إن العمل الجديد للكاتبة اللبنانية صونيا عامر الموسوم "قاب قوسين" نص مكتوب بصيغة الراوي المتكلم، والذي يجمع بين أدب الاعتراف والمذكرات والذي قد لا نجده يصنف ضمن جنس الرواية في العموم، لأنه في الحقيقة الأنا-الآخر لصونيا عامر، وهذا ما يبدو واضح الملامح منذ قراءة المقدمة وصولا إلى الخاتمة.
تحكي لنا الساردة منذ البداية عن قريتها وسر تلك السنديانة التي تطرح البلوط وعن مراحل تكوينها العمرية، وكأنها رمز لعمر القرية وكل ما هو شعور إنساني يحيا فوق أرضها الطيبة: "...شجرة السنديان لا تمر بدورات عمرية تشويهية، تراها خضراء رغم تساقط أوراقها الصفراء، خضراء دائما وأبدا، إلا في حالات المرض، العطش أو الجوع أي التربة غير الصالحة." (ص 19).
ترصد لنا عامر عبر جملة من ذكرياتها أجواء القرية وشؤونها الزراعية، حيث لا تكاد تصرف النظر عن أية تفاصيل صغيرة تتعلق بأشجارها ونبتاتها التي تحمل بين فروعها قصصا ورموزا تعكس تاريخ البلد وأهله، كما نقرأ ذلك على لسان الساردة: "أشجار كثيرة اجتاحت قريتنا مؤخرا، من أجملها أشجار الأرز، لم نكن نحلم بأن تحيا شجرة الرب في وادينا، لقد ظننا أنها حكر على الجبال الشاهقة المقابلة للبحر، لقد حدث وبالصدفة أن زرعها والدي بأرض مرتفعة تسمى 'الدابوش' وعاشت، ومن ثم بدأت المحاولات لزرعها من قبل الآخرين وعاشت، وهكذا أصبحت في حدائق المنازل كما هو حال حديقتنا." (ص-ص 36-37).
كما استرجعت البطلة التي لا نعرف لها اسما، وهي الكاتبة الراوية كما سبق وذكرنا، أيام طفولتها وتتذكر والدتها بأسى لأنها كانت تشكو عدم توفر جلا لزراعة الفول: "كنا نعوض نقص الفول الأخضر بالتردد على جل لأهل صديقتنا تدعونا هي إلى احتلاله، والبطش فيه بطيبة خاطر، عصرونية بكرم الفول، مرفقة بصينية المتة، مشروبنا المقدس، جيربا متة الحمراء، لم يكن نزل اللون الأخضر منها والمخصص للمتة المرة." (ص 35).
لجأت المبدعة صونيا عامر إلى استعادة أحداث مضت، مع حرصها الشديد على بعث الحيوية والديمومة في ذلك الزمن الماضي وهذا ما يسميه النقاد بالسرد الاستذكاري، كما هو شأن حديثها عن آثار الحرب العالمية الثانية وما فعله الأتراك باقتحامهم لمنزل جدتها المتوفاة، وعمليات النهب التي قاموا بها، وهذا ما نستشفه في قول الساردة: "لقد أمضت عامها الخامس بعد المائة وهي تتحسر على صندوق والدتها المتوفاة، وكيف لم يخطر على بالها حينها أن تأخذ الصندوق معها في رحلة الفرار إلى 'النشبة' غابة السنديان القريبة من المزار التي احتمى فيها أبناء القرية من ظلم السلطان العثماني." (ص 53).
تعتمد الكاتبة على دلالات للبوح لتمدنا بمعلومات حدثت في حياة بطلتها، والتي تأبى أن تفارق ذاكرتها، حتى أنها تعمد إلى الانتفاض بشكل مدهش حول ما قد عايشته أو سمعت عنه، كما هو شأن ظاهرة الانتحار التي كانت متفشية في قريتها: "الأول انتحر بداعي الإحباط الشديد، هو فعليا اكتئاب شديد، أودى بحياته، ظروفه الاجتماعية طبيعية، ظاهريا. الثاني انتحر بداعي الإحباط الشديد أيضا، وظروفه طبيعية، ظاهريا. كذلك تنتحر الفتيات في قريتنا، الانتحار لم يكن حكرا على الشباب في بيئة متدينة جدا ومحافظة، محبط نعم. ولكن لا تنتحر! نصيحة." (ص 42).
