الاثنين: 26/11/2018
إنه الاثنين، في مكتبي البارد أسترجع في ذاكرتي قولك في رسالتك القصيرة الحادة: "ممكن أفهم، ماذا يحدث، أم أنني سأبقى أعايش هذه المزاجية؟". إنني لست مزاجيا، شيء أبعد من المزاجية، إنه الإحساس بالكارثة، باليأس من كل شيء في هذه الحياة، أفكر على نحو سطحي: ماذا تفعلين في مثل هذا اليوم؟ لعلك في العمل، عملك يختلف عن عملي، أشياؤك مختلفة، اهتماماتك أيضا مختلفة، ربما لم يعد شيء يجمعنا، لا أشياء مشتركة، غريب هذا الإحساس، لم يعد حتى الأدب والاهتمام به يجمعنا، أشعر أن الأمر سيئ للغاية، بل ربما هو كارثي أيضا.
أقاوم الإحساس باليأس، لا رغبة لدي سوى المكوث بلا عمل حقيقي، أغوص منذ يومين في قراءة رواية "عندما بكى نيتشة". أصدقك القول إن نيتشه وأفكاره وكتبه وما كتب عنه تستحوذ على اهتمامي بالكامل. شيء مهم وحاد وقاس في هذه الرواية مع أنه ملهم أيضا. يتملكني إحساس بالفوضى والعبثية وأنا أقرأ. عوالم ليست منظمة على نحو جيد، ليست روائيا بطبيعة الحال، أقصد ما تتحدث عنه الرواية، علاقة نيتشه بنفسه وبمحبوبته "لو سالومي" عبثية جدا، ربما هي تشبهك قليلا، لكن ثمة فارقا بينكما بالتأكيد. أجواء من الإحساس المؤلم عند كل من الطبيب بريوير ونيتشه، مخاتلة نوعا ما، لكنها ليست مزاجية. عقلان عظيمان يتحركان في فضاء هذه الرواية، متصارعان على السيطرة؛ سيطرة الطبيب على مريضه، وسيطرة البروفسور الفيلسوف على الطبيب، لعبة شد الحبل أو عض الأصابع، إن شئتِ في هذه الرواية.
ارتشف قليلا من الألم البارد مع كل رشفة من فنجان القهوة المرة الذي أحضره لي المراسل. شخص كثير الكلام، لحوح، شعبوي، يقتحم مكتبي كثيرا، يعرض علي خدماته، يدخل في أحاديث كثيرة، لا داعي لها، ليس لي رغبة في الحديث معه، شخص مزعج جدا وخاصة وأنا في هذه الحالة. لعلك تعانين أيضا مثلي من الأشخاص الفوضويين الفضوليين المزعجين.
إنه يوم الاثنين، موعدي مع صديقي الطليعي، كنت أظن أنه لن يتصل بي ولن يأتي، هاتفني قبل قليل، وأنا أكتب لك هذه الرسالة، إنه قادم، لا أدري ماذا سيكون بيننا من حوار، لكنه سيحدثني عن انشغاله بمتابعة الرواية، قرأت ما كتبه قبل أيام عن واحدة من الروايات، يستعين برأي لي حول الرواية: "أعتقد أن هذا التركيز على الرواية يضر بالراوية وبكاتبها، فرغم الكم الكبير الذي يُنشر إلا أنه قليل الجودة، ويُبقي فنية كتابة الراوية على السطح دون أن يوصلنا إلى النشوة التي نريدها من العمل الروائي". إن النشوة التي يبحث عنها القارئ والناقد هدف مهم لكل كاتب وقارئ. لماذا تنعدم هذه النشوة ويصاب القارئ بخيبة أمل؟ فكري بهذه النقطة الحيوية في عملك القادم.
الليلة السابقة، كانت ليلة مزعجة جدا، هواجس وتخيلات، أفكر بقول الطبيب بريوير وهو يتحدث عن مريضته النفسية وكيف أنه ابتعد عن زوجته ولم يلمسها منذ عدة أشهر، لا يريد أن يشعر بالخيانة، ويتخيل هذه المريضة تحته وهو يضاجع زوجته. كنت أفكر بهذا بالضبط منذ أيام، كيف كنت أفعل الأمر نفسه، لقد أبلغتك سابقا عن هذا، على الرغم من استحسانك الفكرة ونظرتك إليها من جانب مختلف تماما، ما دام أن في الأمر إسعادا للطرف الآخر، فليس هذا مهما. كما قلت لي يومئذ. كنت محتاجا منك لهذا التصريح، فجريت في كل مرة مع هذا الأمر إلى أقصاه، ما هي مشاعري حيال ذلك وما هي مشاعرك؟ كنت أشعر بالرضا أحيانا وأحيانا أخرى بالتفاهة. ففي كلتا الحالتين بعيدة عني جدا، ولا أستطيع أن أشم أنفاسك التي كانت تتغلغل في ذاكرتي كعمود ضوء برقيّ.
لم تكن هذه التخيلات وحدها هي المسؤولة عن قلق الليلة الفائتة. عدت إلى البيت متأخرا بعد المشاركة في مراسم دفن أحد أقاربنا، شخص مصاب بالسرطان لم يمهله المرض طويلا، في بداية الخمسينيات من عمره ربما، حشد كبير من الناس، يودعون رجلا توفي، الناس في ذهول، لا أحد يتحدث مع أحد، متأثرون جدا لموت هذا الرجل الذي لم يكن مفاجئا. لماذا يصحو الناس أحيانا من سكرتهم، ويأخذون بتأمل مشهد الموت. تأملت مشهد الناس أمس، وتذكرت أقوال نيتشه عن الموت، يبدو أن الفلسفة أخذت تنخر في عقلي ونفسي، لماذا يموت الناس؟ ولماذا يولدون إذا كان مصيرهم هو الموت؟ أسئلة صعبة وقاسية وليس لها جواب محدد.
لقد غصت قاعة بيت العزاء بالناس، لست معتادا على هذه الأجواء، منذ مدة لم أشارك بمثل هذه الاجتماعات، لكن هذا الموت الذي صدمني جعلني أغوص في تلك المشهدية المعقدة للموت، كيف لي أن أتخلص من هذا الجو الرهيب؟ لحسن حظي جلست إلى جانب أحد زملاء المدرسة، دار حديث حول العمل، والأبناء، يعمل صديقي في البناء، يريني من جهازه المحمول إنجازاته من بنايات وعمارات، بعد أن أشرت إليه أنني قد علمت بعض الموجودين في القاعة، وكأنه يريد أن يوازن بين الإنجازين. هل أنجزت فعلا شيئا مهما أنا؟ هل يعترف هؤلاء الذين علّمتهم بالفضل أو بالأثر الذي تركته فيهم وعلى حياتهم، لا يبدو ذلك، ذهب عملي باطلا، أما صديقي فعمله واضح ثابت.
صديقي هذا كان طالبا مشاغبا مع أنه ذكي، وأعترف أنه كان أذكى مني، وأمهر في الرياضيات، يتحدث لي أنه كان يجيد الرياضيات وأنا أجيد الحفظ، بالفعل كنت كثير الدراسة وأركز المجهود على الحفظ، لا عيب في ذلك هذه هي قدراتي، وهذه هي إمكانياتي. يسترسل صديقي في إنجاز مهمات صعبة، يستطيع قراءة خطط المهندسين بسرعة، وينفذها بعبقرية، إنه محظوظ جدا.
الليلة السابقة كانت صعبة جدا، في حاشية الموت الممتدة على مساحة الحياة، ثمة طلاب علمتهم، التقيت بهم، كبروا كثيرا صاروا ناضجين، هؤلاء المشاغبون سابقا، صاروا أكثر رجولة الآن، أنا أصبحت أكثر عجزا، وهم أكثر حيوية، أحدهم يكتفي من التعليم بثمانين ساعة، يغادر الجامعة ويعمل في مصبغة، بدا سعيدا أنه لم يكمل تعليمه، لقد كان محقا على ما يبدو، فالتعليم هو همّ الكسالى والباحثين عن الفقر أمثالي، هو الآن يلبس ملابس غالية الثمن ويدخن نوعا فاخرا من الدخان، كان مشرق الوجه على الرغم من بشاعة الموت البادية على وجوه البشر المكدسين في الساحة العامة وعلى جانب المقبرة.
أفكر يا عزيزتي في الموت كثيرا، أرى تقدمي في العمر وتواضع هذه الحياة بإنجازاتها العبثية. لا شيء يمكننا أن نقدمه لهذه البشرية الساعية إلى أهداف عبثية، العمل، الزواج، البناء، لكن لا أحد يتحدث عن تحسين الظروف العامة، هل أبدو لك مثاليا نوعا ما؟ لا أظن ذلك، فأنا أيضا لم أساهم في تحسين الظروف العامة عدا تحسين ظروفي الشخصية. هل لو سعى كل شخص لتحسين ظروفه الشخصية ستتحسن الظروف العامة؟ فكرة غبية وعبثية أيضا، لأنها تجعل الناس منغمسين في أفكارهم ومصالحهم الشخصية المتضاربة والمتواضعة. فلا شيء سيتحسن لو انغمس الناس في تحسين ظروفهم الخاصة، فالحياة تحتاج إلى ما هو أعمق وأكثر تركيزا.
على كل حال، لا تفكري كثيرا بالمزاجية، لقد نضجتُ بما فيه الكفاية، فلم أعد خاضعا لهذا القلق النفسي المراهق. لكن تذكري أيضا أنك ربما كنت مزاجية؛ ألم تقرئي رسالتي السابقة، ولم تردي عليها بأي تعقيب صغير أم كبير؟ ماذا يعني ذلك؟ أليست هذه مزاجية مغلفة بغلاف من اللامبالاة وعدم الاهتمام؟ لا تحفلي كثيرا بهذا التفسير، ربما كنت مخطئا، لكنّ شيئا مزعجا في هذه العلاقة المميتة حقا.
لم أنس وعدي في الكتابة إليك عن بقية رسائل يوسا، ولكن عليّ الانتظار لتتحسن حالة القلق، لا أستطيع الكتابة بشكل مكثف ودالّ وأنا في مثل هذه الحالة، تكون لدي رغبة في الهذيان والاسترسال في موضوعات شتى، وهذا لا يناسب الحديث عن تقنيات الرواية التي تحدث عنها يوسا. أكتب إليك فقط لأشعر بشيء من التحسن. اصبري عليّ قليلا ربما استطعت تجاوز هذا الذي أنا فيه.
اكتبي إليّ أرجوك إن شعرت أن أحوالي قد تهمك، ولو قليلا، من باب التعاطف الإنساني العام ليس أكثر. دمت بود ومحبة.
المشتاق إليك بقوة: فراس حج محمد
0 comments:
إرسال تعليق