المُمْطِر ومُحيي الطائفة/ ب. حسيب شحادة

He Who Brings down Rain and Revives the Community

جامعة هلسنكي


في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها الكاهن يعقوب بن شفيق (عزّي) بن الكاهن الأكبر يعقوب الحفتاوي (١٨٩٩-١٩٨٧، كاهن أكبر ١٩٨٤-١٩٨٧، رجل حكيم بشكل استثنائي، عمِل صحفيًا في ثلاثينات وأربعينات القرن العشرين في الصحف العبرية - هآرتس/الأرض/البلاد، دڤار.أمر/شيء، دوئر هيوم/بريد اليوم، بوكر/صباح - وفي الصحيفة الإنجليزية Palestine Post; مؤلِّف بالعربية، ذو شخصية محبوبة ومحدّث لبِق) بالعربية على مسامع  الأمين (بنياميم) صدقة، الذي بدوره نقلها إلى العبرية،  نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٣٨-١٢٣٩، ١٥ أيّار ٢٠١٧، ص. ٥٧-٦٠. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني. 

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).

”أهذا مطر؟

أهذا المطر مطر؟ حسنًا، هطلت بعض القطرات بعد أشهر من الجفاف. ها نحن في أواخر كانون الأوّل، وفصل الشتاء الحقيقي لمّا يبدأ، بضع قطرات هنا وأخرى هنا، لكن لا مطر حقيقيا. أكّد راصدو الجوّ بأنّ هذه السنة ستكون جافّة، مفتشو المياه يرثون حالة الخزّانات الخاوية، والمزارعون يُحذِّرون أن المحصول هذا العامَ سيكون نصفَ  محصول العام الماضي. الطقس بارد في الليل، إلّا أن المطر مِدْرارًا، الذي نعهَده كلّ عام لم يهطِل بعد. ولّى شهر أيلول وبعده تشرين الأول ولحقهما تشرين الثاني، فكانون الأول كلّه تقريبًا بدون مطر. في هذا الأسبوع فقط، في آخر كانون الأول، بدأت تتجلّى بُشرى المطر. حتّى مسنّو نابلس تسنّى لهم نسيان مثل هذه السنة.

رفعنا أكفّنا نحو العُلا متضرّعين بصفاء نيّة، يا ربّ، أيّها الرحمن الرحيم، وكذلك أَكثر المرنّمون في الكنيس من التوسّلات والتسابيح للخالق، كي يرحمَنا بوفرة رَحَماته وتهطِل الأمطار لإرواء الأرض. تلبّدت بعض الغيوم هنا وهنا وسقط مطر خفيف بلّل أطراف السطوح.  حتّى المطر الأوّل لم يكن كاسمه، وويل لنا إذا كان ذلك المطر، المطر الأخير (بدْري ولقشي). إلى أين نتوجّه وأين نُخفي خِزينا، ربّما لا نستحقّ، وحان الوقت لتقصّي أفعالنا ونرى أين أخطأنا. 

لا أحدَ سيقول إنّ السبب ليس فينا. يبدو أننا نفتقر لرجال نموذجيين. لا شكّ في أنّه ذات مرّة كان بين ظهرانينا رجال من هذا النمط. لا حاجة لذكر كلّ الأسماء، سيأتي دور كلّ واحد منهم. كان هؤلاء رجالًا حقّقوا ما يبتغون بحيوية صلاتهم. كان ذلك بالطبع في حيّز الممكن، وليس ما بعد الخيال. من المعقول أن هناك رجالًا تستجاب صلاتهم في الحال دون أي تأجيل. يصلّي الشخص وتستجاب صلاته على الفور. لا، ليس مثل هؤلاء الذين ينتظرون يومًا غائمًا لكي يشرعوا بصلاة الاستسقاء. 

الكاهن الأكبر المستجابة صلاتُه

واحد من هؤلاء الأشخاص كان جدّي الكاهن الأكبر يعقوب بن هارون، أو كما كان المسنّون عندنا وما زالوا يطلقون عليه بوقار اسم ”يعقوب الكاهن“. ساس يعقوب الكاهن طائفتَه بيد من حديد ولكنّها مُحبّة وتمدّ العون. كان الرجل الصحيحَ في أعسر الأيّام في تاريخ السامريين. ليس عن هذا الأمر نوينا الحديث، بل عن رجال تُستجاب صلواتهم تَوّا. كان الكاهن الأكبر يعقوب أحدَ هؤلاء الأشخاص القلائل. هذا ما سمعته من أبي الذي شاهد الأمر بأمّ عينيه. هذه القصّة الطريفة التي أنا بصدد سردها عليكم، حدثت في مثل هذه الأ يّام، ولكن ليس اليوم بل في مستهلّ القرن العشرين. كانت تلك السنة شاقّة، سنة قحط وجفاف. عند انعدام الينابيع الجارية بزخم في نابلس بسبب قلّة الأمطار، تتكاثر الأمراض. بلغ السيل الزُّبى، ما كانت مياه، والنزر الذي كان لم يسُدّ عطش كلّ أهالي نابلس.

