منذ العام 2016 تاريخ الإنتخابات الفيدرالية السابقة وكل استطلاعات الرأي والتي بلغ عددها 56 إستطلاعاً كان حزب العمال المعارض يتقدم على الحكومة بنسب تراوحت بالحدى الأقصى بين 54-46 والحد الأدنى 51- 49 وهذا ما كانت عيله صباح يوم السبت الماضي 18/5 يوم الإنتخابات العامة.
بسبب تلك الإستطلاعات دارت معركة سياسية منهكة داخل حزب الأحرار الذي تخلص من رئيس الوزراء مالكوم تيرنبول في شهر آب من العام الماضي، وكان تيرنبول قد إنقلب على طوني أبوت عام 2015 بسبب إستطلاعات الرأي أيضاً.
لكن وبعد إغلاق صناديق الإقتراع السادسة مساء السبت 18 أيار وبدء فرز الأصوات بدأت الأرقام تفيد بتقدم حزب الأحرار وحليفه الحزب الوطني، وقبيل منتصف الليل كانت النتائج تخطئ كل إستطلاعات الرأي السابقة حين ظهر زعيم المعارضة الفيدرالية أمام مناصريه في مدينة ملبورن معلناً خسارة حزبه الإنتخابات ومهنئاً سكوت موريسن وأعلن عن عدم نيته البقاء في منصبه أو الترشح لشغله من جديد ولكنه سيحتفظ بمقعده في البرلمان.
من جهته رئيس الوزراء سكوت موريسن والذي كان ينتظر مكالمة زعيم المعارضة كما يقضي البروتوكول أطلّ على محازبيه في مدينة سدني ليعلن عن الإنتصار المعجزة كما سماه في خطاب النصر.
ومن هنا يأتي السؤال كيف حصلت المعجزة، وهل صحيح أن هناك من معجزات أو خطاء من حزب العمال أو إداء أفضل من تحالف الأحرار- الوطني؟
حزب العمال قدم للناخبين برنامجاً إنتخابياً طموحاً ووعد بتغير في النظام الضريبي يشمل تخفيض نسبة الضريبة على أرباح رأس المال من 50% إلى 25% وحصر الإستثمار السلبي المعروف ب(النيغتيف غيرينغ) بالمنازل الجديدة فقط من تاريخ فوزه بالإنتخابات. ووعد الحزب ايضاً باقتطاع تقديمات مالية لبعض المتقاعدين المعروفة ب (فرنكن كريدت) وكان الحزب ينوي فرض ضرائب على معاش الإدخار التقاعدي كل ذلك من أجل تأمين الأموال المطلوبة للتعليم والصحة والبنى التحتية. ووعد الحزب بتخفيض نسبة انبعاث الكربون بالجو إلى 50% حتى العام 2030 للحد من التغيرات المناخية من خلال الحد من استعمال الفحم في إنتاج الطاقة حيث كان الحزب يعارض مبدئياً افتتاح المنجم المعروف باسم آداني في ولاية كوينزلند والإستثمار في قطاع الطاقة المتجددة. من ضمن البرنامج الطموح وعد حزب العمال بمساعدة مرضى السرطان بتغطية كلفة العلاج 100% بالإضافة إلى تقديم مبلغ بقيمة 2000 دولار في عامين للمتقاعدين كمساعدة في علاج أمراض الفم والأسنان ووعد الحزب برفع أجور العاملين في قطاع رعاية الأطفال بنسبة 20% خلال فترة حكمه الأولى بالإضافة إلى ورصد الحزب مبلغ يفوق المليار دولار لشراء الأراضي لبناء خط قطار سريع يربط ولاية كوينزلند ونيو سوث ويلز وولاية فكتوريا. وتعهّد الحزب في خطته أيضاً بصرف مبالغ كبيرة لتمويل خطة كونسكي لتحسين إداء المدارس الرسمية والخاصة قرابة 20مليار دولار ومن ضمن الخطة وعد العمال بإعادة الإعتبار للمدارس المهنية الرسمية (التيف) وبتأمين أماكن لأصحاب الدخل المحدود ودعم مالى لحصولهم على شهادات تخولهم دخول سوق العمل للحد دخول من دخول اليد العاملة الأجنبيةوالتي تعهّد الحزب بالتشديد في استقدامه للبلاد الا اذا كان هناك نقص لا يمكن تأمينه من اليد العاملة المحلية.
