لماذا لبى سيد شعراء العربية الدعوة التي وجهها له الوزير البويهي ابن العميد ؟
وهل للملك البويهي
دور في توجيه هذه الدعوة ؟
سرا ترك أبو الطيب المتنبي مصر وكافورها الأخشيدي هربا من حالة تشبه السجن من وجوه كثيرة . غادر مصر تاركا فيها أشهر قصيدة ذم قالتها العرب حتى اليوم . وصف فيها كافورا وكان عبدا أسود كما يلي :
جود الرجال من الأيدي وجودهم
من اللسان فلا كانوا ولا الجود
صار الخصي امام الآبقين بها
فالحر مستعبد والعبد محمود
لا تشتر العبد الا والعصا معه
ان العبيد لأنجاس مناكيد
من علم الأسود المخصي مكرمة
أقومه البيض أم اجداده الصيد
أم أذنه في يد النخاس دامية
أم قدره وهو بالفلسين مردود
الى آخر القصيدة الشهيرة التي يؤاخذ الشاعر عليها من وجهة نظر عصرية غير منصفة تدينه بالميز العنصري والموقف المتعسف من السود كما هو واضح في الأبيات السالفة .
لست في وضع الناقد لمضمون القصيدة ولست قاصدا تقويمها فنيا لكني أسوقها كمدخل لفهم الظروف التي كان عليها الشاعر المتنبي حال قبوله الدعوة المعروفة لزيارة بلاد فارس والإقامة فيها حوالي نصف عام منعما بحفاوة الوزراء واكرام بعض ملوك فارس البويهين مثل عضد الدولة .
قبل أن يترك المتنبي مصر في عام 348 للهجرة كانت قد سجلت نفسية الشاعر ومعنويته هبوطا ملحوظا تحت وطأة حمى شديدة أصابته وقد تم تشخيصها على أنها أحد أطوار مرض الملاريا حيث تتواتر الحمى والرجفة كل أربع وعشرين ساعة وهذا ما حصل له وحسب وصفه لأعراض مرضه :
وزائرتي كأن بها حياء
فليس تزور الا في الظلام
وزائرته هي بالضبط هذه الحمى وارتفاع درجة حرارة جسده . أجلْ، فتحت وطأة هذا المرض تسربت الشكوى التي لم يكن يجرؤ على الإفصاح عنها علنا خوفا من بطش وغدر كافور الإخشيدي الذي أحاطه بالعيون والمخبرين وحدد اقامته في دار معينة خصه بها . ولم يكن كافور حسن الظن بهذا الشاعر الكوفي الذي غير مواقع ومواضيع الألتزام كثيرا في حياته العقائدية منها والسياسية . فاذا صحت الرواية فان المتنبي كان قد ادعى النبوة في بادية السماوة وسجن . وبعد اطلاق سراحه من السجن تعاطف مع القرامطة في الكوفة ثم خانهم فمدح أبا الفوارس دلير لشكروز .
ترك الكوفة ليتصل ولينقطع الى بلاط سيف الدولة الحمداني أمير حلب مادحا ومنادما وصديقا في السراء والضراء وفي السلم وفي الحرب . ثم يضيق به المقام لدى أمير حلب الشهباء فيقرر التوجه الى مصر مكاتبا أميرها كافور الأخشيدي منفذا سفرة ما أشد ما ندم عليها , اذ ظل يتحسر على حقبة مقامه في حلب بقية حياته . ولقد قارن مرة بين الحمداني والأخشيدي فقال :
وذاك أن فحول البيض عاجزة
عن الجميل فكيف الخصية السود
فالريبة وسوء الظن والشك المبطن كانت كلها مبررة ومتبادلة ما بين الإثنين .
