البعد الجمالي للطبيعة هو المسافة الوجدانية الواضحة التي تفصل بين شخصية الفنان أو المشاهد والنشاط الأنساني الذي هو محاكاة لمظاهر الجمال للطبيعة والكون وما فيهما والمتمثل بالعمل الفني المتحرر من كل قيد بأستثناء القيم الفنية والجمالية ، فالفنان ليس ملزما أن يصور المثل العليا في فنه بل التعبير تشكيليا عما تنتجه مخيلته .
فرسومات الطبيعة هي رسومات تعكس جمال الطبيعة ، فمجرد اطلالتك على نظرة من حولك وخصوصا أنت تعيش في لبنان ، سوف تجد جمال الطبيعة لما فيها من البحر والشجر والعشب والزهور والجبال والوديان و... كلها قطع من الفن المتميز مما دفع الشعراء والفنانين التشكيلين ينبذون التعقيدات المتعلقة بالمكتب أو الاستديو وقاعات العروض واتجهوا مباشرة نحو الطبيعة لشعورهم بأهمية البعد الجمالي لها ليقفوا على مدارج الكمال للطبيعة والرغبة والطموح للسمو الى هذا الكمال فالذات تبحث دوما عن واقع أخر جديد لتمارس فيه سيادتها وتحقق رغبتها بدون حواجز ومواقع تضيق التفكير والعمل من خلال نقل الصورة الى لوحاتهم (قصائدهم) من خلال الخطوط والألوان أو الكلمات والايقاع ، للاستمتاع بعالم آخر رائع من الأشكال ، فالطبيعة هي المكان الذي تَشعر فيه روحك بالحرية الحقيقية .
فعندما تنظر إلى الأشجار والنباتات الأخرى من حولك سوف تشعر بمتعة لا حدود لها مع وفرة الأشكال والألوان التي تجعلك تدرك أن السر الذي يرتقي بالظاهرة الجمالية في الطبيعة يكمن في كون هذه الألوان والأشكال الطبيعية كعامل أساسي في الجمال، فللألوان فلسفــــة حقيقـــــه كونها تؤثر في حالاتنا النفسية فتبعث فينا النشاط أو الهدوء وتدفعنا إلى الاسترخاء أو العمل الجاد او الانفعال.
زيارتي الى معرض الفنان ياسر الديراني ( من خلال صفحته في الفيس بوك ) تلمست تعبيرا حقيقيا بالألوان للمشاعر والمواقف والرؤي والعشق التي تعكسها معالم الطبيعة في لوحاته
حيث أصبحت هذه المعالم دوما من أدوات الحاجات العليا للكمال عند الشاعر وهو يتلذذ بما حوله من طبيعة خلابة تحويها بلدته فيحاول تسقيطها على قطعة قماش خرساء لتجعلها
تنطق عند تعلق الأمر بمحاكات النفس والطبيعة البشرية، من خلال ما يستدل من التدرج اللوني عند استثمار الألوان لخلق التوازن والتناسب والوحدة والانسجام التي هي من أهم عناصر علم الجمال. عند هذا السعي من مدارج الكمال نحو الجمال بالألوان تبدو الطَّبيعَة في لوحات الرسام ياسر الديراني أرضها وما تَحمِلُه بين مناكِبِها وسَمائِها وتضاريسها، طبيعة تتكلَّم وتعبِّر لرائِيها بلغةٍ يفهمها الإنسان الذي أدرك روعةَ الجَمال، وروعة الإحساس،
فرسامنا ياسر أنعكف كصوفيٍ في الطبيعة ليُنصِت للبحر وللسماء، والأشجار والعُشْبِ والزهر، والجبال والوديان ولكل الموجودات ليرى الطبيعة وكأنها في حلتها الأولى من الخلق وهي تستعد لأستقبال ما تفرزه مخيلته من خلال دعوة الأنسان ليعيش حياته متلذذاً بهذا الجمال بعقله وقلبه أروعِ مفاتن الجمال والكمال فتطربُ لها الأذن وتنجذب لها العين ، فيدع رسامنا ياسر روحه وإحساسه ومشاعره ليتجلى بهم ليقول لنا لا تندهشوا من الشعراء والفنانين الذين يقصدون الطبيعة ليعيشوا فيها طالما هناك لوحة تتكلم، انطباعية كانت أم تشكيلية أم غير ذلك .
فكل شئ هنا يحاوركم ويجذبكم . أنامل ياسر حركت فرشاتها لتصور لنا النَّموذج الإنساني الشّاخِص الحي، فتصير الطبيعة مجسمة ومرئية والتَّعبير عنها بلغةٍ تصويرية .
وبهذا يكون الفنان في معرضه هذا قد خرج من الأسلوب التقليدي كونه سخر كل تركيزه على اللون ليحاكي ويجسد مظاهر الطبيعة من دون التركيز على الخطوط والأشكال . وكما الحال في لوحتيه السابقتين والتي تعامل في تجسيد البنية الشكلية للالوان الطبيعة في تلك اللحظة العابرة والآنية بضربات من فرشاته ناسجا ألوانه .
فاللوحة الأولى تنطوي على ديناميكية ذاتية، تتألف من سلسلة من الفعاليات التي تحدث داخل النسق او المنظومة كزرقة السماء ، والماء الذي يشق مجراه بين الجبال وفي تتابع حركة الزوارق الشراعية ... اذ تتمثل العلاقات البنيوية في نظام اللون، كونه النظام الاكثر ارتكازا الى العين، وباعتماد ألوان الموشور للاقتراب من الطبيعة ومحاكاتها، مركزا على الألوان الباردة ومعها الضلال بالوانها الرمادية والخضراء .
وفي الثانية يركز الفنان على اللون الأخضر بتدرجاته الذي يمثل الخصوبة وحالة الأمومة ليعمل عملا مزدوجا بارداً ودافئاً في الوقت نفسه ليرمز إلى الحياة وإلى احتمالات نهايات الحياة ، بينما يستعمل الرمادي والأزرق وقليل من الأحمر كأرضية للصورة ليرمز الى ما هو مقدس حيث تصبح الألوان الخاصة بالأشياء البعيدة (في أعلى الصورة ) أكثر قوة وكثافة ودفئاً من حيث ألوانها بينما الأسطح الأمامية( أسفل الصورة ) تبدو أكثر برودة وأكثر رمادية وزرقة.
ولسعة حجم العمل وضخامته أستخدم الفنان ما يشبه التصوير لمشاهداته من الجو أو الفضاء ، فهو لا يجسد لنا في لوحاته النباتات والظواهر الطبيعية قدر تسليط عدسته من الفضاء نحو الأرض فتتلاشى المعالم ويبقى اللون وحده الناطق ليفصح عن معالمه.
وأحيانا من أجل خلق صلابة ملموسة في رسوماته يستخدم إضاءة غير ملحوظة ومؤشرات التضليل من خلال أستخدامه ما يشبه الضباب والظلال ( في الطبيعة ) في ألوانه ليحجب الرؤية بعض الشئ ليجسد لنا جمالية الفن البيئي .كما نجد في لوحتيه هذه :
كذلك ان الفن البيئي له جمالية ذات النزعة الإنسانية المرتبطة بالشعور الإنساني المتجسد بالفزع والخوف من الفضاء الممتد الواسع. جاعلاً الفرد يستنشق القلق بمدى ضئالته وصغره ضمن واقع الفضاء المتسع ، وبالنتيجة فان التغذية الراجعة من ذلك الشعور لدى الفنان ياسر هو استخدامه الكثافة في كتله اللونية من خلال ضربة فرشاته التي يجعلها تلامس السطح بقوة لتعكس لنا ما يذهب به الأمر عند مواجهة السلبية في أمر ما أو واقع ما، فلابد من تدمير ذلك الواقع الموصوف من خلال أستخدامه كتلا لونية من أجل التعبير عن ثقل الأشياء وكتلتها لخلق واقعية جديدة ، وللوصول الى التعبير عن ذلك لا بد من كتل لونية تعكس ما يربو اليه الفنان فطاقات اللون هائلة غير محدودة ورمزية الألوان عموما فيها هذه الإشارة الخاصة للتعدد والتنوع والتجلي والخفاء في الوقت نفسه. كما نجد في لوحتيه هذه :
ففي لوحتيه هذه ، نجده قد ركز كثيرا على الالوان الدافئة وبالاخص اللون البنفسجي المحمر ليؤكد لنا شدة الضوء أو النور الموجود في حياتنا ودفئه فألوان كهذه هي ألوان نشطة قوية وساخنة ودافئة فهو يوظف هذا الإفراط في اللون ليجذب انتباهنا إليها من خلال توظيفها ضمن الفضاء البيئي للإنسان.
وختاما نقول :
اللوحة التشكيلية التي يتفاعل فيها الشكل والمادة وذاتية الفنان ياسر ومشاعره هي كنصّ صامت ينقلها إلى المتلقي عبر الألوان المستوحاة من الطبيعة حاملة لمعاني عميقة وتأويلات لانهائية قادرة على السمو بذائقة المشاهد ، فلا تكون اللوحة حاملة للمعنى فحسب ولكنها تتحول بذلك إلى معنى في حد ذاتها. كل ذلك يحتاج إلى متذوق قادر على إدراك الوعي الجمالي لهذه الألوان بطريقة فنية لقراءة اللوحة وإدراك معانيها ومضامينها التي هي جوهر الرؤية الفنية. فقراءة العمل الفني تقتضي معرفة خصائص ومعايير لغة الفنّ التي يشتغل بها ذوو الاختصاص في مجال الفن التشكيلي لإدراك معانيها العميقة. فقراءة اللوحة كقراءة القصيدة تقتضي المعرفة والعقل والعاطفة والإحساس.
0 comments:
إرسال تعليق