جامعة هلسنكي ـ
إياس يوسف ناصر، قُبلةٌ بكامل شهرزادها. حيفا: منشورات مؤسسة الأفق للثقافة والفنون ج. م. ط. ١، ٢٠١٥، ١٦٤ ص.
ولد الدكتور إياس يوسف نعمان ناصر في قرية كفرسميع في الجليل الأعلى عام ١٩٨٤وأنهى المرحلة الثانوية في ترشيحا. حصل على الشهادات (ولا أقول الألقاب) الجامعية الثلاث بامتياز في الأدب العربي من الجامعة العبرية في القدس وعالجت أطروحة دكتوراته عام ٢٠١٧ سرد النسيب في الشعر العربي القديم، وأشرف عليها الأستاذان ألبير أرازي لبناني الأصل ومئير بار أشير مغربي الأصل. أما رسالة الماجستير فعالجت موضوع القضاء والقدر ومذهب المتعة في أدب الخمريات العربي القديم.
ديوانه الأوّل ”قمح في كفّ أنثى“ صدر في بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، عام ٢٠١٢، أمّا الديوان الثاني أو المولود الثاني للشاعر فقد رأى النور بعد عمل جادّ دام تسعة أشهر، وبين دفّتيه ثلاث وخمسون قصيدة قصيرة مكثّفة موزّعة على مائة وأربع وستّين صفحة. من عناوين تلك القصائد: عين كارم، قانون پراڤر، شاعر عربي في ڤينّا، مرور، لست يوسف يا أبي، عيب، العشاء الأخير، أشتاقها، رحم، خارج عن المألوف، قلبي محبس، سافر معي، خرافة، حبق، يا حامل العود، صباح، سنبلة، ما بعد القصيدة. ويُهدي إياس ديوانه قائلًا ”إلى إخوتي الأحبّاء، مَن مثلي يعيش بخمسة قلوب...“.
تمتاز هذه القصائد بحسّ مرهف ثاقب، عاطفة متفجّرة، رؤيا معمّقة، لغة سليمة سلسة لا تحتاج لأيّ جواز سفر لدى قرّاء العربية وعاشقيها، بالرغم من كسر القواعد أحيانًا في الممنوع من الصرف إذ نقول: يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره؛ منها مثلا: لسنا عصافيرًا، ٢٣، عصافيرٌ ١٣٦، غنائما، ٣٣، أحمرًا، ٣٨، آخرٌ، ٣٨، ترانيمًا، ٦٣، تصاويرًا، ٦٩، بأصابعٍ، ٧٣، مكاتيبٌ، ٨٤، مشاعرٌ، ٩٥، آخرًا، ٩٨، حوّاءً، ١٢٠،بأساورٍ ١٣٠، قناديلٌ ١٣٦، مراسيلًا، ١٤٨، قصائدٍ، ١٥٦.
تنصبّ مواضيع هذا الديوان في إطار الوطنية والحبّ بل والوله (استحسان فمودّة فمحبّة فخلّة فهوى فعشق فتتيّم فوَلَه) والمرأة ومناهضة القتل، قتل المرأة للحفاظ على ما يسمّى بشرف العائلة. إنّ الأبيات المنتقاة لاحقًا هي خير دليل لما ذهبنا إليه. وهذا الديوان كسابقه يعكس لبّ مخزون فكري وثقافي ثري وديناميكي، متعدّد الروافد فالشاعر قارىء نهم للأدب العربي والأدب الغربي ويعشَق لغتنا القومية، اللغة العربية المعيارية (Modern Standard Arabic, MSA) التي رضِع حبّها بل عشقها منذ نعومة أظفاره في البيت، فوالده شاعر ومدرّس مخضرم للغة العربية في ثانوية ترشيحا. وورد في الشعر:
ينبُتُ الصغيرُ على ما كان والِدُهُ إنّ الأُصولَ عليها ينبُتُ الشجرُ
ويدرّس الدكتور إياس ناصر العربية لغة وأدبًا في الجامعة العبرية وفي كلية داڤيد يلين للتربية في القدس الغربية. ولا تخفى على أحد ظاهرة تدهور مكانة العربية المتواترة بشقّيها المحكية والمكتوبة في البلاد منذ سبعة عقود والآن هبطت عليها ضربة قاضية متمثّلة بقانون الأساس، قانون القومية الذي صودق عليه في الكنيست مؤخّرًا والذي ”يمنح“ العربية مكانة خاصّة بعد أن كانت منذ سبعة عقود لغة رسمية ثانية بعد العبرية، على الورق تقريبًا فقط. جاء البند الرابع من هذا القانون فنسف كليًّا ما تبقّى من رسمية صورية للعربية في البلاد.
يتبوّأ الجليل مكانة مرموقة في هذا الديوان كما تُبيّن العينة الآتية من أسماء الأماكن في البلاد مع الإحالة لرقم الصفحة:
الجليل: ٢، ٤، ٦، ١٢، ٢٢، ٣٤، ٣٦، ٤٥، ١٠٦، ١٥١، حيفا، ٢٢، طنوطورا؟، ناصرة، عيلبون، سحماتا، ترشيحا، ٢، ٥، عكا، يافا، ٥ يافا ١٠٦، القدس، ٨، ٩، صفد، ٩، كفر برعم، ١٢، ١٣، عين كارم، ١٦، ١٧، ٢٠، عين مريم، ١٨، النقب، ٢٢، ٢٣، ٢٥، ٢٦، بئر السبع، ٢٢، الشاغور، ٢، سخنين، ٢٢، فلسطين، ٢٢، ١٣٦، غزة ٣٢، ٣٣، الزيتون والتين والعنب، ١٦.
الوطن:
قلبي شراعٌ ببحرِ الحُبِّ يا وطني
فهل تخافُ عليَّ الموجَ والريحا!؟
إنّي الجليليُّ... عنقودٌ بداليةٍ (لا أرى أيّ مسوّغ لوضع هذه النقاط الثلاث مرّة والاثنتين مرّة أُخرى).
ووردةٌ فتّحتْ في الصخرِ تفتيحا، ص. ٢
دعني أُغنّي ...فلي في القدس مِئْذنةٌ
تُعانقُ الشمعَ في ترتيلة الأحَدِ، ص. ٨
طعمُ الحياة... هنا في القدس مختلفٌ
مثلُ الكتابةِ فوقَ الرَّمْلِ بالزّبَدِ ، ص. ٩
(أي أن الأوضاع متقلّبة غير مستقرّة، وقد يفهم من هذا أنّ ما يجري من تغييرات في معالم مدينة السلام لن تكتب لها الحياة).
أسيرُ في السوقِ كي ينسلَّ من لغتي
خيطُ الكلام... فأكوي قلبَ مُضطَهِدي، ص. ٩
(العربية سلاح في وجه المضطهد الذي يتأنّف منها، إنّها عِماد الهوية والكيان).
هنا وُلدتُ ..هنا أطلَقتُ زقزقتي
هنا رفيقي.. هنا جدّي... هنا ولدي، ص. ١٠
هنا وُلِدْنا.. هنا عِشْنا... بموطِننا
هنا الجليلُ... حديثُ الدهرِ والأزلِ
هنا سنبقى... فلا كَفٌّ سَتَقْلَعُنا
ماذا انتفاعُكَ مِنْ هدْمٍ ومُعْتَقَلِ؟!!، ص. ١٢
ذُقْنا الأمرَّيْنِ...من أوْجاعِ نَكْبَتِنا
والمُرُّ يبقى لأجلِ الأرض كالعسلِ!، ص. ١٣
(في مثل هذه الومضات الشعرية يصدق القول: تفسيرُ الأشياء الجميلة يقتلُها).
حتّى غَدَوْتُ غريبًا فيكَ يا وَطَني
بيتي قريبٌ ...ولكنْ لسْتُ مقتَرِبا!
فيا لَحَجْمِ مآسينا ونَكْبَتِنا
حتّى بأرضي أعيشُ العُمْرَ مغْتربا!، ص. ١٨
(لا أمرّ من الشعور بالغُربة في مسْقط الرأس، وهذه هي الغربة الحقيقية ويُنظر لاحقًا).
لا عدْلَ في الأرضِ إلّا حينَ نُوجِدُهُ (أي أنّ العدل لا يهبُط من السماء كالمنّ والسلوى ولا يُمنح بل يُنتزع انتزاعا بالكدّ والتصميم).
ولا كرامةَ للإنْسان ما اغتُصبا، ص. ١٩
إنّ البيوتَ، وإنْ أصْحابُها رَحَلوا
تَبْقى الحِجارةُ عنْهُمْ خَيْرَ ما كُتِبا
ونحن نبقى كوجهِ الشمسِ في وطني
من جاء يَطْرُدُنا فَلْيحْتَرقْ غَضَبا!، ص. ٢٠
وللجليل بخاصّة والوطن ومحبته بعامّة والتشبّث به نصيب وافر وكذلك الغزل والدفاع عن الأنثى العربية والتنديد بجرائم ما يُدعى بشرف العائلة فالمرأة ليست بعورة، أنظر قصيدة ”عيب“، ص. ٥٢-٥٥، ففيها يقول الشاعر مثلا:
بل عيبُنا الشرقيُّ عيبٌ واحدٌ
أنّا نُجيد على الأنوثة قهرَها
شرفُ العروبة من قديمٍ ضائعٌ
وفلانٌ في ”عفراءَ“ يطلُبُ طُهرَها
فتناسلٌ وتكاثرٌ وتزاوجٌ
والعقلُ أعزبُ لم يُزاوجْ فكْرَها
(يا ليت يكون هذا العيب الوحيد! معنى ”عفراء“ في اللغة: أرض بيضاء لم تطأها قدم؛ الليلة الثالثة عشرة من الشهر القمري؛ نوع من الغزلان، قارن ”عوفر“ بالعبرية. قد يكون المقصود هنا الشاعرة عفراء بنت مهاصر العذرية التي اشتهرت بحبّها لابن عمّها الشاعر عروة بن حِزام الذي أراد الزواج منها إلا أنّ أباها زوّجها لآخرَ فمات كمدا، إذن أين الطهر والعذرية وعفراء تزوّجت. علاقة جسدية جنسية بهيمية تفتقر لتزاوج الفكر والروح بين الطرفين).
وذكرياتي غيومٌ حين تُمْطرني
تبني العصافيرُ أعشاشًا على جسدي، ٨
طعم الحياةِ ...هنا في القدس مُخْتلفٌ
مثلُ الكتابةِ فوقَ الرملِ بالزّبَد،
أسير في السوق، كي ينسلّ من لغتي
خيطُ الكلام...فأكوي قلبَ مضطهِدي، ٩
(شبّه طعم الحياة في مدينة السلام التي يعيش ويعمل فيها الشاعر بالكتابة برغوة الماء على الرمل، أي لا يبقى لها أي أثر، شيء عابر، متقلّب لا ديمومة له، وهذا قد يعني أنّ كلّ ما يتبدّل ويُخلق في القدس من محسوس ومجرّد ما هو إلا إلى درب الزوال ذاهب فالحق يعلو ولا يعلى عليه).
هنا وُلدتُ..هنا أطلقتُ زقزقتي
هنا رفيقي.. هنا جدّي ...هنا ولدي، ١٠
هنا سنبقى... فلا كفٌّ ستَقلَعُنا، ١٢
ذُقنا الأمرّيْن ...من أوجاع نكبتنا
والمرُّ يبقى لأجل الأرضِ كالعسل!، ١٣
فيا لَحجم مآسينا ونكبتنا
حتّى بأرضي أعيشُ العُمرَ مغتربا!، ١٨
ونحن نبقى كوجهِ الشمس في وطني
من جاء يطردُنا، فليحترقْ غضبا!، ٢٠
كلُّ الدروب إلى أرضي مؤدّية
باقون فيها ...نلمّ الدهر والحِقبا...، ٢٠
وقيدكم على أيادينا
لأجل حقّنا
أساورٌ أساورُ...