وعلى الجانب الثقافي والوطني تضمّن برنامج العمال إجراء استفتاء للإعتراف بالسكان الأصليين في الدستور واستفتاء آخر لتحويل أستراليا إلى جمهورية واستفتاء ثالث لتعديل المدة الزمنية للدورة الانتخابية من 3 سنوات الى اربع.
أما الحكومة فقد بنت حملتها الإنتخابية تحت شعار إدارة الإقتصاد وإيجاد المزيد من الوظائف وإعادة الفائض للميزانية ووعدت بتخفيضات ضريبية وتعديل النظام الضريبي ابتداءاً من عام 2023 بحيث تصبح نسبة الضرائب 30% للمداخيل التي تتراوح بين 40 ألف إلى 200 ألف دولار سنوياً. ولم تقدّم الحكومة خطة للحدّ من الإحتباس الحراري مكتفية ببرنامجها المعروف بالتدخل المباشر والذي يكلف الخزينة قرابة 3 مليار دولار سنوياً والذي تدفع بموجبه للشركات لتشجيعها للحد من انبعاث الكربون في الجو متعهدة في نفس الوقت الإلتزام بمقرارات مؤتمر باريس بهذا الخصوص والعودة إلى مستوى الإنبعاث في العام 2005. وكانت الحكومة قبيل أن تتحوّل إلى حكومة تصريف أعمال هرّبت مشروع قرار منح الرخصة وإعطاء الضوء الاخضر لبدء العمل في منجم آداني الذي سبق ذكره في ولاية كوينزلند. وفي حملته الإنتخابية وعد سكوت موريسن بمساعدة مشتري البيت الأول لدفع التأمين المالي الاولي ب15 % من هذا المبلغ ورصد لهذا البرنامج مبلغ 500 مليون دولار إبتداءاً من العام القادم.
وعلى الجانب السياسي كيف سارت الحملة الإنتخابية والتي استمرت لخمسة أسابيع حيث عمد رئيس الوزراء سكوت موريسن ولكسب المزيد من الوقت إلى تأخيرها إلى آخر اسبوع من المدة القانونية المتبقّية من عمر حكومته.
حزب العمال والذي كان يقوده بيل شورتن الذي كان يأتي دائماً متأخراً عن رئيس الوزراء في استطلاعات الرأي كمفضل لشغل منصب رئاسة الوزراء وهو لا يملك الكاريزما المطلوبة، واعتمد في خطابه على تقديم نفسه بأنه يرأس فريقاً متماسكاً جاهزاً للحكم بعكس الحكومة التي اشغلت خلال السنوات الست الماضية بالفوضى والصراعات الداخلية والإنقلابات، وقدمت 3 رؤساء للوزراء خلال تلك الفترة (ابوت، تيرنبول وموريسن) ووعد الناخبين بعدالة أكثر التي جعلها كشعار لحملته الانتخابية ولكنه أخفق في عدة مناسبات في شرح برنامج الحزب الإنتخابي وهذا ما إعترفت به نائبته تانيا بليبرسك.
من جهته رئيس الوزراء قاد حملة إنتخابية بإسلوب رئاسي وركّز على أنه لا حاجة للتغيير، وتميزت حملته بالتخويف من برامج العمال وحصر الأمر بنفسه حيث توارى إلى الخطوط الخلفية وزراء ونواب الحكومة ولم يظهروا لى وسائل الاعلام وكان موريسن يردد دائما
The bill Australia can't afford
بمعنى الفاتورة التي لا يمكن أن تتحملها أستراليا أي أن يصبح بيل شورتن رئيسا للوزراء باللعب على الكلام على إسم بيل شورتن والتي كان لها صدى واسعاً وانتشرت كالنار في الهشيم على ألسنة المتضررين من برامج حزب العمال.
وركز موريسن أيضا على مسالة الثقة بمن يكمنه تأمين الوظائف وإدارة الإقتصاد وحماية الحدود.
بالإضافة إلى الحملة الحكومية كانت بعض الأحزاب اليمينية الصغيرة تحذّر من سياسات حزب العمال، حيث أنفق الملياردير كلايف بالمر مبلغ 60 مليون دولار على حملة حزبه أستراليا المتّحد والتي تجاوزت ما أنفقه الحزبين الكبيرين مجتمعين ولم يحصل على أي مقعد سواء في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب، لكنه أمّن الفوز للأحرا ر والوطني في ولايتي كوينزلند وغرب أستراليا بتداول الأصوات التفضيلية معهما وهذا ما فعله أيضا حزب بولين هانسون أمة واحدة.
وبعد هذه النتائج بدأت التحليلات، وحاول البعض تشبيه الإنقلاب في مزاج الناخبين ومخالفة إستطلاعات الرأي بما حصل في الولايات المتحدة بانتخاب ترامب، او كما حصل في بريطانيا بعد الإستفتاء على البركزيت وخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي، لكن ذلك وبإعتقادي لا ينطبق على ما حصل في الإنتخابات الاسترالية حيث تراجعت لا بل اختفت من الحملة الإنتخابية قضايا الهجرة واللاجئين خصوصاً بعد الجريمة الإرهابية التي وقعت في نيوزيلندا والتي نفّذها مواطن أسترالي، وكان هناك اتفاق ضمني بين الحزبين الكبيرين على تحييد القضية، ولكن رئيس الوزراء كان يقارب الموضوع تحت شعار حماية الحدود وهو الكود السري لهذا الموضع، علما ان ترامب ومؤيدو خروج بريطانيا من الأتحاد الأوروبي لجأوا الى أسلوب التخويف من المهاجرين ومن المسلمين والمكسيكيين.
الدليل الآخر على عدم إمكانية المقارنة حيث لعبت قضايا محلية دوراً مهماً في المعركة الانتخابية هو خسارة رئيس الوزراء الأسبق طوني أبوت (أحرار) مقعده بعد معركة إنتخابية ضارية في مقعد وارنغا لصالح المرشحة المستقلة زالي ستيغل التي قادت حملتها الإنتخابية تحت شعار مكافحة التغييرات المناخية، ومن الادلة أيضاً رفض الأستراليين الخطاب المعادي للصينيين الذي قاده كلايف بالمر رئيس حزب أستراليا المتّحد الذي لم يفز بأي مقعد كما تقدم، بالإضافة إلى خسارة النائب العنصري فرايز آننغ مقعده في مجلس الشيوخ والمعروف عن آننغ انه يجاهر بالعودة إلى سياسة أستراليا البيضاء ووقف هجرة المسلمين.
وهناك أدلة أخرى كتصويت سكان ولاية كوينزلند لجانب الحكومة خوفاً من خسارة وظائفهم في قطاع المناجم، وأحد هذه الأدلة أن ثلث الناخبين (أكثر من 4 مليون) أدلوا بأصواتهم قبل يوم الإنتخابات حيث يسمح القانون بذلك بداعي السفر أو المرض، وهذا إن دلّ على شيء فإنه يدلّ على نسبة كبيرة من الموطنين غير مهتمة بما يقوله السياسيين واعتبرها بعض المحللين كمرض للديمقراطية وسينظر الحزبين بتخفيض تلك المدة من 3 أسابيع الى أسبوع واحد.
ماذا بعد الإنتخابات والإنتصار المعجزة؟ كيف سيكون المشهد السياسي؟ وكيف سيعالج العمال تداعيات الخسارة؟ وكيف سيحكم سوكت موريسن؟ وكيف سيقود الحزب الذي مزقته الخلافات حتى إلى ما قبل الانتصار المعجزة؟!