ارتفعت عيون أبناء الطائفة، أقل بقليل من المائة وخمسين شخصًا نحو الكاهن الأكبر يعقوب. طلب الجميع منه أن يرفع صلاته للربّ ليمنح المدينة والطائفة من أمطار رحمته. أجّل الكاهن صلاته من سبت لآخرَ، إلى أن لم يقوَ بعد الصمود أمام إلحاح أبناء طائفته. حدث ذلك، ذات يوم سبت عند صلاة الظهر، والسماء كانت زرقاء صافيةً، لا غيمة بالمرة. الجفاف هدّد بتجفيف نسمات الأحياء. أمَّ أبناء الطائفة الكنيس في كل سبت محاولين تمضية سبت آخرَ من الجفاف. 

نشيدة الربّان أبيشع المصنِّف

حينما توجّه المصلّون كعادتهم في الصلاة نحوَ مركز الكنيس، كان الكاهن الأكبر والمرنِّم يعقوب بن هارون، جالسًا في مكانه الدائم. كان الكاهن قويًا جسديًا وقويًا جدًّا في روحه. كما نوهّنا، كانت الطائفة آنذاك بحاجة لشخص من هذا القبيل. لكن، دعنا لا نحيد عن جوهر القصّة. بعد أن رفع الكاهن الأكبر يعقوب سِفر التوراة بيده اليسرى  للتبرّك، وغطّاه بغطاء حريري مائل إلى الخضرة، عينه على خاصرته، أمّا راحة يده اليمنى ففردها بتضرّع وتخلّلت رجفة في صوته القوي الجهوري وفي قلوب المصلّين عندما رنّم الكاهن يعقوب نشيدة الربّان أبيشع المصنّف، التي تُرنّم عادة في صلاة سنوات القحط. تبدأ النشيدة بالكلمات: أُصلّي قدّامَك يا سيّدي الله وأرمي (نفسي). في هذه النشيدة اثنان وعشرون بيتًا وَفق الترتيب الأبجدي، وفي كل بيت سبعة أسطر، وفي آخر كلّ بيت يرُدّ جمهور المصلّين على الكاهن بردّة/قرار ذي سطر واحد فقط: يا سيّدي فرِّج علينا من الضائقة التي نحن فيها. 

تمتّع جدّي الكاهن الأكبر يعقوب بذاكرة خارقة، وهو معلّم جميع مجايليّ. ما كان يمسِك سِفرًا بيده وقتَ ترنيمه النشيدة، عرَف المائة والأربعة وخمسين سطرًا في النشيدة عن ظهر قلب. كما عرف غيبًا جميع نشائد وأشعار السامريين. تابع الكاهن في إنشاده والجمهور يردّد من بعده القرار. كان ذلك في الكنيس القديم في الحيّ القديم في نابلس. في سقف ذلك الكنيس كانت طاقتان مفتوحتين على مصراعيهما للتهوية بسبب الحرّ المضايق. استمرّ الكاهن في إنشاده بيتًا تلو الآخر، وإنشاده كان نقيًا مثل فؤاده. كم أحبّ المسنّون السامريون سماع صوت ترنيمه. عيون بعض المصلّين ذرفت الدموع في خلال الإنشاد، لأنّ كلماتِ التضرّع ونغمة طلب الرحمات في إنشاد الكاهن كانت مؤثرة. على حين غِرّة، بدا الكنيس مُعتمًا أكثر ممّا هو.
جاء المطر

انتهى إنشاد بيت اللام، انتظر الكاهن قليلًا ليجدّد نشاطه، حتّى أنهى الجمهور ترنيم القرار، وعندها أعلى يده المبسوطة وأنشد بصوت جهوري بيت الميم:

ما أعظمَ هذا المكانَ
الذي فيه أخلُص لخالقي
وأرفع صوتي بالتسابيح
وأفرد كلتا يديّ
وأتّجه بوجهي
نحو قُدس سجودي
ما أحلى هذا على قلبي
وما أحلاه على كبدي
يا ربّي ٱجعلني من المخلصين
وأنجِح أفعالي
وأقم لي قولك
لموسى معلّمي
وطُلبت ثمة لبني إسرائيل
ونقدّسه بمجدي/بكرامتي

عندما أنشد الكاهن يعقوب هذه الكلماتِ ”ما أعظم هذا المكانَ“ وإذا بالمطر ينهمر بغزارة على قاعة الكنيس عبر الطاقتين المفتوحتين في السقف. كانت هذه أعجوبةً هزّت قلوب جميع المصلّين، صلاة استجيبت على الفور. ظلّ المطر يتدفّق بدون انقطاع عبرَ الطاقتين، ولم يخطُر ببال أيّ من المصلّين إغلاقهما. كلّ الحضور كان متركّزًا في صوت إنشاد الكاهن الكبير يعقوب بن هارون، الذي تابع مرنّمًا كلّ النشيدة إلى نهايتها، وقطرات المطر كانت تبلّل عباءته (طاليت) الزرقاء البيضاء، عباءة المرنّم رافع سِفر التوراة. لم يُتلَ القرار بحُزن وغمّ بل بحماس كبير ينمّ عن تقدير متزايد للكاهن الأكبر يعقوب، الواقف في الوسط، منشدًا بصوت مفعم بالفرح والحبور لشخص ٱستجيبت صلاته. 

تمعّنوا بصورته، بذقنه مثير الإعجاب، بسحنته الطويلة، ولا سيّما في عينيه الطيّبتين، الواسعتين، الفاحصتين، الحازمتين! كيف من الممكن عدم إطاعة شخص من هذا القبيل؟ هذا ما وددت سردَه عن مُنزِل المطر، جدّي يعقوب بن هارون الكاهن الأكبر الذي أنعش طائفتَنا“. 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق