إلى أن تُـبعث القيم/ محمود شباط

هل يصح في سوريا ما صح في روسيا ؟ يرتسم هذا السؤال بقلم عريض على شاشة الأحداث، ويفرض ذاته أمام المراقبين والمعنيين بدخول روسيا المعمعة السورية، ومحاولة إمساكها بزمام الحدث السوري، وعلى الأخص بعد مهاجمة قوات روسية لقاعدة أميركية في دير الزور مؤخراً، شارك فيها عناصر من الجيش السوري وميليشيات حليفة له.
حَدَثُ دير الزور أضاف ثقلاً زائداً على عبء احتمال التصعيد الذي سيكتنف بضبابه سعي الروس والأميركيين لمحاولات حلحلة لم تلح بوادر جديتها على الأرض لغاية الآن. 
واقع الحال السوري البائس يقول بأنه طالما بقيت المباديء والقيم، ومصائر البشرية ومقدراتها سلعة قابلة للعرض والطلب والبيع والشراء والمقايضة،  سوف تبقى تطلعاتنا إلى عالم أفضل تسوده فضائل العدالة والوئام، وتخفق على أرضه رايات الإنسانية والمحبة والسلام، مجرد رؤى بعيدة المنال، وأضغاث أحلام.
حين وصل الرئيس فلاديمير بوتين إلى المقعد الأول في الاتحاد الروسي، ومض في الأفق أمل باستعادة التوازن الذي اختل بانهيار الاتحاد السوفياتي، كما للحدِّ من تفرُّد الولايات المتحدة كقوة وحيدة لا منازع لها في هذا العالم، في حال شبَّهها المؤرخون بحالة السلام الروماني. 
بعد سنوات من حكم بوتين، وعند نهاية فترة حكمه الأولى بين عامي 2000 و 2004، برزت مواهبه بالمناورة لاستبقاء مقعد الرئاسة حكراً عليه، فحجزه عبر "السماح لتلميذه" رئيس مجلس الوزراء في حينه ديميتري ميدفيديف، والذي لا زال يمثل دوره بنجاح ويحتفظ بذات المنصب.
ورغم تولي الأخير مقعد الرئاسة لفترة واحدة، فقد خدم فترته الرئاسية كرئيس فخري، كان خلالها بوتين رئيس الحكومة والحاكم الفعلي لسبب لم يكن خافياً على المتابعين لدرجات سلمه، إذ كان بوتين، الذي ترأس دائرة الأمن الإتحادية (المخابرات) في عام 1998 و 1999، والمتسلح بخبرات ودهاء رجل الـ كي جي بي، وبذهنية الـ كي جي بي يدير نظام أقلية من الرأسماليين، ويمسك بالقضاء وبالإعلام عبر التلفزيون والصحف والمواقع الإلكترونية التي ما فتىء يشدد الخناق عليها، وأسس ركائز حكم قوية متينة صلبة تصعب زعزعتها عبر إنشائه لثلاثة ركائز تتضمن مكونات الدولة، والشركات المملوكة للدولة، والشركات الخاصة التي يملكها الموالون لبوتين.
 على مداميك تلك الركائز الثلاث مهَّد بوتين لفترة رئاسته الأولى، حيث عيَّن ثلاثة من كبار جنرالاته المقربين المخلصين في مجلس أمن الدولة وهم: سيرجي إيفانوف، نيكولاي باتروشيف، و ألكسندر بورتنيكوف.
بعد إمساكه بأمن البلاد تفرغ للإمساك باقتصادها فهيمن على الشركات الحكومية واحدة بعد الأخرى عبر تعيين عدد من أصدقائه المقربين : إيغور سيشين (شركة روزنفط)،  أليكسي ميلر (غاز بروم)، و سيرجي شيميزوف (شركة روستيك). 
ثم استدار بوتين إلى شركات القطاع الخاص واستقطبها ليقاسمها جبنة مليارات الدولارات، فأمَّن تغطية قانونية لشركات تقوم بنشاطات مشبوهة، ومنحها امتيازات شراء أصول شركات حكومية بأسعار تقديرية، وتلبية المشتريات الحكومية دون أي منافسة. من أولئك الأصدقاء على سبيل المثال لا الحصر : جينادي تيمشينكو، و أركادي روتنبرغ، ويوري كوفالشوك، ونيكولاي شامالوف. 
