كتب الكثيرون عن الزلزال القوي المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا (زلزال قهرمان مرعش أو غازي عنتاب) في شهر فبراير المنصرم، وتحدث الكثيرون عن ضحاياه وقوته التدميرية غير المسبوقة في تاريخ الزلازل في هذا البلد، والمآسي الإنسانية التي نجمت عنها والمساعدات التي تلقتها الدولة المنكوبة من مختلف بلدان العالم. غير أن الجانب الذي أهمل ولم يتم تناوله إلا لماما هو تداعيات الكارثة على القطاع الزراعي والغذائي في تركيا، خصوصا وأن المناطق الأكثر تضررا بالزلزال مسؤولة عن امداد البلاد بما لا يقل عن 20 بالمائة تقريبا من الخضروات والفواكه واللحوم ومشتقات الألبان. ولعل ما يؤكد أن شبح نقص الغذاء ومشاكل الأمن الغذائي بدأت تلوح في الأفق التركي هو حالة التضخم المتصاعد في أسعار المواد الغذائية كنتيجة طبيعية لنقصها.
ففي غضون أسبوع من الزلزال ارتفعت أسعار لحوم الأبقار مثلا بنسبة 40 بالمائة بسبب تدمير المسالخ وصعوبات النقل والإمداد، وارتفعت أسعار الخضروات بنسبة 24 بالمائة وأسعار الفواكه بنسبة 10 بالمائة.
صحيح أن التضخم ليس غريبا على تركيا، خصوصا في ظل تدهور قيمة عملتها (الليرة) بالنسبة للدولار واليورو في السنوات الأخيرة (بحسب معهد الإحصاء التركي بلغ معدل التضخم لشهر يناير المنصرم 57 بالمائة، بينما قدرته المصادر المستقلة بنحو 121 بالمائة). لكن الصحيح أيضا هو أن الزلزال الأخير أطاح بكل التوقعات المطمئنة بخصوص حل مشاكل التضخم والنقد والنمو الاقتصادي، بل أن الكارثة وما أحدثته من تدمير هائل في البنى التحتية وتوقف في الأنشطة والأعمال وأضرار في الممتلكات الخاصة يعطي مؤشرات على أن الإقتصاد التركي مقبل على مأزق وانتكاسة في النمو. حيث أشار تقرير للبنك الدولي نشر قبل أسبوعين بأن الزلزال تسبب في أضرار مادية مباشرة تصل قيمتها إلى أكثر من 34 مليلر دولار، وأن تكلفة إعادة الإعمار قد تصل إلى ضعف هذا الرقم. والجدير بالذكر، في السياق نفسه، أن الزعيم التركي رجب طيب أردوغان وعد بتخصيص مليارات الدولار لإعمار المحافظات المتضررة وتعويض سكانها. وهذا الإنفاق لئن كان عاملا مساعدا على تحفيز الإستهلاك والانتاج اللذين يعدان مؤشرين أساسيين للنمو الاقتصادي، فإن المشكلة تكمن في معاناة البلاد من شح الأموال، رغم نجاح الحكومة مؤخرا في تعزيز احتياطات بنكها المركزي بفضل المساعدات الخليجية السخية.
وطبقا للخبير الاقتصادي "هالوك بوروميشيك" نما الاقتصاد التركي العام الماضي بنسبة 5.6 بالمائة، لكن من المتوقع أن يتباطأ بشكل ملحوظ في العام الجاري فلا يحقق سوى نسبة نمو لن تزيد عن 2.8 بالمائة، خصوصا مع انخفاض الطلب الأجنبي على صادراتها من قبل الشركاء التجاريين الرئيسيين للبلاد جراء استمرار الحرب في أوكرانيا.
والحقيقة أن تركيا، بالرغم من تصنيفها ضمن الدول الصناعية الحديثة في العالم، ووجودها في المرتبة الثالثة عشر عالميا لجهة الناتج المحلي الإجمالي ( 790 بليون دولار بحسب احصائيات 2012)، إلا أنها تعد من بين كبار منتجي العالم في السلع الزراعية والغذائية. وتعويلا على الجزئية الأخيرة، كان المفترض ألا تجابه البلاد نقصا في الغذاء. غير أن المشكلة هي أن الزلزال اختار أن يضرب المقاطعات العشر التي تلعب دورا حيويا في تغذية عموم البلاد (تنتج هذه المقاطعات معا ما يزيد قيمته على 85 مليار ليرة، ويقطنها نحو 13 بالمائة من اجمالي المزارعين الأتراك المسجلين، وعشرين بالمائة من هؤلاء ينتجون الخضروات التي يزرعونها في مزارع غير مؤمن عليها، وبالتالي لا يستطيعون الوقوف على أقدامهم والعودة مجددا إلى الانتاج إلا بتعويضات مجزية من الدولة وعمليات إمداد للبذور والأسمدة ووقود الديزل).
ويجزم المراقبون أنه حتى لو تمكنت الحكومة أن تصلح أوضاع المزارعين الأتراك عبر دعمهم ماديا للعودة إلى أعمالهم، فإن الكثيرون منهم ممن فقدوا منازلهم وأسرهم وأصدقاءهم، وبالتالي أصبحوا يعانون نفسيا، لن يعودوا إلى العمل في المدى القريب. ويؤكدون كلامهم هذا بالإشارة إلى أن "مقاطعة هاتاي" التي صدرت في عام 2022 وحده ما قيمته 186 مليون دولار من الحمضيات، يوجد بها اليوم حوالي 100 ألف طن من الليمون على الأشجار دون وجود من يجمعها، وحيث يوجد أيضا 300 ألف طن أخرى عالقة في المستودعات بانتظار من يقوم بنقلها وتوزيعها.
وهكذا نجد أن مشكلة تركيا ليست فقط في نقص الغذاء والتضخم وإعادة الإعمار وتقديم التعويضات، وإنما أيضا في تردد مزارعيها للعودة إلى أعمالهم المعتادة، ما يعني نقصا في العمالة الزراعية.
ولعل إحدى المشاكل الأخرى الناجمة عن الزلزال هي كيفية التخلص من نحو 210 مليون طن من أنقاض المباني والمنازل المهدمة، وكيفية منع السكان من إلقائها في البحيرات والأنهار وعلى السواحل منعا من تدمير لبيئة والثروات البحرية، خصوصا وأن الحكومة لا تستطيع في هذا الوقت الحساس أن تردعهم بالغرامات والجزاءات أو باستخدام القوة، لاسيما وهي تتطلع إلى أستمالتهم لنيل أصواتهم في الانتخابات النيابية القريبة.
د.عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
تاريخ المادة: مارس 2023م
0 comments:
إرسال تعليق