مفهوم المصلحة العامة منعدم بدوره كما تروي لنا ذلك الساردة، حتى أن النظام المتبع هو التهويل وهذا ما يمكن اعتباره موقفا سياسيا بحتا، ونذكر هنا على سبيل المثال ما يلي: "...أرى انعداما بالرؤية لمن وراء المصلحة، أي من قبل المنتفع الأكبر، فهو المهيمن في حينه، وهذا طبيعي، من شق طرقات لمياه الري، لشركة الكهرباء وشبكة الاتصالات." (ص 44).
لا يخلو النص الخطابي لرواية "قاب قوسين" من تقنية الحذف السردي، الذي استعملته الكاتبة بذكاء لقطع وتيرة الإخبار السردي وضم السابق إلى اللاحق في صورة سلسلة من الأحداث، قد تبدو بين الحين والآخر متصلة وغير منفصلة، كما هو شأن الإشارة إلى التبادل التجاري وتاريخ مزارع تلك القرى اللبنانية التي لا تخلو من عنصر التشويق، كما هو حال قرية عيثنتا: "عيثنتا كما نسميها اليوم، قرية مصغرة للخلوات، تمتلك من الجمال ما يغطي محافظة، تقع جغرافيا بين قريتي الخلوات وميمس، كما أشرت آنفا في خراج قريتنا. هي حارة على سفح تل يطل على واد سحيق، يربط خراج الخلوات بخراج قرية تسمى عين قنيا، وقرية أخرى تسمى شويا. ذلك الوادي الذي شهد على العصر، عصر المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لقرابة العشرين عاما." (ص 57).
قد يحس المتلقي بعد قراءة عدة صفحات من هذا العمل الأدبي الذي لا يخلو من التجريب، أنه مشاهد ومستمع في آن واحد وهي ميزة طبعت هذا النص بامتياز، وعلى سبيل المثال نذكر حديث البطلة عن عادات وتقاليد وادي التيم كعادة لصق الخميرة ليلة الزفاف: "كذلك لصق الخميرة، التقليد القديم الحديث، الخميرة في أيامنا تدعم بلاصق شفاف، لا يمكن لخميرة ألا تلتصق، كان ذلك بالماضي فقط، حيث كان سقوط الخميرة فأل شؤم لزواج لن يستمر." (ص 59).
تعيد الكاتبة إلى أذهان قراءها صورة المرأة في قريتها، والتي تعتبرها عنصرا فعالا في المجتمع فهي سند لأخيها الرجل سواء كانت قروية أو انتقلت للعيش في المدن، كما نقرأ ذلك في المشهد السردي الموالي: "كما أصبحت المرأة متعلمة وموظفة، وما زالت تساند زوجها بأعباء الأسرة، تغيرت الوسيلة، والنتيجة واحدة، المرأة في قريتي داعمة للرجل، مساندة له، يسيران قدما جنبا إلى جنب لبناء أسرة سعيدة، فهدف شباب قريتي نبيل، ولطالما كان ذلك، الشهامة سمة من سمات شباب القرى من الجنسين، الإناث والذكور على حد سواء." (ص 72).
استعانت عامر بشكل عام بتكنيك التواتر الانفرادي، بمعنى أنا الساردة تروي الأحداث مرة واحدة ولا تلجأ إلى تكرارها إلا نادرا، كما هو شأن حديثها عن واقع المجانين وسط قريتها: "لطالما احتوت القرية على مجانين، لكنها عرفت كيف تتعامل مع مجانينها، احتفظت بهم دوما في دير الصليب، قد يحصل أن يأتي أحد مجانين القرية لزيارة أهله، ويبدأ أطفال القرية في الشعور بالخوف، ونسج الحكايات عما سيفعله بهم مجانين القرية فيما لو أخلوا بتعليمات الوالدة، كأن يذهبوا للعب بالساحة تحت المطر." (ص 73).
يبدو السرد والوصف جليا في هذا النص الأدبي لكن تبدو تقنية الحوار غائبة عبر صفحاته، وفي الواقع الروائي يصعب عزل هذه العناصر الثلاثة التي سبق ذكرها لأنها تتداخل فيما بينها من أجل غاية إيصال النص متكاملا وفنيا إلى القارئ.
لقد لجأت الروائية صونيا عامر في العموم إلى استعراض مقاطع استذكارية متفاوتة عبر نصها القصير "قاب قوسين"، حيث تدفعنا دفعا لقراءة ذلك الماضي المكثف بمختلف أحداثه التي عاشتها بطلته ولا تزال تعيشه بكيانها وشعورها، لتذكرنا بشكل غير مباشر بالأديبة المصرية نوال السعداوي في سرد مذكراتها التي لا تخلو من التشويق والجرأة.
المصدر
(1) صونيا عامر: قاب قوسين ، ليليت للنشر والتوزيع،2015.
*كاتب وناقد جزائري
تحكي لنا الساردة منذ البداية عن قريتها وسر تلك السنديانة التي تطرح البلوط وعن مراحل تكوينها العمرية، وكأنها رمز لعمر القرية وكل ما هو شعور إنساني يحيا فوق أرضها الطيبة: "...شجرة السنديان لا تمر بدورات عمرية تشويهية، تراها خضراء رغم تساقط أوراقها الصفراء، خضراء دائما وأبدا، إلا في حالات المرض، العطش أو الجوع أي التربة غير الصالحة." (ص 19).
ترصد لنا عامر عبر جملة من ذكرياتها أجواء القرية وشؤونها الزراعية، حيث لا تكاد تصرف النظر عن أية تفاصيل صغيرة تتعلق بأشجارها ونبتاتها التي تحمل بين فروعها قصصا ورموزا تعكس تاريخ البلد وأهله، كما نقرأ ذلك على لسان الساردة: "أشجار كثيرة اجتاحت قريتنا مؤخرا، من أجملها أشجار الأرز، لم نكن نحلم بأن تحيا شجرة الرب في وادينا، لقد ظننا أنها حكر على الجبال الشاهقة المقابلة للبحر، لقد حدث وبالصدفة أن زرعها والدي بأرض مرتفعة تسمى 'الدابوش' وعاشت، ومن ثم بدأت المحاولات لزرعها من قبل الآخرين وعاشت، وهكذا أصبحت في حدائق المنازل كما هو حال حديقتنا." (ص-ص 36-37).
كما استرجعت البطلة التي لا نعرف لها اسما، وهي الكاتبة الراوية كما سبق وذكرنا، أيام طفولتها وتتذكر والدتها بأسى لأنها كانت تشكو عدم توفر جلا لزراعة الفول: "كنا نعوض نقص الفول الأخضر بالتردد على جل لأهل صديقتنا تدعونا هي إلى احتلاله، والبطش فيه بطيبة خاطر، عصرونية بكرم الفول، مرفقة بصينية المتة، مشروبنا المقدس، جيربا متة الحمراء، لم يكن نزل اللون الأخضر منها والمخصص للمتة المرة." (ص 35).
لجأت المبدعة صونيا عامر إلى استعادة أحداث مضت، مع حرصها الشديد على بعث الحيوية والديمومة في ذلك الزمن الماضي وهذا ما يسميه النقاد بالسرد الاستذكاري، كما هو شأن حديثها عن آثار الحرب العالمية الثانية وما فعله الأتراك باقتحامهم لمنزل جدتها المتوفاة، وعمليات النهب التي قاموا بها، وهذا ما نستشفه في قول الساردة: "لقد أمضت عامها الخامس بعد المائة وهي تتحسر على صندوق والدتها المتوفاة، وكيف لم يخطر على بالها حينها أن تأخذ الصندوق معها في رحلة الفرار إلى 'النشبة' غابة السنديان القريبة من المزار التي احتمى فيها أبناء القرية من ظلم السلطان العثماني." (ص 53).
تعتمد الكاتبة على دلالات للبوح لتمدنا بمعلومات حدثت في حياة بطلتها، والتي تأبى أن تفارق ذاكرتها، حتى أنها تعمد إلى الانتفاض بشكل مدهش حول ما قد عايشته أو سمعت عنه، كما هو شأن ظاهرة الانتحار التي كانت متفشية في قريتها: "الأول انتحر بداعي الإحباط الشديد، هو فعليا اكتئاب شديد، أودى بحياته، ظروفه الاجتماعية طبيعية، ظاهريا. الثاني انتحر بداعي الإحباط الشديد أيضا، وظروفه طبيعية، ظاهريا. كذلك تنتحر الفتيات في قريتنا، الانتحار لم يكن حكرا على الشباب في بيئة متدينة جدا ومحافظة، محبط نعم. ولكن لا تنتحر! نصيحة." (ص 42).
مفهوم المصلحة العامة منعدم بدوره كما تروي لنا ذلك الساردة، حتى أن النظام المتبع هو التهويل وهذا ما يمكن اعتباره موقفا سياسيا بحتا، ونذكر هنا على سبيل المثال ما يلي: "...أرى انعداما بالرؤية لمن وراء المصلحة، أي من قبل المنتفع الأكبر، فهو المهيمن في حينه، وهذا طبيعي، من شق طرقات لمياه الري، لشركة الكهرباء وشبكة الاتصالات." (ص 44).