ما بدأه الرئيس فلاديمير بوتين في روسيا أكمله في جورجيا وأوكرانيا .. ثم الآن في سوريا، وقد تكون مفاجأته وعدم رضاه عن الوجود الأميركي شرقي دير الزور، حيث النفط والثروة المائية وخصوبة الأراضي الزراعية هو ما دفعه للإيعاز بالهجوم الذي ينكره والذي أراده ربما كاختبار لمدى جدية الأميركيين بالدفاع عن المناطق التي يتواجدون فيها. 
ما أوردته وكالات الأنباء يفيد بأن روسيا أرسلت بعناصر روسية مسلحة تعمل لدى شركة "واغنر" الأمنية الروسية، وهي نظيرة شركة بلاكواتر الأمنية الأميركية، لمهاجمة المنطقة التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، التي  ترعاها وتدربها وتموّلها الولايات المتحدة، التي ردت بحسم وحزم فحصدت حوالي مئتين من المهاجمين حسب وكالة رويتر للأنباء، إضافة إلى عشرات الجرحى الذين تم أخلاءهم جواً للعلاج في مستشفيات عسكرية في موسكو وبطرسبرغ. 
أنكرت روسيا علمها بعلاقتها بالحدث وبالقوة المهاجمة. رداً على الإنكار الروسي قال إيفلين فاركاس وهو مسؤول سابق في وزارة الدفاع الأميركية : "كافة العناصر المرتزقة سواء كانوا في أوكرانيا أو سوريا يعملون في خدمة الحكومة (الروسية)". يرجح هذا الكلام إذا عرفنا بأن رئيس شركة "واغنر" الأمنية ديميتري يوتكين هو عقيد سابق في مخابرات الجيش الروسي، وبأنه وشركته مقربان من يفغيني بريفوزين، أحد أفراد حاشية البلاط، والمعروف بـلقب "طباخ الرئيس" كونه متعهد تزويد الكرملين بالمؤونة والطعام. 
لم يستغرب المراقبون ذلك الإنكار، فقد سبقه نفي العديد من حقائق لا تقبل الدحض نشرتها وسائل الإعلام المحلية والعالمية ومنظمات أممية، كقصف المدنيين المروع وتدمير حلب وسواها، وزعم روسيا بأنّها كانت تقاتل داعش بينما داعش تحتل تدمر وتخليها مرتين، مسافرة بقوافل مركباتها في صحراء مكشوفة بين الرقة وتدمر دون أن يكشفها الطيران الروسي أو السوري أو الطائرات المسيرة من قبل إيران وحزب الله.
يمكن القول لغاية الآن، بأن حسابات بيدر بوتين لم تطابق حسابات حقله. إذ تبدو سوريا اليوم أكثر من أي وقت مضى بأنها بمثابة أداة استخدمها الغرب كفخ لاستنزاف الطاقات البشرية والإقتصادية والأمنية لروسيا وإيران، أو كما سماها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما "مصيدة الذباب" لجذب عناصر ومجموعات القوى الإسلامية المتطرفة إلى سوريا والقضاء عليها. ولكن الوقائع تقول بأن روسيا وإيران أيضاً علقتا في دبق تلك المصيدة دون جني القدر الذي توقعتاه من ثمار سوريا. 
ما يشير إلى أرجحية ذلك الاحتمال هو "حماس" إدارة الرئيس دونالد ترمب لوجوب الاحتفاظ بحضورٍعسكري على ما يقارب ثلث مساحة سوريا بما تحتويه تلك المنطقة من مخزون نفطي وثروات زراعية ومائية، وذلك بعد أن تُركت سوريا وشعبها لِمصيرهم لسنوات في عهد أوباما.
هذا لا يعني بأن الأميركيين حزموا أمرهم للتدخل في مناطق سورية أخرى لوضع حد للمآسي والمجازر والدمار ووقف نزيف الدم. إذ أن رسائلهم المتعددة الاتجاهات متضاربة ومربكة. هم يزعمون بأنهم يؤيدون المعارضة السورية ولكنهم يساعدونها بالقطارة وبأمصال تبقيها بالكاد على قيد الحياة فحسب.
من ناحية أخرى يزعم الأميركيون بأنهم يحمون حلفاءهم الأكراد في عفرين ومنبج وسواها، وبالتزامن لا يبذلون الجهد الكافي لحمايتهم من الحليف التركي، وبدأت الأنباء تتواتر عن عملية مقايضة. يتضح للمتابعين بأن ما سبق ذكره يمثل نقاط ضعف لدى الإدارة الأميركية، أم هو جزء من حبكة المخطط حيال سوريا؟.
الخلاصة : روسيا وسوريا كلمتان تتشابهان بعدد الحروف، ولكنهما تختلفان بترتيبها، وباختلاف الظروف. 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق