حتى نهاية فبراير الماضي كان كبار المستثمرين وأصحاب القرارات المالية والسياسية يعتقدون أن فيروس كورونا سيكون ذا أثر محدود على الاقتصاد العالمي، وقد تكون تداعياته الكبرى مقتصرة على الاقتصاد الصيني.
ولكن مع تفشي الفيروس في أكثر من 180 دولة ووفاة أكثر من 44 ألفًا بدأت نظرة مجتمع الأعمال واسواق المال تتغير تجاه الفيروس، خاصة بعد أن صنفته منظمة الصحة العالمية في خانة «الوباء الخطير» الجائحة.
ويتساءل موقع (almasdaronline) وغيره من المواقع، ما هي الآثار التي سيتركها تفشي الفيروس على الاقتصاد العالمي؟ فإن من المؤكد أن يواصل تمزيق الروابط التجارية والانسياب السلس للسلع والبضائع والخدمات بين الدول والقارات، وهي الروابط التي بنتها العولمة خلال عقود من الزمان.
وفي سؤال آخر لا يقل أهمية، هل سيقضي الفيروس على ما بقي من العولمة ويعيد الدول الى الانغلاق التجاري والاقتصادي الذي يدعو إليه الرئيس دونالد ترامب والتيارات الشعبوية في أوروبا؟
وفي هذا الشأن، ووفقًا للمصدر، يرى الخبير الاقتصادي الأستاذ في جامعة «لندن سكول أوف ايكونوميكس» فليب ليغرين أن «أزمة كورونا ستحد من العولمة، وستضعف المنطق الذي يستند إليه الانفتاح الاقتصادي وإزالة الحدود التجارية بين الدول والانسياب الحر للسلع والخدمات الذي كان قائمًا بينها».
ويقول ليغرين في مقال نشر في فورين ريبورت: «تداعيات الفيروس ستقوي التيارات الشعبوية التي تعتقد بتعزيز سلطة الدولة والتركيز على الاحتياجات الاجتماعية المحلية على حساب حرية الأفراد والتعاون بين الدول».
ولاحظت صحيفة «نيويورك تاميز» في تقرير أن العولمة منذ مجيء الرئيس دونالد ترامب تواجه صعوبة حقيقية، إذ تضغط إدارة ترامب على الشركات لعودة مقار التصنيع في أمريكا بدلاً من الصين.
في حين يعتقد الفريق الذي يدير التجارة والصناعة في إدارة ترامب أن العولمة أفادت الاقتصاد الصيني على حساب الاقتصاد الأمريكي، إذ نقلت الصين التقنية الأمريكية، ومهدت لسرقة الملكية الفكرية، كذلك منحت البنوك الأمريكية القروض التي مهدت لنمو الاقتصاد الصيني بمعدلات تفوق 15% بينما جعلت المواطن الأمريكي مستهلكًا للصناعات الصينية، وبالتالي وفّرت الأسواق لتمدد المنتجات الصينية.
وفي أوروبا تعتقد التيارات الشعبوية التي نمت في الآونة الأخيرة على حساب الأحزاب التقليدية، أن كارثة ارتفاع البطالة في أوروبا وتدني الخدمات التي تقدمها دولة الرفاه في العديد من الدول الأوروبية ترجع بالأساس إلى اغتيال التصنيع الصيني الرخيص للمنتجات في أوروبا وتنامي الهجرة من الشرق الأوسط وأفريقيا التي تستهلك الخدمات المجانية التي تنتجها دولة الرفاه في أوروبا.
ويعني -بحسب رأي البروفسور فيليب ليغري- أن «فيروس كوفيد 19» سيدعم التيار المناهض للعولمة في أوروبا وأمريكا، وقد يمنحه أسلحة جديدة.
