قصة قصيرة من مجموعتي القصصية الأولى "من عبق الماضي"
إنَّني أحتضر، أعلم أنّها سويعاتي الأخيرة قبل أن أودِّع هذا العالم القاسي وها أنا أقصُّ عليكم حكايتي الأخيرة، قبل أن تلفُّني غفوةٌ أبديةٌ وقبل أن تصبح أشلائي مزقاً تتوزَّع على بيوت الآخرين.
فأنا كنتُ أعيش هنا في هذه الغابة الجميلة منذ سنينٍ عديدةٍ، لا أسأم من هذا المكان، فهو موطني مذ كنت شتلةً صغيرةً مُقمّطةً بكيسٍ بلاستيكيٍ أسود اللَّون، لازلت أذكره وهو يدفِّئ جسدي النَّحيل وأنا أرتجف بهلعٍ معَ أبسطِ نسمةٍ أو هبَّة ريحٍ.
كلُّ النَّاس يسافرون يتحرَّكون وينتقَّلون، أمّا أنا فهنا ثابتةٌ متمسِّكةٌ بجذوري، يبلِّل المطر رأسي وأطرافي، ويغمرني الثّلج والصَّقيع في اللَّيل والنّهار وفي الشِّتاءَات الباردة، ولا أشتكي يحرقني لهيب الشَّمس في كلِّ صيفٍ ولا أتذمَّر.
عشت قانعةً راضيةً، اعتدت نمطيّة هذه الحياة وعليها تأقلمت، لا أكنُّ البغض لأحدٍ ولا أصطنع حروباً مع الآخرين ولا أزجُّ بنفسي في معارك لا طائل منها، ولا أطوِّر أي نوعٍ من أنواع الأسلحة الفتَّاكة ولا أهدِّد كائناً بجبروتي وسطوتي، أهتمُّ بشؤوني ولا أتدخّل بشؤون الآخرين، أبتغي الطَّمأنينة والسَّلام لنفسي وللآخرين لا أحتال على أحدٍ ولا أكنز الكنوز بطرقٍ شرعيّةٍ أو غير شرعيّةٍ، أعطي وأعطي بسخاءٍ، وأكتفي بالنّذر اليسير من الغذاء، لا أؤذي أحداً بل تؤلمني آلام الآخرين ورغم كلّ هذا فالنَّاس لا يتركونني وشأني.
فبالأمسِ جاءَ إلى هنا بعض الأولاد، كنتُ ما أزال غافيةً بعد أن اضطررت للسهر مرغمةً حتّى وقتٍ متأخِّر في اللَّيلة السَّابقة، حيثُ كان قد تواعد عاشقان صغيران على مقربةٍ من بيتي وقد احتلّا المقعد الملاصق لظهري وباشرا بثرثراتٍ ٍلا تنتهي، فإنْ خفت الحديث بينهما وحاولت أن أغمض عينيَّ لأسترخي من تعب النَّهار، أيقظتني طقطقة القبلات بينهما وعلى هذا الحال دام الأمر طوال المساء، لم ينفع تثاؤبي ولا تظاهري بالنَّوم.
وما كادت شمس النّهار تطلع حتّى أيقظني صخب هؤلاء الأولاد الأشقياء، حيث لم يكفّهم إيقاظي وإزعاجي، بل راحوا من غير سابق إنذارٍ يرجموني بحجارتهم تارةً وتارةً يتسلَّقون ظهري كالقرود، فيما راح أشقاهم يخرج سكِّينًا حادَّةً من جيبه لينحر بها أطرافي ويحفر في جسدي وأنا أتمزّق ألماً وأصرخ من أعماقي، لكنّه كان يبتسم كالأبله وهو يتأمّل تلك الأثلام الّتي اختطّها في جسدي من غير شفقةٍ، ولم يتركني إلى أن اقتنع بتلك الرّسوم الَّتي أحدثها بي، تأمَّلها بفرحٍ ورضى، ثمَّ اختطَّ أحرف اسمه بكلِّ قسوةٍ فوق جذعي ثمَّ تركني أغالب آلامي وجراحي الغائرة، نعم لم يدعني الملاعين إلَّا بعد أن أدركني الإعياء والإجهاد والآلام، فيما كانوا يبتعدون عنِّي وهم يضحكون ويمرحون كأنَّهم لم يفعلوا بي أي مكروهٍ.