عرف الإثنان كيف يداريان وكيف يلطفان من نتائج الجفوة هذه وتخفيف آثارها . لكن كافورا كان الأكثر قدرة على المناورة والمداراة بحكم كونه رجل سياسة وملك وما يتطلبه ذلك من دهاء . وكان في هذا على النقيض من صاحبه
المتنبي . فأبو الطيب شاعر وليس برجل سياسة . نشأ قريبا من البادية فتخلق بأخلاقها إباء وصرامة فكان دأبه المباشرة والتعامل مع الحقائق والمعطيات دونما مواربة أو مداراة . وقد لخص هو نفسه كل هذه الخلال والسمات التي جبل عليها ببيت شعري بالغ الدلالة :
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
لقد تأزمت الأمور مع كافور لدرجة يستحيل معها على المتنبي البقاء في أرض مصر . فلا طموحه يسمح ـ وكان كافور قد وعده أن يوليه امارة العراق أو أن يمنحه اقطاعا ولم ينفذ ـ ولا شاعريته الفذة تسمح بالمزيد من قول شعر النفاق والتكسب . فاللون الأسود أضحى بشعره شمسا سوداء , وعفن الآباط أمسى رائحة المسك , والجاهل بات أستاذا . فأية مهزلة وأية مقامرة تأباها النفس الشاعرة ويمجها الطبع الكريم والخلق الأصيل . الهروب إذا ً !! الهرب بالجلد والنفس
الأبية :
أقمت بأرض مصر فلا ورائي تخب بي الركاب ولا أمامي
يقول لي الطبيب أكلت شيئا وداؤك في شرابك والطعام
وما في طبه أني جواد أضر بجسمه طول الجمام
فأمسك لا يطال له فيرعى ولا هو في العليق ولا اللجام
هكذا اذا كان حاله في مصر . لقد نفث هذه الآهة البينة واقعا تحت تأثير المرض . وحاله هي حال الحصان المكبل لا يسمحون له أن يرعى بحرية ولا يؤمنون له مؤنة العيش بامداده بما يحتاج من علف وعليقة للعلف . ثم انه الحصان الذي أمرضه طول الأستجمام القسري بمنعه من الجري كباقي الخيول الحرة وحرمانه من الميدان المناسب ومن اعداده للأسهام في المعارك والحروب . لقد أبطرته فأمرضته نعمة محددة مفروضة عليه . لقد حيل بينه وبين الدور الذي يريد أن يلعب فلماذا لا يمرض ؟ ومرضه لا ريب مرض نفساني وليس جسديا داهمه عن طريق ما يأكل وما يشرب .
المقصورة -
بعد أن نجح في الهرب من مصر قال في ربيع الأول عام 351 الهجري وهو في الطريق الى الكوفة واحدة من عيون الشعر العربي التي استخدم فيها الألف المقصورة والممدودة رويا للقصيدة لذلك اشتهرت بالمقصورة . في هذه القصيدة نفس جاهلي - بدوي أهاجه دنوه من مسقط رأسه الكوفة والبادية والصحراء والبيئة الأولى حيث أمضى سني عمره المبكرة . لنستمع اليه يشير الى كافور غمزا ولمزا غاية في البلاغة والحجة :
لتعلم مصر ومن بالعراق ومن بالعواصم أني الفتى
واني وفيت واني أبيت واني عتوت على من عتا
ونام الخويدم عن ليلنا وقد نام قبل عمى لا كرى
وكان على قربنا بيننا مهامه من جهله والعمى
وماذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكا
وأسود مِشفرُهُ نصفهُ يُقالُ له أنتَ بدرُ الدُجى
الأبيات واضحة المعاني والإشارات بحيث لا تحتاج الى شروح . والخويدم هوكافور نفسه وكان الهروب ليلا على ما يبدو. وأسود المشافر هو كافور كذلك
حيث كان الرجل عبدا أسود كما تقدم .
المتنبي في كنف آل بويه في بلاد فارس
خرج أبو الطيب المتنبي من الكوفة عام 354 للهجرة ملبيا دعوة الوزير الفارسي أبو الفضل بن العميد حيث مكث لديه في مقاطعة أرجان مادحا ومستعذبا الحياة الجديدة ومستمتعا بطبيعة لم ير مثيلا لها من قبل بأستثناء بعض المناطق التي شهدها في بلاد الروم ( تركيا حينذاك ) وقتما كان يرافق سيف الدولة الحمداني في غزواته لتلك البلاد أو في صده لغزوات الروم وهجومهم على المدن والثغور العربية كما حصل في عام 344 الهجري حيث حاصرت الروم ثغر الحدث الذي بناه سيف الدولة قبل ذلك بعام . ثم وصفه البديع لجبال لبنان وقد أضطر يوما أن يقطعها في الشتاء وكانت الثلوج تغطيها .
لقد مدح ابن العميد في قصيدتين أو ثلاث فنال منه الهدايا النفيسة والجوائز السخية. وكان يستحق كل ذاك المديح والإطراء فلقد اشتهر ( أو شَهُر ) الوزير ابن العميد بالأدب وحفظ القرآن ودواوين شعراء الجاهلية والأسلام . وكان طويل الباع في الهندسة والمنطق والفلسفة وغيرها (2) .
