تعتمد الصين في تمدد وتثبيت أقدامها ونفوذها خارج أراضيها على ما وصفه الخبير في الشؤون الافريقية "روناك جوبالداس" بـ"دبلوماسية الديون المفخخة". ومضمون هذه الدبلوماسية هو قيام بكين بإغداق الأموال في صورة قروض ميسرة واستثمارات ضخمة في البنية التحتية للدول الأفريقية والآسيوية الفقيرة ، الأمر الذي يزيد من عبء الديون على الأخيرة ويوقعها في مآزق السداد. وحينما يحدث هذا تضغط بكين عليها مطالبة بالسداد أو التخلي عن أحد موانئها أو قواعدها كمقابل.
ولعل ما حدث لسريلانكا خير مثال على هذه الدبلوماسية التي وصفها مراقبون كثر بالخبيثة أو الماكرة، بل قال البعض أن ما حدث لسريلانكا مثال تحذيري لغيرها لجهة محاذير الوقوع في فخ رهن سيادتها للصين مقابل القروض.
والمعروف في هذا السياق أن سريلانكا إضطرت تحت ضغط الحاجة إلى تحديث بنيتها التحتية المتهالكة للاقتراض من الصين التي أبدتْ كامل إستعدادها للمساعدة عبر تقديم القروض المطلوبة بشروط ميسرة، لكن ما حدث لاحقا هو أن سريلانكا عجزت عن السداد، واضطرتْ لبيع حصة كبيرة في مشروع ميناء "همبانتوتا" للصينيين سدادا للمستحق عليها.
وهكذا أخضعت الصين سريلانكا، وهو ما صدم الكثير من مواطنيها وأحزابها السياسية التي راحت تهاجم حكومة كولومبو وتتهمها بالتفريط بسيادة البلاد على واحد من أهم موانيء سريلانكا على المحيط الهندي الرابط للطرق التجارية الاستراتيجية مابين أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط وآسيا.
صحيح أن الدول الغربية بخيلة ومتشددة في منح القروض للدول النامية، لكنها لم يحدث في التاريخ الحديث أنها لجأت إلى ما تفعله الصين اليوم وهو التقدم بتمويل مشاريع البنية التحتية بشروط سهلة نسبيا مقارنة بالشروط التقليدية (مثل الفوائد المنخفضة) مقابل أن تكون شركاتها الوطنية هي المستفيدة الكبرى من تنفيذ المشاريع، ثم المطالبة برهن الموارد الطبيعية أو المواقع الاستراتيجية في الدول المقترضة في حالة العجز عن السداد، وذلك في عملية طويلة الأجل لضمان أمن الصين وأمن مواطنيها وشركاتها الكبرى بحيث يتحقق لها النفوذ والهيمنة والاختراق الاقتصادي ويساعد على إنجاز مشروعها المثير للجدل المتمثل في طريق الحرير.
والحقيقة أن سريلانكا ليست الضحية الوحيدة لدبلوماسية الديون المفخخة الصينية في آسيا، فهناك أيضا باكستان التي أقدمت، تحت ضغوط حاجتها الماسة للقروض والمساعدات الصينية، على تأجير ورهن ميناء غوادر بمقاطعة بلوشستان للصينيين لمدة 40 سنة، فضمنتْ بكين بذلك السيطرة والإشراف على ميناء استراتيجي يشرف على مضيق هرمز. ليس هذا فحسب وإنما تمكن الصينيون أيضا من الحصول على تسهيلات عسكرية ضمن قاعدة بحرية/جوية جديدة إفتتحتها باكستان في "توربات" الواقعة على بعد نحو 100 ميل إلى الشمال الشرقي من غوادر. ومن جانبها تنفي إسلام آباد هذه الوقائع وتقول أن ما يجري مجرد مشاريع مدنية مشتركة مع بكين لتطوير الأراضي .
وإذا كانت سريلانكا إحدى ضحايا الصين في آسيا فإن ضحيتها في أفريقيا هي جيبوتي حيث تتواجد الصين بقوة في هذا البلد ذي الموقع الاستراتيجي الهام من خلال قاعدة عسكرية هي الأولى من نوعها للصين خارج حدودها، ومن خلال مشاريع البنية التحتية شاملة ميناء جديدا ومطارين جديدين وسكة حديد تربط جيبوتي باثيوبيا.
وكدليل على وضع جيبوتي المقلق واحتمال أن تفعل بها الصين ما فعلته بسريلانكا تعالت الأصوات المنددة ومن بينها صوت النائب في الجمعية الوطنية "دواليه أوفله" الذي وصف الصين بالمستعمر الجديد واتهم ساسة بلاده بالتواطيء والغباء والسذاجة وعدم إدراك عواقب الاستسلام للاغراءات الصينية.
والمؤكد أن بكين (من خلال شركتها المعروفة باسم تشاينا ميرتشانت بورت) هي التي حرضت حكومة جيبوتي بطريقة غير قانونية كي تلغي العقد الموقع بين الاخيرة وشركة موانيء دبي العالمية حول قيام الشركة الاماراتية حصريا بإدارة مرافق المواني والمنطقة الحرة في جيبوتي بما في ذلك مرافق مناولة الحاويات مما اضطرت معه شركة موانيء دبي للجوء إلى القضاء البريطاني الذي حكم لصالحها لكن دون أن تلتزم جيبوتي بهذا الحكم حتى اللحظة. وبعبارة أخرى وجدتْ بكين أن وجود شركة موانيء دبي على الساحة الجيبوتية قد يؤثر سلبا على خططها وطموحاتها فسارعت للضغط لاخراجها كي تبقى الساحة لها ولشركاتها، وهنا استجابت جيبوتي للرغبات الصينية فانخرطت مع شركة "تشاينا ميرتشانت بورت" في بناء وتطوير ستة موانيء ومناطق حرة داخل أراضيها ضاربة عرض الحائط بالحقوق الحصرية للشركة الاماراتية.
والجدير بالذكر أن شركة موانيء دبي قالت في دعواه القضائية أن محطة الحاويات التي كانت تديرها في "دوراليه" حققت أرباحا سنوية بعشرات الملايين من الدولارات إستولت عليها حكومة جيبوتي في فبراير 2018 بالتعاون مع الصينيين وبتحريض منهم وطالبت بتعويضها عن الخسائر التي لحقت بها.
يقول الكاتب الهندي "براهما شيلاني" في مقال كتبه العام الماضي أنّ مصيرا أسود قد يواجه دولا افريقية أخرى من تلك التي تكتنز بالموارد الطبيعية التي يسيل لها لعاب الصينيين. ومن أمثلة هذه الدول جمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالنحاس والكوبالت وزامبيا الغنية بالنحاس وانغولا الغنية بالنفط وزيمبابوي الغنية بالغاز.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: أكتوبر 2018
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق