قمر على ضفاف النيل للروائية والأديبة ايمان التى استطاعت ان تتناول فى فصول روايتها الثلاثة الأبعاد الفكرية والأجتماعية والنفسية والموروث الدينى والثقافى لتؤكد اشكالية التنوير التى غابت عن بلدان الشرق العربى مئات السنين .
لكل مجتمع ظروفه التاريخية وثقافته وعقيدته الموروثة التى لاتتشابه مع أى مجتمع آخر على مر العصور قديما وحديثا ، لذلك كان وضع المرأة مرهون بهذه الثقافات فى كل مجتمع على حدة ، وعلى ذلك تنوعت الحركات النسائية من مجتمع لآخر .
ظهرت حركة تحرير المرأة أول ماظهرت فى الغرب ( دول الشمال) ونقلت عنها ( دول الجنوب ) فى الشرق فكرة تحرير المرأة فكانت فى مصر عندما تزعمها قاسم أمين ، لكن بالرغم من ذلك فالمرأة الغربية مازالت محرومة من مساوتها مع الرجل فى الأجور ، وقد أضافت الحركة اليها أخيرا حق العرى للتمتع بالأناقة وحق الشذوذ الجنسى ، وكذلك حق الأجهاض بعد أن تفككت الأسرة وزادت العلاقات الجنسية الحرة وأولية المرأة كفرض عليها كأم ، وحق التمتع بالجنس دون الألتزام بالأسرة أوبالحمل أوبالوضع لعدد من الأبناء قبل أن ترتبط بالرجل الذى حملت منه حيث يأتى ذلك آنفا ، مما أدى الى ثورة ضد وضع المرأة الأجتماعى التى تمثل فى الفلسفة المثالية عند فيتشة الأقرب الى المحافظة والتقليد كربة بيت ، أم للأولاد ،راعية الزوج ، طاهية المطبخ ، وفى فلسفة أخرى عند شوبنهور فهى الشيطان الرجيم ، الغريزة الجنسية ، الأهواء والميول والرغبات والشر المستطير .
أمافى المجتمعات الأخرى الشرقية مثل اليابان فلا توجد حركة لتحرير المرأة كما حدث فى الغرب أو الشرق وعلى سبيل المثال ، فالمرأة عليها طاعة الرجل الذى له سيادة عليها فقسمة العمل بينهما غير متنافسة ، فللرجل شئونه والمرأة لها شئونها التى لايقوم بها الرجل الذى يوفر لها كل وسائل الأعاشة والأنفاق لتقوم هى الأخرى برعاية زوجها وأطفالها وتدبير حجات منزلها لكى تنشئ جيلا متمسكا بقيم الولاء والطاعة والتضحية ، أما فى المجتمعات الأفريقية فنجد صورة مختلفة عن الصورة التى ذكرناها آنفا ، فالمرأة هنا مساوية للرجل فى العمل والأنتاج ، فى الغابة والحقل ، جسدها العارى ليس عورة ، وليست محتاجة للبقاء فى المنزل من أجل رعاية الأطفال فيمكنها حمل الأطفال على ظهرها وهى تؤدى عملها فى أى مكان كان ، هنا نجد مجتمع النساء ليس أقل فى القيمة من مجتمع الرجال ، بل يمكن القول أن المرأة يعتمدعليها فى الداخل والخارج بسبب تغيب الرجل فترات طويلة خارج البيت من أجل جلب الرزق لأسرته ، وقد قامت الفلاحة المصرية والسورية والعراقية على وجه الخصوص بهذا الدور فهى تعمل فى الحقل مع زوجها وتقوم أيضا على رعاية منزلها وتربية أطفالها ، فهى تبذر البذور وتسقى الزرع وتجمع الحصاد ، فلا فرق بين الداخل والخارج بين الحظيرة والمنزل ، بين أرضاع الأطفال وحلب الأبقار والأغنام .
وفى المجتمعات الأسلامية نرى ربطا بين المرأة والدين وهذا اختلاف آخر بين المرأة فى المجتمعات الغربية والوثنية التى ينتفى فيهاهذا الربط ، ففى المجتمعات الشرقية يتمثل فيها معرفة صورة المرأة فى الموروث الدينى والثقافى الذى عادة ما يفرق فيه علماء الأجتماع فى الخلط بين الموروث القديم والحديث ، كالوقوع فى المثالية والتجريد والتاريخية والفقهية ، لذلك يتطلب الموقف العلمى نقد الموروث وتحليل الواقع فى آن واحد ، واثبات تاريخية الموروث وامكانية تطويره طبقا للظروف المجتماعية ، كما يتطلب تحليل وضع المرأة الأجتماعى بعد نيلها الحرية والمساواة بالرجل كما جاء بالنص بعيدا عن الموروث الثقافى والدينى والذى تخلت فيه عن حقوها الشرعية ورغبت فى تسليم أمورها الى الرجل الذى ينظر اليها كعبدة أو كأى شيئ مملوك له فى المنزل لكى تصبح جزء من ظاهرة التخلف الأجتماعى الشامل .
لذلك نجد الأديبة تستخدم ضمن أدواتها النبرة الفلسفية التى علت عند كثير من الفلاسفة وهم يتناولون حرية المرأة غربا وشرقا ، شمالا وجنوبا بعد أن فندت تفنيدا جيدا مفهوم الموروث الثقافى والدينى فى أكثر من مشهد فى روايتها التى تناولت العديد من الشخوص التى حبكت بها كل العقد التى تمثلت خلال السرد لنرى ذلك مع الزوج المفرط الأنانية والمحب للجنس لدرجة أن استخدام حيله للوقوع بصديقة قمر التى كانت تضعها فى مقام شقيقتها ومن وراء ذلك ضحى بزوجته وأبنائه عندما داهمتهما على مخدعها داخل حجرتها ، علاوة على انتهازيته التى لاتوصف ، فقد هدد جارته أم لطفى اذ لم تستجيب لنداء غريزته ( تعالج هنا الكاتبة الجنس المتمثل عند الرجل الشرقى المتمسك بعاداته وتقاليده وما ربى عليه خاصة عندما يكشر عن أنيابه كى يظهر لأمرأته غيرته الشديدة بحجة خوفه عليها )
لذلك من الضرورى أن نبحث عن وضع المرأة فى كل من النص ( القرآن ) وهو يمثل المصدر الأول للموروث الثقافى الدينى ، والحديث الذى يمثل المصدر الثانى لذلك الموروث ، لنجد فى الأول الأختلاف الواقع بين الفريقين ، التقليديون المحافظون ، الذين يأخذون الجمهور فى جانبهم دفاعا عن الأيمان والسنة فى مجتمع ايمانى نصى تقليدى ودفاعا أيضا عن أصول الدين والعقائد والثقافة الموروثة ، فى حين يقومون بحصار الفريق الثانى المجدد والذى يبحث عن الأصلاح وتشغله مشكلة التنوير فى الثقافة الموروثة سعيا منه لتغير الوضع الأجتماعى للمرأة فى نيل حريتها الدينية والثقافية وحثها عن عدم تخليها عن حقوقها الشرعية التى جاءت فى كل من النص والحديث النبوى الصحيح وليس المدسوس أو الضعيف الذى كان من جراؤه أن أصبحت الأحاديث تزيد عن ثلاثون ألف حديث فى الشيخان ( البخارى ومسلم فيهما ثلاثة آلاف حديث أغلبها اسرائيليات) فى حين أن الروايات تؤكد أن الأحاديث النبوية الصحيحة لا تزيد عن عشرات المئات ) فلا غرابة فى قدرة الكاتبة الفيلسوفة التى أتت بكثير من المشاهد فى متن روايتها ناقدة لاذعة بما تحمله المرأة الشرقية من تقاليد وعادات وموروث أخذته عن أجدادها من مئات السنين كله عبث وظلام أودى بها الى ان تصبح عبدة عند الرجل أو متاعا من ضمن أمتعته أو شيئا يهز به مخدعه أنى شاء من مملوكته ، كانت غاية فى الدقة والوضوح عندما أظهرت ضمن مشاهد روايتها كيف أن المرأة تعلمت وأصبحت طبيبة ومهندسة ورائدة ومعلمة وقاضية ووزيرة وعضو مجلس أمها ، ومع كل هذا تسلم بطواعية أو بغير طواعية لزوجها ، مازالت تعيش فى عصر سى السيد الذى تدلك له قدميه ولاتأكل الا بعد أن يتناول غذاؤه ، ثم تأتى بمشهد آخر لدكتورة جامعية ترفض أن تكون عبدة للرجل أيا كان هذا الرجل ، قدمت المزيد من المشاهد المتباينة من أجل أن تصل بمفهوم التنوير ، لكى تخرج به المرأة والرجل من الفكر الظلامى الموروث عن الأجداد ، فكانت غاية فى الدقة خاصة بعد أن استطاعت أن توظف ألفاظ الأدب ليصبح " فلسفة الأدب " .
اذن التنويريون يحاولون تغير الأمر الواقع فى مواجهة التقليديون المتمسكون بالثقافة الموروثة ، فى حين أن الأصلاحيون يحاولون وضع المرأة فى الصورة الأيجابية لها فى بعض النصوص التى رفعت من شأنها بعد أن كان ينظر للمرأة فى الجزيرة العربية على انها حيض ونفاس وطهارة وولادة ونفقة وناقصة عقل ودين ونذير شؤم ، شيطانا رجيما ، فتنة وغواية ، وعامة أهل النار وصداق وايلاء وظهار وزواج وطلاق وصلح ونشوز وزنى واحصان وحجاب ومتعة وحضانة ورضاع ، هكذا كان وضع المرأة سلبيا أكثر من ايجابيته فى الجزيرة العربية فى العهد القديم والحديث وفى بلاد المشرق عامة وفى المجتمعات القبلية ، وبالتالى تكون صورة المرأة فى الحديث محملة بالأعراف وخاضعة للتطور والزمان على مدى أربعة عشر قرنا .
مازلنا حتى اليوم ونحن نعيش بدايات القرن الواحد والعشرين ،نعانى من ظلمة العقول ، لانريد أن نجهد أنفسنا مشقة تفنيد قضايانا العصرية التى تستلزم بالضرورة اعمال العقل لأننا فاقدين لحرية الرأى ، غارقين فى الأتكالية فى أكثر جوانب مشاكلنا الحياتية التى تشكل المطالب الأساسية التى نعيش من أجلها رغم حركة التنوير التى ظهرت فى القرن السابع عشر فى الشمال ، والتى يردها ( بول هزار ) فى كتابه 1935 ، ويردها ( كريسوفر هل ) فى كنابه 1965 الى القرن السادس عشر أما ( بيتر جراى ) فى كتابه < التنوير > فيردها الى العصر اليونانى ، حيث يعتبر أن ارسطو طاليس هو أول الطبيعين الأقدمين لكونه أدخل المنهج العلمى فى الفلسفة ، ومع ذلك فان الرأى الشائع يعتبر أن حركة التنوير بدأت من القرن الثامن عشر .
فاذا صح هذا القول ، بأن حركة التنوير ظهرت منذ ذلك القرن ، فأين نكون نحن من هذه الحركة التنويرية التى يتسيدها العقل والحرية ..؟! والتى قال عنها ( كانط ) فى مقال له بعنوان < ما التنوير > 1784 حيث قال أن التنويرهو هجرة الأنسان من اللارشد ، حيث أن الأنسان هو علة هذه الهجرة ، واللارشد هو عجز الأنسان عن الأفادة من عقله من غير معونة من الآخرين ، وهذا اللارشد من صنع الأنسان عندما لا تكون علته مردودة الى نقص فى الفهم ، وانما الى نقص فى العزيمة والجرأة فى اعمال العقل من غير معونة من الآخرين ( كن جريئا فى اعمال عقلك وبناء على ما سبق يمكننا القول بأن ( ابن رشد ) الفيلسوف العربى ، كان ممهدا لحركة التنوير فى أوروبا ، فى حين انه كان موضع اضطهاد من أمته ، فلقد أمر الخليفة المنصور بنفيه بعد أن قام بجمع كل مؤلفاته وامر بحرقها فى القرن الثانى عشر ، واعتبر فى نظر الخليفة وعلماء المسلمين بأنه مرق عن الدين وبذلك استوجب لعنة الضالين وسماه الخليفة < معطلا وملحدا > وحذر فى أنحاء المشرق العربى من فلسفة ابن رشد حيث كانت فلسفته تدور حول فكرة محورية هى فكرة ( التأويل ) والتأويل عنده يعنى اخراج اللفظ عن دلالته الحقيقية الى دلالته المجازية ، بمعنى أن النص الدينى عنده ينطوى على معنيين ، معنى ظاهرى – وهو المعنى الحرفى ، ومعنى باطنى وهو المعنى المجازى ، وعند تعارض المعنى الظاهرى مع مقتضيات العقل ، يكون عندئذ المعنى الباطنى – وهذا معناه تأويل المعنى الحرفى .