إذا ما أردنا الحديث عن العولمة في زمن الكورونا، فإنه من الأهمية بمكان التطرق إلى تجربة العقود المعولمة التي يزعم الكثير من المحللين السياسيين، ومن بينهم الكاتب أحمد جابر (المدن مارس 2020)، أنها وعود خائبة لأن غلب عليها طابع الأمركة في تسعينات القرن الماضي، جاءت مخيبة، ولم تحصد الدولة الوطنية التي صدقت الوعود المعولمة بأكثر من فتات رأسمالي دولي، جعلها تابعة أكثر، ومقيدة بقيود الإجراءات والسياسيات التي تفرضها «دولة المركز الرأسمالي»، ما انعكس تعثرًا في الاقتصاد، وتوترات اجتماعية وفروقات «فئاتية» بين الشرائح المجتمعية.
خلاصة العولمة كما طرحها منظرو الرأسمال العالمي، وكما أفصح عنها قادة دول التجارة العابرة للأوطان، جعلت العالم سوق تبادل منتجات، وبالرغم من مزاياها إلا أنها أفسدت ما كان قد بقي فيه من منظومة قيم وفلسفات إنسانية موروثة، وقلصت مساحاتها المكانية وفضاءها التواصلي الذي يربط بين تجربة إنسانية وطنية محلية، وبين تجارب الوطنيات المحلية الأخرى، فالفرد غير مرغوب فيه إلا اذا كان على هيئة سلعة، وإلا اذا اختصر في شخصه مبدأ «نقدًا وعدًا» واستجاب بوضوح لمبدأ «من يدفع يحمل»، وهذا المبدأ القريب إلى جيوب «الأخلاق الرأسمالية»، الوباء الذي أخذ الجميع الى عولمته لم يعبأ بصياح المختلفين على أسبابه والشرح والتفسير، ووضع العالم مجتمعًا أمام مسؤولية العولمة الصحيحة، بأبعادها الأخلاقية والإنسانية أي بكل ما يتعلق بالكائن الإنساني، وبشرط استمرار حياته المعيشية كحياة أولاً، أي حياة فيها كل معاني الحياة في مضمار الإنسانية وأخلاقها، أسقط كورونا أخلاقية العولمة، وكشف ادعاءاتها، الدليل على ذلك انكفاء كل دولة وطنية على ذاتها.
بمقدار ما رفع وباء كورونا الستار عن جوانب مستترة في عملية العولمة أعاد الدولة إلى مسؤولية الدولة الوطنية عن مواطنيها وعن اختيار الأنسب من السياسات التي تقود فعلاً إلى الاستفادة من العولمة، سياسات تجمع بين ضرورة الاتصال والتفاعل مع التحولات العالمية، وبين التدرج في الانتساب إلى العالم انتسابًا جديدًا، وفق مرجعية المصالح الوطنية العامة، التي يكون فيها الفرد أولوية، والمجتمع فيها أولوية، وانطلاقًا من هاتين الأولويتين، على أساس تقارب كل السياسات الوطنية الأخرى.
هكذا نظرة الآخرين الذين يدعون إلى معالجة الحاضر بالماضي، وتختلف مع الذين ينادون بإقفال الحدود.
باختصار «كورونا» يشكل ضربة قوية للنظام الدولي القائم منذ الحرب العالمية الثانية؛ لأن هذا الوباء الذي يهدد البشرية أسهم في إسقاط مفهوم العولمة.
يرى هنري فاريل وابراهام نيومان، في مقال مشترك لهما في مجلة «فورين افيرز» الأمريكية، أن فيروس كورونا الجديد يشكل اختبارًا حيويًا لنظام العولمة الذي تعتمده الاقتصادات الكبرى في العالم، فمع تفاقم الأزمة وازدياد الطلب على المنتجات الطبية والحذر من السفر بين البلدان تنهار سلاسل الأمداد الحساسة، تاركة وراءها قطاعات اقتصادية معرضة للخطر.
وجاء في المقال أن العولمة لم توفر بيئة خصبة لانتشار الأمراض المعدية فحسب، بل إنها أيضًا عززت الترابط العميق بين الشركات والدول، ما يجعلها أقل مناعة أمام الصدمات التي لم تكن توضع في الحسبان، تكتشف الآن الشركات والدول على حدٍ سواء، مدى تأثرها وعرضتها للخطر.
إن الدرس من أزمة الفيروس التاجي الجديد هو فشل العولمة بل هشاشتها برغم -أو حتى بسبب- فوائدها.
0 comments:
إرسال تعليق