لم أشعر بالرَّاحة إلّا بعد أن خفتت أصوات ضحكاتهم وهم يرحلون عني، انهمكت بمعالجة أوجاعي وجراحاتي الّتي أحدثوها في جذعي والّتي كثيراً ما تكرَّرت منهم ومن غيرهم من غير أن أطلق صيحة احتجاج أو صرخة تذمُّر، فأنا فرح الآخرين أنشودتي، ولحنُ الحبِّ أغنيتي، يفرحني صوت زقزقة عصفورٍ يفقس من بيضةٍ في تلك الأعشاش المبنية فوق أغصاني كأنّهم أطفالي أحملهم بحنانٍ وأضمُّهم بلهفةٍ أبعد عنهم برد الشّتاء وقيظ الصَّيف.
ولكنّني أنا أيضاً أشتاق للمسة حبٍ وأحلم بأيادٍ طيّبةٍ تأتيني تربت فوق ظهري، تبتسم لي وتمنحني الحنان لكن هيهات فهذا لا يتحقَّق لي أبداً بل على العكس، ففي كلِّ يوم يجلس بقربي أناسٌ كثيرون يأكلون ويشربون ويرمون بقاياهم حولي كأنّني سلّة مهملاتهم المعتادة، فإذا ما رحلوا وحلَّ السًّكون أجد أنا ورفيقاتي من حولي بعضاً من الوقت لنشكو لبعضنا البعض عن آلامنا وشجوننا، أو لنتحدث بحزنٍ عن الضَّحية الأخيرة الَّتي فقدناها نهتزُّ خوفاً ونضطرب هلعاً، ونحن نذرف دموعاً حزينةً في الأعماقِ ونحنُ نتساءلُ عمَّن ستقعُ عليها قرعة الموت في الغدِ.
ويأتي الغد ويا ليته لم يأتِ وأنا أرى شبح الموت يتسلَّل رويداً رويداً، يقترب منّي كذئبٍ حذرٍ يتحيَّن لحظة الانقضاضِ على فريسته، أعرف أنَّني ما عدت صغيرةً لكنّني كنت أطمع في العيش لسنواتٍ أخرى، أتنعَّم بتنشُّق النَّسائم العليلة في كلِّ صباحٍ وسط رفيقاتي من حولي اللَّواتي عرفتهن مذ أبصرتْ عيوني نور الحياة، إنني أتخيلهنَّ الآن وهن ينظرن بحزنٍ إلى ما تبقَّى من أجزائي المنثورة هناك على قارعة الطّريق وهن يتساءلنَ عن ضحيّة الغد الآتي.
ولكن ليس باليد حيلة، فنحن لا نملك أقدارنا، وحده هذا الوحش يتحكَّم بمصائرنا، أمّا نحن فليس لنا غير الخضوع لرغباته ونزواته ومنشار الموت الّذي يلمع في يده. ها هو يضع منشاره العملاق حول جذعي ويحرِّكه بهمجيّةٍ ليتسلَّل عميقاً إلى جسدي، غير مكترثٍ لدموعي وجراحي وتوسلاتي، يواصل نحري حتّى يفصلني عن جذري، ثمَّ يدفعني بكتفه دفعةً قويّةً لأسقط وارتطم في الأرض بقسوةٍ حيث يبادر إلى ربطي بحبلٍ غليظٍ كي تحملني رافعةٌ مثبّتةٌ في شاحنته من فوق الأرض ثمَّ ترفعني في الهواء لتلقيني فوق ظهر شاحنته البغيضة.
فيما هو يبتسم بزهوٍ وافتخارٍ... أودِّع رفيقاتي وداعي الأخير وأنا أشاهد دموعهم الحزينة، يقود شاحنته وأنا لا أستطيع أن أحوَّل نظري عن جذري المتروك هناك ولا عن رفيقاتي الباكيات، ويخفت صوت النَّحيب كلما ابتعدت الشَّاحنة شيئاً فشيئاً في الدَّرب الأخير، وكلَّما سرنا ترتطم العجلات بأحجار الطَّريق فتهتزُّ جثتي عشرات المرَّات لتزيد عذاباتي وتكمل مأساة نهايتي.