والتأويل أساسا مرفوضا عند أغلب العلماء المسلمين وخاصة عند الأمام أبوحامد الغزالى ، لأنه يعتبر ذلك تحويل الدين الى مجموعة من الخيالات ، وقد اتفق معه فى هذا < علماء الكلام > وهكذا ضاعت فلسفة ابن رشد التى تقوم أساسا على رهن الأسباب بالمسببات حيث أن انكار الأسباب فى رأيه مبطل للمعرفة وللعلم – وبذلك ينتهى دور العقل الذى ينشد الى معرفة الحقيقة وليس المطلق ، وعندما تعرف الغرب على أهمية الفلسفة الرشدية فى القرنيين الثانى والثالث عشر التى مهدت لحركة التنوير فى كل أوروبا ، قاموا على الفور بترجمة كل مؤلفاته الى اللاتينية والعبرية فى ذلك الوقت ــ فهل بقي لنا منذ حركة التنوير وحتى اليوم بعضا مما نادى به ابن رشد ..؟ أو حتى من فلاسفة الغرب الذين أخذوا على عاتقهم الربط بين العقل وبين الوقائع العينية ..!؟ نحن نستعرض المسيرة التى مر بها التنوير لنؤكد ما قامت به أديبتنا فى روايتها أن مشكلة التنوير فى عالمها العربى البدوى الصحراوى الذى حرم المرأة من حقوقها الشرعية والوضعية وجعل من الرجل سيدا عليها أو مملوكة له ، حاولت بكل امكاناتها أن تبدد ظلام العقل الذى تم اعماله عند كانط وابن رشد وآخرين من التنويرين فسردت عن ابن خالها الذى حرم دفن أخته فى وطنها لأنها أحبت واختارت لنفسها شريك حياتها ، وعن صديقتها التى تعددت زيجاتها بسبب رغبة الأهل فى زواجها ممن يختارون لها دون رغبتها أو أخذ رأيها ، فكان ما كان من فشل الى أن تم الأختيار بحريتها .
اننى أعتقد بأننا مازلنا نعيش فى عالم الغيبيات ، تحيط بنا الظلمة من كل جانب ، غير تاركين للعقل العنان فى فهم وتفنيد القضايا الحياتية بما هو منطقى بحيث لاتتعارض وأحكام العقائد واعمال العقل مع بعضها البعض ، الأمر الذى أدى الى خمول حركة التنوير فى العالمين العربى والأسلامى مما تسبب فى كبت الأنسان لأبداعاته لكونه فقد حرية الرأى والتعبيرعما يجول بداخله من ابداع ، الحرية والجرأة اللتان تمكناه من اعمال العقل أثناء معالجته لمثل هذه القضايا ، فمن المعروف أن سلطان العقل ينتهى بالضرورة الى التزام العقل بتغيير المجتمع الى ما هو افضل ، ولذلك تقوم الثورات لتحرير المجتمعات من الجهل بالمعرفة ودحر الظلام ، والقضاء على الفساد الذى يسيطر الحكام به على شعوبهم حتى لايصلون الى شعلة التنوير .. لأنهم يعلمون جيدا ان المبدعون الحقيقيون من أمثال أديبتنا ايمان وأمثالها، هم الذين يحملون هموم اوطانهم على أكتافهم ، هم الذين يحملون الشعلة لينيروا بها الطريق لشعوبهم فى مجتمع تسود فيه المساواة والعدالة الأجتماعية وتقل فيه الفوارق بين الطبقات ، وفى الفصل الأخير من الرواية نجد الديبة كيف رسخت هموم الوطن عنما حملته على أكتافها ، فقد صورت بكل براعة وحذق كل المشاهد الصعبة عندما تمكن التكفيرين من التحكم فى أكثر مفاصل الوطن بقوة السلاح وقلب مفهوم الموروث الدينى السمح الى مفاهيم ظلامية موروثة عن علماء جهلاء بددوا نورانية الدين وحلوا محله الظلمة ، فجاسوا فى البلاد فسادا نهبا وقتلا وتخريبا لكل ممتلكات ومقدرات الوطن ، لذلك كان للتنويرين حملتهم ضد التفاوت الكبيربين الفقراء والأغنياء – واستغلال الأقوياء للضعفاء – والتنوير كذلك هو حركة التاريخ ومساره من الماضى الى الحاضر ، لذلك خرج مفهوم التقدم منه ..!!