ولن يمرّ براڤرُ، ٢٤
(مخطّط أو مشروع إيهود پراڤر وزير التخطيط يعود إلى صيف العام ٢٠١٣، كان يرمي إلى تهجير قرابة الأربعين ألف عربي في النقب وزجّهم في ”بلديات التركيز، أي الاستيلاء على أكثرَ من ثمانمائة دونم وتدمير ثمان وثلاثين قرية. نضال الجماهير العربية في البلاد أسقط هذا المشروع/المخطّط في أواخر العام ٢٠١٣).
ولتفْحصوا عُمرَ التراب بأرضنا
نحن الثواني.. والدقائق والحِقَبْ...، ٢٦
وطني الحبيبُ على جبيني ساطعُ!، ٣٦
إنّي حزينٌ... أن تكونَ عروبتي
في الشام أو في مصرَ بحرَ مدامعِ، ٣٨
الحبّ بل أكثر:
إنْ كان من شفتيكِ حِبرُ قصائدي
فعلامَ أخشى أنْ تجفَّ دَواتي؟! ، ص. ٦٠
واسمعه يقول العكس في هذه الأبيات:
أنا لا أُجيدُ الشعْرَ يا عُصْفورتي
إنّي أمامَك دونَ بيتٍ واحدِ!
لا يستطيعُ الشعْرُ أن يبقى معي
إنْ قُبلةٌ هتفتْ وضمَّكِ ساعدي، ص. ٦٨
ويتابع الشاعر في قصيدته هذه ”حبيبتي والقصيدة“ فيقول إنّ القصيدة هي في الواقع ضمّ الشاعر لحبيبته ولو للحظة وحينها يرى البراعم حتّى في الصقيع البارد، وهل من صقيع غير قارس؟ الشعر يعني حبّ الشاعر الدائم لمحبوبته ففؤادها مسكنه ووسائده، ص. ٦٩-٧٠، وفي موضع آخر يذكر أن ”أحداق“ المحبوبة هي مسكنه ومأواه، ص. ٧٢، وفي سياق آخر يقول إنّ ”عيني الحبيبة“ هما مِخدّته، ص. ٧٦، ”زهرتا الياسمين“ هما النهدان، ص. ١٠٨، و”العيون“ بيدر أشواق، ١١٨، وأرى أنّ التشابيه والاستعارات في شعر إياس ناصر تستحقّ بحثًا خاصّا.
وتُحرّرينَ ...بقُبْلةٍ أعبائي، ص. ٧٦
عيناك...نهْرٌ أستحمُّ بنورهِ
فأنا عَشِقْتُكِ مُذْ بدأْنا نلتقي
أبْحرتُ في بحْرِ الهوى فوجدتُهُ
من غيْرِ شَطٍّ...كيْ أعودَ بزَوْرقي!، ص. ٩٢
آمَنْتُ أنَّ اللهَ أثبتَ نفسَهُ
بجمالِكِ الصدّاح لا التوْراةِ
(جراءة نادرة، جمال حبيبته المزقزق بصوت عالٍ ومستمرّ برهان لوجود الباري وليس الكتاب المقدّس، ص. ١٠٣، ويبدو أن أحلى الكلام ما لا يُفسّر، ص. ١٢٢).
إنّي أُحبُّكِ.. ليس حُبّي خاتَمًا
بَلْ إنّ قلبي قبلَ كفّي محبسي!، ص. ١٠٦.
أنْ أرى ثَغْرَكَ المُعتَّقَ فوقي
قَلَمًا في الهوى...وجسْميَ دفترْ...، ص. ١٢٢.
فطَعْمُ أُنوثتي ملْقاكْ
وموْطِنُ قُبْلتي شفَتاكْ، ص. ١٢٧.
هذي فلسطينُ... لكنْ بعدَ موعِدِنا
قد صرتُ أَعرِفُ أنّي فيكَ يا وطني!، ص. ١٣٦.
لقد استمتعت بقراءة هذا الديوان وأظنّ أن الكثيرين سيشاطرونني الرأي ذاته.
0 comments:
إرسال تعليق