قال المتنبي يمدحه في قصيدة ( أرجّان أيتها الجياد ) :
صغت السوار لأي كف بشرت
بابن العميد وأي عبد كبرا
بأبي وأمي ناطق في لفظه
ثمن تباع به القلوب وتشترى
من مبلغ الأعراب أني بعدها
جالست رسطاليس والإسكندرا
يشبه ابن العميد بالحكيم أرسطوطاليس وبالإسكندر المقدوني في شجاعته وعلمه واتساع ملكه . ومن قصيدة أخرى يهنئه فيها بعيد النيروز الذي يوافق عادة اليوم الأول من السنة الهجرية :
عربيٌّ لسانه فلسفيٌّ رأيه فارسية أعيادُه
خلق الله أفصح الناس طرا في مكان أعرابُه أكرادُه
والأبيات أفصح في مجملها من أن تحتاج الى شروح وتفاسير .
فهل كان أبو الطيب المتنبي منافقا في مدحه وكاذبا متملقا أم أنه كان مقتنعا بما قال ؟؟؟ الكل يعلم أن المتنبي يبالغ ويطنب في كيل المديح لممدوحيه ويجود فيما يقول لدرجة يتعسر معها القطع أصادق الرجل أم إنه يفتري ويكذب . واذا مدح استوى لديه الممدوح سواء أكان ملكا كسيف الدولة الحمداني أم عبدا أميرا مثل كافور الإخشيدي أم زعيم قبيلة مغمور أو قائد عسكري غير عربي . وديوانه يطفح بالأمثلة على ذلك . فقد مدح قائد الحملة العسكرية التي نكلت بالخوارج في الكوفة ( العراق ) دلير بن لشكروز في واحدة من روائع قصائده المعروفة قال فيها :
تريدين لقيان المعالي رخيصة
ولا بد دون الشهد من إبر النحلِ
ولقد صار هذا البيت مضربا للمثل .
فاذا كان الأمر كذلك في وطنه وفي الكوفة مسقط رأسه فما الذي يحول بينه شاعرا وبين أن يمدح الوزراء والأكابر من غير العرب في أو على أراضيهم . كانت الأمور واضحة لديه : عرض وطلب ! وجهت له الدعوة أن يرى بلدا لم يره من قبل وأن يقابل أناسا طبقت شهرتهم الآفاق علما وأدبا وثراء ثم هم مثله مسلمون .
وما كانت للشاعر من صنعة أو موهبة خلا الشعر فرسه ورمحه ولسانه الذي قتله في نهاية المطاف . وكان في ظرف نفسي حاد وخيبة أمل غاية في التطرف بعد أن فشلت له تجربتان واحدة في حلب من بلاد الشام والأخرى في أرض الكنانة مصر . معزول في الكوفة مدحور ومأزوم نفسيا بعد أن راهن فخسر كل شيء . وفجأة تأتيه دعوة الوزير الفارسي ابن العميد لزيارة أرجان وشيراز وباقي أنحاء دولة بني بويه . وداعيه رجل معروف أديب ألمعي موهوب ولديه المال والأحجار الكريمة والدر والذهب ، فضلا عن جمال الطبيعة في بلاد فارس . فما عساه يروم أكثر من ذلك ؟؟؟ ليس من سبيل أمام الشاعر لرد الجميل الا الشعر . وكيف يكون الرد اذا لم يكن مديحا ومديحا فوق العادة وغير المسبوق . وشاعرنا فارس ميدان المديح بلا منازع .
المتنبي وعضد الدولة
ترك الشاعر الوزير العلامة والأديب ابن العميد متوجها الى شيراز اذ ورد عليه كتاب الملك البويهي عضد الدولة يقترح عليه أن يزوره . وكان ذلك في عام 354 الهجري , أي في عام وصوله بلاد فارس . أقام الشاعر ضيفا لدى عضد الدولة فنظم فيه وله ثمان قصائد في مناسبات شتى , احداها كانت لمناسبة وفاة عمة
الملك .