يوجد التنوير فى كل مجتمع بواسطة مبدعيه وكتابه وفنانيه وأدباؤه ، ويظهر كذلك فى كل حضارة وليس مقصورا على حضارة بعينيها ، ففى الصين القديمة يمثل ( كونفوشيوس ) اتجاها تنويريا داخل الحضارة الصينية ، فقد أنزل الدين من السماء الى الأرض ، ومن عبادة الآلهة الى التفكير فى أحوال الناس ، وحول الفكر الصينى من المعتقد الى الأخلاق ..!! وكذلك كانت البوذية فى الهند ، عندما نقد ( بوذا ) تعدد الآلهة فى الهندوكية وتحول من الطقوس والشعائرالى حياة الفضيلة القلبية ، وبذلك أصبحت البوذية مرادفة لحياة السلام الداخلى وطريق التسامح الأنسانى –فكلمة ( بوذا ) تعنى المستنير ، ومن هنا تصبح البوذية هى حياة الأستنارة أى التنوير ..!!
أما فى فارس ، فكانت المانوية حركة للتنوير وفى صراع دائم بين الظلام والنور ، والعلم ضد الجهل ، والخير ضد الشر ، كما تصورت الزمان ( المقصود به الله ) ثلاث لحظات – الماضى والحاضر والمستقبل كانت غايتها ( أى المانوية ) تحريرالفرد واطلاق طاقاته الحبيسة من أسر الظلم والجهل والظلمة ..!! وفى الزرادشتية أيضا حركة تنويرية متشابهة لثنائية المانوية ، فهى تركز على الأفكار والأقوال والأفعال الخيرة مستلهمة هذا الخير من أفعال الأنسان ، فانتقل الدين فى فارس من الطبيعة الى النفس ، ومن الكون الى الأنسان ، ومن الخارج الى الداخل كما هو الحال فى حركة التنوير ..!!
وفى مصر القديمة كانت عبادة ( آمون ) الأللاه الواحد ، حركة تنويرية فى دين مصر القديم ، وتحقق الدين فى الحقيقة والعدالة كمثل عليا للشعب – وانبثاق العلوم الطبيعية والرياضية والفنون والآداب من ثنايا الدين ، فالدين حضارة وعمران ...! وكذلك عند اليونان عرف عصر ( بركليس ) بأنه عصر التنوير حيث ازدهرت العلوم والفنون والآداب – فظهرت الفلسفة التى نقلت الفكر من مرحلة الأسطورة الى مرحلة العقل ، وأكد ( أفلاطون ) دور العقل فى المعرفة الحقيقية بعيدا عن تغيرات الواقع الحسى ..! وفى الغرب رفض ( اسبونوزا ) عقائد اليهود حول شعب الله المختار وأرض الميعاد والميثاق الخاص ، وأوجد ميثاق أبديا قلبيا أخلاقيا لكل فرد يدخله بارادته الحرة ، وطبق قواعد النقد العقلى على الكتب المقدسة وأثبت تحريفها ، كما رفض الحكم الثيوقراطى من أجل قيام حكم ديمقراطى ، مواطنا حرا فى دولة حرة ، ونقد سطوة الكهنة والأحبار على الدولة ووساطتها بين الشعب والحاكم ، وأقام الحكم على نظرية العقد الأجتماعى الذى يكون الحاكم فيها ممثلا للشعب وليس خليفة الله على الأرض ..! بهذا الفكر المستنير التى غرفت ونهلت منه أديبتنا
ايمان حتى حد الأستطاعة فى تصويرها حركة شخوصها التى جسدت مشاهد فصول روايتها الثلاثة .
هكذا تمثل التنوير فى الحضارات القديمة ، وفى الفلسفة اليونانية والمسيحية واليهودية ، وكذلك فى الفلسفة الأسلامية داخل التراث الأسلامى حيث قام منذ البداية على العقل وطلب البرهان ، وعلى حرية الأنسان ومسؤليته ، وعلى المساواة الأجتماعية ، وعلى الشورى كنظام اجتماعى ، وعلى التاريخ كما هو واضح فى قصص الأنبياء --- فالأسلام دين العقل والطبيعة وليس ما بعد الطبيعة ، والمجتمع الأسلامى بلا طبقات وبلا سيطرة الأقلية على الأغلبية ، فالملكية عامة ، والحاكم ممثلا للشعب وليس ممثلا لله ، وتجب له النصيحة من أهل العلم ، وتجب عليه الثورة اذا عصى وحرف القانون --- تلك هى مبادئ الأسلام وهى بعينها مبادئ التنوير ..!
