د. عامر عبد اللـه جنداوي شاعر ناعم رقيق مرهف الاحساس مسترسل مجيد ، خصب الخيال ، طافح بوهج الكلمة الشفيفة ، عرفناه بقصائده الوجدانية والعاطفية الانسانية . ولد ونهض شاعرًا ، وفي فمه فم ذهبي آخر ، معمد بالكلمات الجديدة الجميلة ، نهر عماده حبر يراعه ، ومصادره إنسانية منتفضة . يبدع في صياغة المعاني والمفردات ، يطير على قمره ، ويحلق في فضاء الشعر والابداع الصافي ، جاعلًا لكلماته نكهة الريف والبادية ، وطعم الخروب والحبق الجليلي ، ويقدم على أطباقه الشعرية ألوانًا من الصيغة التعبيرية ، متألقًا في تعابيره النثرية ، غازلًا من ضوء الشمس حروفًا حريرية أنيقة تداعب وتدغدغ المشاعر وتلج الاعماق دون استئذان .
عامر جنداوي من مواليد قرية بير المكسور في الجليل العام 1957، أنهى دراسته الابتدائية فيها ، والثانوية في شفاعمرو ، التحق بجامعة حيفا ، ثم بجامعتي بطرسبورغ وبير زيت ، وهو حاصل على الدكتوراه بموضوع التربية من جامعة بير زيت .
اقتحم عالم الابداع منذ فترة مبكرة ، فكتب الشعر والمقالة الأدبية ، ونشر أشعاره وقصائده في الصحف والمجلات الأدبية والثقافية التي كانت هنا وفي الضفة الغربية ، كالمواكب والشرق والفجر الادبي والبيادر .
صدر له : " في مفازة الحياة ، ألم وامل ، نزيف الخاطر ، وقصائد لعيني السهر " .
في قصائده يتناول جنداوي بأسلوب شائق ماتع ، ولغة رشيقة شجية ، قضايا إنسانية ووطنية وموضوعات وجدانية وغزلية ورومانسية . نظم في جميع الاغراض كالوصف والغزل والرثاء ، وشعر المحافل ، والشعر الوطني الملتزم ، والشعر الاجتماعي الداعي إلى التمسك بالقيم والفضائل . وكتب عن الحب ، ناجى الحبيبة ، وعانق الأرض وتراب الوطن ، وتغنى ببلاده ، وبالطبيعة الساحرة الخلابة ، فأبدع وأجاد الوصف والتعبير .
من قصائده الجميلة اخترت قصيدة " مُهاجِرّ قلبي إليك" ، حيث يقول :
مُهاجِرٌ قلبي إليكَ
إلى زُرقة البحرِ في عَينيَك
مًهاجِر قلبي،
إليكَ...
ولي اِسمٌ تُرَدِّدُهُ النّوارِسُ،
يحملُهُ الهُداةُ إلى المجالِسِ
وَهَبْتُ العُمْرَ لِلقَلَمِ،
يُسافِرُ
على حدّ الزّهَر
سيفًا
ورُمحًا
وبُندقيّة...
يرسُمُ خارِطةَ التُّرابِ
والحجارة...
هنا زيتونةٌ
وهنا غرسَةُ تينٍ..
هنا النّبعُ
وهنا عتْبَةُ البيت...
هنا ترعى صُغيراتُ الشّياه
وهنا الصّغارُ
يرسمون لوحةَ الصُّبح
الّذي يحلمون
لَوحَةَ الشّمسِ الّتي
لا يُبصرون...
لَوحةً لوجوهِ أصحابهم
قبل الموتِ
وبعدَ الموت.
لَوحةً لزوجاتهم...
قبل الموت
وبعد الموت...
لوحةً لبيوتهم
قبل الموت
وبعد الموتْ.
لوحةً لعدوّهم
قبل الموت
وبعد الموتْ.
هنا برجُ الحمائمِ
يُطِلُّ على ساحةِ الجارِ
يسمَعُ دَقَّةَ المِهباش
يدعوهُ لِشُربِ القهوَةِ "السّادة"
لِفنجانٍ منَ "المُرَّة"...
هنا ستُقامُ أعراسٌ
لأحياءَ ... لأمواتٍ...
لِسماءٍ تُرْبُها طُهْرٌ
أقْسَمَتْ
ألّا يُميطَ حِجابَها الأغرابُ،
للرّفيقِ
لِلصّديق
وابْنِ العمِّ...
لِغَيمةٍ سَمراءَ
تَحومُ فوقَ ضَيعَتِنا
تؤمِنُ بتناسُخِ الأرواحِ
تظهَرُ في تمّوزَ
بِانْحناءِ السّنابلِ
وَارْتفاعِ البيادِرِ...
هُنا سنبني غُرفَةً
ونفرِشُها
نُزيّنُها،
بأنوارٍ ونيرانٍ
لعَودَتِهِ...
لعَودةِ الظّلِّ
يفرِدُ فوقَ عَيْنِ "الشَّمسِ"
أجنِحَتَه...
مُهاجِرٌ قلبي
إليك... .
قصائد عامر جنداوي مترعة بالجمال الشاعري ، بالاستعارات ، والايحاءات ، متفجرة الأحاسيس ، متدفقة كالشلالات ، منسابة كرقرقات الماء في الجداول والوديان ، وما يميزها الرقة والعذوبة والعفوية والوضوح ، دقة المفردات ، جمال الاستعارة ، قوة الحبكة ، وتوظيف المحسنات البلاغية كالبديع والسجع والتورية .
عامر جنداوي جواد شعري أصيل يمتطي سرج القصيدة ، وغواص ماهر يعرف كيف يصطاد أصداف الكلمة ، يرسم صورًا تتعانق فيها الألفاظ والمعاني ، وتتسامى فيها العواطف والمشاعر ، ويقدم للقارئ نصوصًا بحمولة شعرية مكثفة الدلالات ، يجسدها الانزياح اللفظي أسلوبًا ، ويتجاوزها المألوف شكلًا ، يتعالى فيها الايقاع الخارجي لجرس موسيقي حروفي وايقاع داخلي هادئ خفيف وغير صاخب .
عامر جنداوي موهبة شعرية متوقدة ذات ثقافة متنوعة ، يرقص على رقة المعنى ، يداعب الروح ، ويعانق الحوريات بهمس الوجود ، ويتنقل في ظلال الشعر ، استطاع ان يحفر له اسمًا على صخرة القصيدة في المشهد الشعري والأدبي الراهن ، برصانة وهدوء دون ضجيج ، وغزل من الحروف والكلمات أكوام زهر من البوح الراقي والشفافية الجميلة . فله خالص التحيات والتمنيات بالنجاح الدائم والتألق المتواصل والابداع المتجدد والوصول إلى سلم المجد الشعري .
0 comments:
إرسال تعليق