العمال بدأوا البحث عن زعيم جديد، وبدأت تطل برأسها الخلافات بين جناحي الحزب اليمين واليسار، وحتى تاريخه قدّم ترشيحه كلاً من انطوني البانيزي من جناح اليسار وكريس بوين من جناح اليمين الذي سحب ترشيحه بسبب دعم قياديين بارزين من جناح اليمن لألبانيزي. وكانت تانيا بليبرسك نائبة رئيس الحزب من جناح اليسار سحبت ترشيحها رغم أنها تحظى بدعم جناح اليمين ونقابات العمال وتتردد أسماء اخرى تنوى المنافسة على المنصب ويختار زعيم الحزب بالإنتخاب من الأعضاء الحزبيين ومجلس قيادة الحزب "الكوكس" ، وقد برزت انتقدات شديدة لبيل شورتن لمحاولته لعب دور سلبي في اختيار خلفه بسبب تشكيكه بمواقف البانيزي أثناء الحملة الانتخابية.
رئيس الوزراء والذي إعتبرإنتصاره تفويض شعبيّ، بدأ مشاورته لتشكيل حكومته الجديدة بعد أن أمّن أكثرية في مجلس النواب ولم يعد بحاجة إلى أصوات النواب المستقلين ماذا سيقدم للناخبين وما هو هو موقف الأحزاب الصغيرة والمستقلين الذين يملكون ميزان القوى في مجلس الشيوخ الذي يسيطر فيها الأحرار والحزب الوطني 34 مقعداً وهم بحاجة إلى39 صوت لتميرير مشاريع القوانين.
ويبقى السؤال الوجيه كيف سيواجه موريسن وحكومته القضايا الملحّة والوفاء بوعوده الإنتخابية من التخفيضات الضريبية إلى تخفيض أسعار الطاقة وهل سيمكنه الإستمرار في تجاهل قضية التغييرات المناخية وهل المحافظة على الوضع كما هو سيؤمن الوظائف التي وعد بتأمينها خلال السنوات الثلاث القادمة (مليون و250 ألف وظيفة) في وقت بدأت ترتفع نسبة البطالة مجاوزة نسبة 5% حيث وصلت إلى 5.2% خلال الربع الأول من العام الحالي. وبرزت نية البنك المركزي تخفيض الفائدة بنسبة ربع من واحد بالمئة لتحفيز الإقتصاد المتباطئ وكان البنك المركزي توقع تراجع النمو الاقتصادي من 3.3% الى 2.2% في السنة المالية الحالية وهذا ما بدأ ظاهراً للعيان في قطاع البناء وتراجع أسعار المنازل خصوصاً في سدني وملبورن، وهناك قضية جمود المعاشات المستمرة منذ اكثر من ست سنوات، وإعادة الفائض للميزانية الذي وعد به في ميزانية نسيان الماضي لانه بدون تحريك عجلة الاقتصاد وتحفيزه لا يمكن الوفاء بوعوده الانتخابية، وحول هذا الموضوع يقول الخبير الاقتصادي ومحرر الشؤون الاقتصادية السابق في صحيفة "الفايننشل رفيو" الن ميتشل ان موريسن إستطاع ربح الانتخابات بحماة انتخابية بأسلوب قديم في وقت نحن بأمس الحاجة لنوع جديد من الحكومات.
يبقى من المهم أن نشسير إلى أن مؤسسات إستطلاع الرأي والتي تضرّرت سمعتها، بدأت بالعمل على إعادة النظر في جمع معلوماتها لتماشي العصر الإلكتروني والرقمي وشبكات التواصل الإجتماعي.
أخيرا، هناك ملاحظة مهمة وملفتة للنظر أن سكوت موريسن هو أول رئيس وزراء أسترالي يستعمل بارك الله أستراليا.
عباس علي مراد
Email:abbasmorad@hotmail.com
0 comments:
إرسال تعليق