نشرت صحيفة القدس الفلسطينية يوم الأربعاء الأول من آذار 2023 كاريكاتيرا على صفحتها الأخيرة كما هو معهودها. يظهر فيه تجسيد لشخصيتين عربيتين قديمتين: سيبويه والفراهيدي، ويظهر أنهما جالسان في الصحراء، حيث اللون الأصفر الرملي يسيطر على فضاء اللوحة، وحيث شجرة النخل، عدا لباسهما، ومع هذا التجسيد العربي التراثي، يكتب الرسام: وجدتهم يكتبون لكن "لاكن"، وشكراً "شكرن" و"عفواً عفون". ويبدو أن سيبويه حزين يبكي على هذه الحالة المزرية. ولكن، ألهذا دلالة سياسية؟
يقول الدكتور علي شريعتي في كتابه "النباهة والاستحمار": "عندما يشبّ حريق في بيت ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن، لأن الاهتمام بغير إطفاء الحريق والانصراف عنه إلى عمل آخر هو الاستحمار، وإن كان عملا مقدسا"، ولكن مرة أخرى، هل استحمرت "القدس" أم أنها استحمرت من اشتغلوا بسيبويه واللغة ونسوا أن هناك أحداثا أجل وأعظم من تنوين يكتب نونا؟
لا أظن أن رسام الكاريكاتير يريد منا الاشتغال باللغة، ومتابعة أمر التنوين والنون، فهو ليس في حصة إملاء في غرفة صف ابتدائيّ، إنما أراد أن يلفت نظر القراء في صحيفة ذائعة الصيت والانتشار إن من لا يقوم بواجبه في مثل هذه الظروف حالته هذه هي، يشتغل بشيء لا نفع له ولا قيمة.
على أية حال إن الاستحمار كثيرة مظاهره في فلسطين والعالم العربي، وخاصة من يشتغل بقضايا غير القضايا الملحة، والكاريكاتير تحديدا يحيل إلى العرب واشتغالهم بما هو غير ملحّ، كأني بالرسام يحيل على قضية أحمد الصفدي رئيس مجلس النواب الأردني الذي وظف آية ليدعو لأهل العراق بالخير، في اجتماع مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي بدورته الرابعة والثلاثين، المنعقدة في بغداد، يأتي رئيس مجلس الشورى السعودي عبد الله آل الشيخ ليصحح تفسير الآية.
في اعتقادي الشخصي لم يخطئ الصفدي وهو يستشهد بالآية القرآنية، كما أن عبد الله الشيخ لم يخطئ في البيان، لكن كما هو في الكاريكاتير الذي يبدو فيه أن سيبويه على حق، وهو يرى ما يرى من تبديل التنوين نوناً. لكن، ليس هذا هو وقت التصحيح والتبيين على الملأ، على الرغم من أن الصفدي كان يستشهد، وجاء بالآية مثلاً، ولا يشترط في المثل إلا مطابقة الحالة العامة، لا التفاصيل الصغيرة. ثمة ما هو أهم من هذا التصحيح غير الضروري فيما ظنه "الشيخ" انحرافا تأويليا لآيات الله، ونحمد الله أنه لم يكفّره على "سوء التحريف"، فقد كفر بعضهم آخرين على أقل من هذا.
لم تعد المشكلة في ألف لكن ولا في نون عفوا وشكرا، ولن تستمع النساء إلى نصيحة من كتبت على الفيسبوك: "إياك أن تتزوجي رجلا يكتب لكن لاكن، حتى لا يتكاثروا!" إنما المشكلة الكبرى هو الغرق في الاستحمار إلى هذه الدرجة المقيتة.
أحياناً، والله، أخشى على نفسي وأنا أكتب في غير الواقع الراهن، أن أكون مصابا بداء الاستحمار بكل ألوانه، فحوارة التي احترقت، والبلاد التي ضاعت، والشهداء الذين يرتقون واحدا تلو الآخر أو جماعات، والوضع القلق منذ أتيت على هذه الدنيا، وأنا لا شغل لي إلا الكتابة البعيدة عن هذا الراهن القاتل، فأكتب غزلا ونقدا وأعشق النساء، وأصدر الكتب التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
أليس هذا أيضا استحمارا شاملاً؟ أوليس استحمارا أن أضيّع ما كنت فيه من عمل في السياسة لألتحق بركب الأدب؟ إي والله إنه لأعظم استحمار قمت به، فلا يمكن بحالتي وحالة المشابهين لي أن نقول: "فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ"؛ لأنني باختصار لم أشتغل بالعلم والفقه، بل اشتغلت بما هو أدنى. إنني كنت عديم المسؤولية بدرجة لا توصف! فهل سيفيدنا الفراهيدي؟ وهل سيشفع لنا سيبويه؟ وهل سيحمينا الغزل وعطر النساء من حساب التاريخ العسير؟ فما الحلّ إذن؟ أم أنه لا حلّ للاستحمار إلا بالمزيد منه عندنا نحن الكتاب وعند هؤلاء المشتغلين بالسياسة، العرب تحديدا؟ يا إلهي كم نحن أغبياء! فلولا هذا الاستحمار بطبيعة الحال لم تمكث فلسطين محتلة حتى هذا الوقت، خمسة وسبعون عاماً ونحن جميعا غارقون في الاستعمار، أفرادا، وكتّاباً، وقيادات فلسطينية، وأحزاباً، وأنظمة عربية فاشلة فشلا ذريعاً، بل إن مهمتهم هؤلاء جميعاً تكريس الاستحمار ليصبح عاما وطاماً أشبه بالاستحمار القومي العام الذي عم حياتنا كلها بكل ما يعني ذلك من وقاحة وتفاهة.
0 comments:
إرسال تعليق