اذن التنوير فى النهاية ، هو الأعتماد على العقل المستقل الذى منه تتولد الأرادة الذاتية – وكان التنوير فى فرنسا أكثر جرأة عنه فى ألمانيا ، فتصدى للأسطورة والخرافة وللحرب وكذلك للتعصب والملكية والأقطاع هكذا قطع التنوير شوطا كبيرا على يد فلاسفته ومفكريه الى ان بدأ ينحسرفى بداية القرن التاسع عشر ، فانقلب التنوير الى الهاوية ، فظهرت الحركات الاعقلانية فى القرن العشرين وأصبح الامعقول والعبث هو مطمح الفيلسوف والأديب ، وكما مات الله فى التنوير لصالح الأنسان ، مات الأنسان أيضا للاشيئ وأصبحت الطبيعة مكانا للتلوث والنفايات ، وبدلا من حرية الأنسان وديمقراطية المجتمع ، انقلب الأنسان الى عنصرى ، والمجتمع الى فاشى ونازى ، وبدلا من المساواة والعدالة الأجتماعية – تحول التنوير الى ليبرالية ثم الى رأسمالية ثم نظام عالمى جديد أكثر استغلالا واستنفاذا للأنسان عبر الشركات عابرة القارات – وهكذا انحسر مفهوم تقدم الوعى الأنسانى ، فانتهى الأمر الى النكوص والأنهيار ، كما هو واضح فى فلسفات الأفول والعود الأبدى ..!
اذن فما هو التنوير ؟ هو عدة مفاهيم رئيسة فى تصور واحد للعالم ، هوالعقل والطبيعة والأنسان والحرية والمساواة ، لأن العقل ضد السلطة والتقاليد الموروثة ، وذلك ما ثبتته فى فصول (قمر على ضفاف النيل) الأديبة خاصة بعد أن التقت قمر مع شمس الدين العربى الذى بادلها كل أنواع المعرفة وكان هو بمثابة الخط الدرامى خلال مشاهد الرواية ، ولكونه عربى من بلاد الحضارة المصرية التى ميزها الله بالنيل ، كان عنوان الرواية التى أبدعته الأديبة التى تمكنت من تأسيس نظرية جديدة للمعرفة تخدم الأنسان، هذه النظرية تقوم على الحس والتجربة بعد بطلانه للمعارف الموروثة القديمة من الكنيسة وتعاليم ارسطو أمام نظرية النقد العلمى الحديث .
ولما كان الأنسان مركز الكون وليس الله ، لأن الله قد خول للأنسان الخلافة فى الأرض ، وبذلك يكون الأنسان استرد صفاته التى وهبها الله له ، فأصبح هو خالق أفعاله ، حر ، مختار ، مسئول ، قادر على التميز بين الخير والشر ، وبذلك يكون قد حقق حريته من خلال المجتمع التى تتحدد فيه سلطة الحاكم بالمحكوم عن طريق العقد الأجتماعى ، فالحاكم يحكم باسم الشعب وليس باسم الله ، باسم الأمة لأنه ( أى الحاكم ) ليس ممثلا لله على الأرض .
اذن التنوير ضد الهوة الكبيرة بين الأغنياء والفقراء ، واستغلال الأقوياء للضعفاء ، ، وكذلك هو حركة التاريخ ومساره بين الماضى الى الحاضر والذى منه خرج مفهوم التقدم ، فما ظنه القدماء العناية الألهية فى التاريخ ، هو عند فلاسفة التنوير التقدم فى التاريخ ، كما هو عند هردر ، وما ظنه الللاهيتيون الأنتقال من اليهودية الى المسيحية الى الأسلام ، هو عند الفلاسفة والعلماء ، هو تطور البشرية من الطفولة الى المراهقة الى الرجولة ،أى من الحس الى العاطفة كما هو عند لسنج ، وقد تمكنت ايمان الكاتبة الفيلسوفة أن تنسج كل المشاهد والخطوط من كل الثنائيات المرتبطة بالجنس والموروث والدين والثقافة فى مجتمها الشرقى بحذق وذكاء شديد متمسكة باعمال العقل الذى نادى به كل الفلاسفة لتبديد ظلمة العقول واستنارتها .
0 comments:
إرسال تعليق