لا يخلو النص الخطابي لرواية "قاب قوسين" من تقنية الحذف السردي، الذي استعملته الكاتبة بذكاء لقطع وتيرة الإخبار السردي وضم السابق إلى اللاحق في صورة سلسلة من الأحداث، قد تبدو بين الحين والآخر متصلة وغير منفصلة، كما هو شأن الإشارة إلى التبادل التجاري وتاريخ مزارع تلك القرى اللبنانية التي لا تخلو من عنصر التشويق، كما هو حال قرية عيثنتا: "عيثنتا كما نسميها اليوم، قرية مصغرة للخلوات، تمتلك من الجمال ما يغطي محافظة، تقع جغرافيا بين قريتي الخلوات وميمس، كما أشرت آنفا في خراج قريتنا. هي حارة على سفح تل يطل على واد سحيق، يربط خراج الخلوات بخراج قرية تسمى عين قنيا، وقرية أخرى تسمى شويا. ذلك الوادي الذي شهد على العصر، عصر المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لقرابة العشرين عاما." (ص 57).
قد يحس المتلقي بعد قراءة عدة صفحات من هذا العمل الأدبي الذي لا يخلو من التجريب، أنه مشاهد ومستمع في آن واحد وهي ميزة طبعت هذا النص بامتياز، وعلى سبيل المثال نذكر حديث البطلة عن عادات وتقاليد وادي التيم كعادة لصق الخميرة ليلة الزفاف: "كذلك لصق الخميرة، التقليد القديم الحديث، الخميرة في أيامنا تدعم بلاصق شفاف، لا يمكن لخميرة ألا تلتصق، كان ذلك بالماضي فقط، حيث كان سقوط الخميرة فأل شؤم لزواج لن يستمر." (ص 59).
تعيد الكاتبة إلى أذهان قراءها صورة المرأة في قريتها، والتي تعتبرها عنصرا فعالا في المجتمع فهي سند لأخيها الرجل سواء كانت قروية أو انتقلت للعيش في المدن، كما نقرأ ذلك في المشهد السردي الموالي: "كما أصبحت المرأة متعلمة وموظفة، وما زالت تساند زوجها بأعباء الأسرة، تغيرت الوسيلة، والنتيجة واحدة، المرأة في قريتي داعمة للرجل، مساندة له، يسيران قدما جنبا إلى جنب لبناء أسرة سعيدة، فهدف شباب قريتي نبيل، ولطالما كان ذلك، الشهامة سمة من سمات شباب القرى من الجنسين، الإناث والذكور على حد سواء." (ص 72).
استعانت عامر بشكل عام بتكنيك التواتر الانفرادي، بمعنى أنا الساردة تروي الأحداث مرة واحدة ولا تلجأ إلى تكرارها إلا نادرا، كما هو شأن حديثها عن واقع المجانين وسط قريتها: "لطالما احتوت القرية على مجانين، لكنها عرفت كيف تتعامل مع مجانينها، احتفظت بهم دوما في دير الصليب، قد يحصل أن يأتي أحد مجانين القرية لزيارة أهله، ويبدأ أطفال القرية في الشعور بالخوف، ونسج الحكايات عما سيفعله بهم مجانين القرية فيما لو أخلوا بتعليمات الوالدة، كأن يذهبوا للعب بالساحة تحت المطر." (ص 73).
يبدو السرد والوصف جليا في هذا النص الأدبي لكن تبدو تقنية الحوار غائبة عبر صفحاته، وفي الواقع الروائي يصعب عزل هذه العناصر الثلاثة التي سبق ذكرها لأنها تتداخل فيما بينها من أجل غاية إيصال النص متكاملا وفنيا إلى القارئ.
لقد لجأت الروائية صونيا عامر في العموم إلى استعراض مقاطع استذكارية متفاوتة عبر نصها القصير "قاب قوسين"، حيث تدفعنا دفعا لقراءة ذلك الماضي المكثف بمختلف أحداثه التي عاشتها بطلته ولا تزال تعيشه بكيانها وشعورها، لتذكرنا بشكل غير مباشر بالأديبة المصرية نوال السعداوي في سرد مذكراتها التي لا تخلو من التشويق والجرأة.
المصدر
(1) صونيا عامر: قاب قوسين ، ليليت للنشر والتوزيع،2015.
*كاتب وناقد جزائري
0 comments:
إرسال تعليق