على أن أروع ما قال المتنبي في عضد الدولة هي القصيدة التي أسماها ( أبوكم آدم سن المعاصي ) . ففيها الرد على ملاحظات المرحوم طه حسين حول خلو شعر المتنبي من وصف الطبيعة وابراز مفاتنها . وكذلك فيها رد على بعض الأقلام التي أساءت فهم الرجل وشوهت عن قصد خبيث معاني ومغازي هذه القصيدة العصماء . فالتغزل بجمال طبيعة بلاد فارس واضح وضوح الشمس في رابعة النهار . وانسجام الشاعر مع هذه الأجواء هو الآخر واضح . والنعمة التي رفل بها في ظلال آل بويه لا غبار عليها . والقصيدة جاءت خلوا من أي لمز أو اشارة أو تضمين يمكن أن يفهم منه أن للشاعر ملاحظات على الفرس أو أن لديه مآخذ عليهم أيا كانت (3) كان في ذروة النعيم وقمة النضج الفني واكتمال الموهبة بشهادة طه حسين في كتابه ( مع المتنبي ) حتى أنه قال فيه ( لو عاش بعد ذلك لأتى بالأعاجيب ) ( 4 )
افتتح المتنبي هذه القصيدة بوصف الوادي الخلاب المسمى ( شِعب بوّان ) قائلا:
مغاني الشعب طيبا في المغاني
بمنزلة الربيع من الزمان
ومن ذا يجهل قيمة فصل الربيع بين بقية فصول السنة بالنسبة لسكان العراق وسوريا ومصر الوادي هو الربيع بعينه طقسا وورودا وريحانا . إن الشاعر يأسف ويتوجع بصراحة لأنه غريب على هذه المناحي ولأنه من بلد آخر وطينة أخرى وطقس آخر
ولكنَّ الفتى العربيَّ فيها
غريبُ الوجه واليد واللسان
غربة اللسان واضحة اذ لم يتكلم الشاعر اللسان الفارسي ولم يفهمه . ولكن ما مغزى غربة الوجه واليد ؟ أكانت وجوه ملوك فارس حليقة خلاف وجوه العرب ؟ أكانت أيديهم خالية من الوشم الأزرق أو أنها خالية من الشَعر ؟ أم أنه قصد لون البشرة الأسمر مقارنة مع بشرة العجم الحمراء ؟ وماذا عن غربة اليد ؟ هل قصد غرابة الخط الفارسي الذي لم يكن يعرف قراءته ؟ جائز .
يقول الدكتور علي شلق ( 5 ) في كتابه ( المتنبي ) :
(( ان هذه البقعة التي يصفها الشاعر لا يماثلها جمالا في بلاد الشرق الا تلك الغابة التي تستقبل المسافر بين اللاذقية وانطاكية )) .
والمتتبع لهذه القصيدة يدرك بيسر صدق وحرارة انفعال المتنبي رغم مبالغاته المعروفة عنه التي يكيلها جزافا لممدوحيه سعيا وراء كشوفات شعرية وسبق في النظم الفني سواء في المعاني أو في دلالات الألفاظ . أو ربما انجرافا مع حمم براكين تفجر اللحظات الملهمة للعبقرية الفنية التي يضؤل أو يختفي في ظلالها وأثنائها عقله الواعي . وعندما تبرد الحمم لا يستطيع التراجع فلا يهمل ما قد قال من مبالغات مصنوعة . ففي ختام هذه القصيدة قال المتنبي في عضد الدولة :
ولولا كونكم في الناس كانوا
هراء كالكلام بلا معان
فهل هذا صحيح ؟ وهل الشاعر نفسه مقتنع بهذا الكلام ؟ كل البشر كلام فارغ لا معنى له ولا طعم
ولا مغزى لولا وجود عضد الدولة وطفليه في هذا العالم .
سبق وأن قال المتنبي شيئا قريبا من هذا أو حتى أكبر منه في سيف الدولة الحمداني . وعليه لا نستغرب منه ذلك سوى أن الأمر الجديد هو أن الممدوح فارسي الأصل والفصل وليس عربيا كالحمداني سيف الدولة .
مصادر البحث -
1- ديوان المتنبي . دار بيروت للطباعة والنشر . بيروت 1980 .
2- الدكتور محمد سويسي . (( أدب العلماء في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الهجري )) . منشورات الدار العربية للكتاب . ليبيا - تونس 1977 .
3- محي الدين صبحي . (( من كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه )) . منشورات وزارة الثقافة والأرشاد القومي . دمشق 1978
4- الدكتور طه حسين (( من تأريخ الأدب العربي )) الجزء الثالث . دار العلم للملايين . بيروت . شباط ( فبرابر ) 1980 . الطبعة الثالثة .
5- الدكتور علي شلق . (( المتنبيء شاعر ألفاظه تتوهج فرسانا تأسر الزمان )) .
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . بيروت . لبنان 1982 .
0 comments:
إرسال تعليق