فماتـمٌ ** فذكرٌ كما اتقى الصدى ذاهب الصوت
وكان أول الشعراء الذين القوا قصائدهم حفني ناصف ، واخرهم حافظ إبراهيم ، ثم أنشدت أبيات شوقي بعد ذلك.
و تنبأ أحد الأدباء : ان هؤلاء الشعراء سيموتون بحسب ترتيب إلقائهم لقصائدهم ، وصدقت نبؤته ، فكان حقّي أولهم ، ونزل الموت على حافظ آخرهم ، بقى دور شوقي ، فما كان منه إلّا أن يهرب للإسكندرية لائذاً بها من الحق ، فلحقته المنية بعد حافظ بأربعة أشهر …، وكان قد نظم قبل وفاته وصيه جاء فيها :
أقول لهم فى ساعة الدفن خففوا ***عليّ ولا تلقوا الصخور على قبري
ألم يكف همٌ فى الحياة حملتــه****فأحمل بعد الموت صخراً على صخرِ
توفى شوقي فى 14 أكتوبر 1932 م ، وخلّف لنا شعراً خالدا، رحمه الله ، ورحمنا آجمعين .
وعاهدتكم بطرائف ومواقف لشوقي وحافظ ومن حولهما ، وإليكم ما جاد به القلم من طريفتين حافظتين ...!!
9 - حافظ إبراهيم وتاجر الكتب الصفيق المغالي :
شاءت الأقدار أن يتعرف الشاعر حافظ إبراهيم على تاجر كتب ، جلده جلد الحمار لا يحترق بالنار ، ولا العنكبوت تتقرب منه لقسوته ، ويذكرني هذا الوصف بوصف أحمد شوقي لجسر البسفور الذي ( وتمضي الفأر لا تأوي إليه).
مهما يكن من أمر ، قال حافظ ابراهيم في هذا التاجر الصفيق الذي كان كلما ذهب إليه حافظ لشراء كتاب أحس بحاجته إليه، غالى في الثمن، ورفض أن يخفض من قيمته . وكان بليداً جافاً ، غخاطبه حافظنا :
أَديمُ وجهكَ يا زنديقُ لو جُعِلتْ *** مِنهُ الوقايةُ والتجليدُ للكتبِ
لم يعلُها عنكبوتٌ أينما تُركتْ *** ولا تخافُ عليها سطوةَ اللهبِ
10 - حافظ إبراهيم ، وقيمة الإنسان فيما يرتدي :
كان حافظ ابراهيم الكبير فقيرالحال ، بسيطاً متواضعاً زاهداً كأغلب الشعراء والفنانين الكبار المطبوعين ، وذات يوم اشترى ثوباً جديداً فلاحظ أن الناس – كثيراً منهم- يتعامل معه باحترام أكبر فقال مخاطباً ثوبه الجديد:
يا ردائي جعلتني عند قومي *** فوق ما أشتهي وفوق الرجاءِ
إن قومي تروقهم جِدّةُ الثـــــو *** بِ ولا يُعشَقُونَ غير الرِداءِ
قيمة المرءِ عندهم بين ثـــــوبٍ *** باهرٍ لونهُ وبيــــن الحذاءِ
وإلى الملتقى في حلقة أخرى عن طرائف ومواقف شوقي ومن حوله ، ومن ثم نكمل المشاوار مع شوقي لشوقي ... والله المستعان على سالف الزمان ...!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع والمصادر:
1 - الشوقيات ...ديوان أحمد شوقي .
2 - ديوان حفظ إبراهيم
3 - مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، جمادى الأولى – جمادى الثانية 1433 هـ = أبريل - مايو 2012م ، العدد : 5 - 6 ، السنة : 36
دراسات إسلامية : شوقي في شعر حافظ - بقلم : أ. د. محمد مصطفى سلام.
4 - صحيفة ( الأهرام ) المصرية ، عدد يوم 6 يناير 2016م - مقالة بقلم عبد الحسيب الخناني.
0 comments:
إرسال تعليق