أشعر بالموت يتسلَّل إلى أطرافي. شيئاً فشيئاً بدأت أفقد نسغ الحياة في أوصالي، أشعر باليباس يزحف فوق جسدي، إنَّني أذبل، ورويداً رويداً يهرب منِّي لون الخضرة ويذوب في الفضاء وتتلوَّى أطرافي وهي تلفظ آخر أنفاسها الحيّة.
تتوقَّف تلك الشَّاحنة بعد قليل وأشعر ببضعةِ أيادٍ خشنةٍ تجذبني بشدَّةٍ فأسقط فوق الأرض، بقوةٍ يجرُّوني من غير شفقةٍ، يتبادل الرِّجال بضع كلمات لئيمةٍ، ثمَّ ينقدون ذلك السّفاح ثمن جريمة قتلي لتصبح جثّتي ملكاً لذاك الجزّار الّذي يسلِّط عليَّ بعضاً من صبيانه، يجتثُّون خلالها كل أجزائي وينتزعون عنِّي كل أوراقي، ومرّة أخرى تتحرَّك مناشيرهم القويّة ليبدؤوا عمليّة تقطيع أوصالي.
وها أندا ألفظ أنفاسي الأخيرة، فيما صورة رفيقاتي تتراءى لي هناك في البعيد والمنشار الكهربائي لا يترك لي فرصة التقاط الأنفاس، يخترقُ جسدي مئات المرَّات قبل أن أصبح مجرّد بضعة أخشابٍ مسكينةٍ في مخازنِ النَّجارة اللَّئيمة يمثِّلون بي ويمارسون ساديّتهم على جثّتي من غير شفقةٍ.
يصيِّروني كيفما يشتهون ويحوّلوني إلى كل ما يحتاجون، إمَّا كرسيّاً يجلسون عليه أو أريكةً يضطجعون فوقها أو طاولةً أو ربّما سريراً.
أنا الّتي كنت قبل أيام قليلة شجرةً يانعةً مزهوةً أضجُّ بالحياة، تضحك وريقاتي لوجه الشّمس وتعانق أغصاني كبد السَّماء، وما حيلتي أنا الَّتي كتب عليها أن تخلق مجرّد شجرة لا حول لها ولا قوّة، ليس لها أن تعترض على مصيرها المحتوم، بل مرغمة انصاع لأوامرِ مناشيرهم الحادة لتلتهمني أسنانها المخيفة القويّة، وتوقِّع مرسوم إعدامي وتنهي بلا شفقةٍ مسيرة عمري الحزينة.
ستوكهولم-السويد
كانت تتباهى بإمكانها في الربيع وبثمارها في الصيف
ردحذفكانت أوراقها الخضراء تكسوها وتدفئها ..
كانت تسعد بالنسيم يرفرف ويهمس لها بسحر المواويل..
وفجأة سقط رداؤها الأخضر لتجف شيئا فشيئا وتهزل في موكب الايام ..
قصة رائعة تلمس القلب
ردحذفذكرتنى بشجرة الليمون (بنزهير) أحضرتها ومعها أختها من مصر هدية من أحد المعارف ،كانت هذه الشجرة كريمة معى يفوق التصور ،حتى أنا كرمها تخطى حدود منزلى ومدينتى ،عرفت هذا النوع من الليمون خجول ومعاملته ذو حساسية مرهفة وتحتاج الى عناية خاصة ، عندما يولى الأمر لغير أهله تكون النتيجة سيئة للغاية ، أصاب هذه الشجرة الجفاف والتيبس فى أفرعها وأوراقها ويوم عن يوم أشعر أنها تحتضر وهذا ما حصل والسبب أن إبنى أحضر عامل من أجل تنظيفها فى وقت غير مناسب وهو وقت التزهير حاولت إسعافها بشتى الطرق ولكن للأسف أصبحت هيكلاً متحطم .
ردحذف