سياسة ترامب الخارجية.. ردم الجمر بالتراب/ د. عبير عبد الرحمن ثابت

بمراجعة تاريجية لسيرة رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية لم يواجه رئيس أمريكى هذا الحجم من الفضائح والقضايا التى يواجهها الرئيس الحالى دونالد ترامب فى هذا الزمن القياسى والذى لم يتجاوز بعد الثلاث سنوات من تاريخ اعتلائه لمقعد الرئاسة الأمريكية؛ وفى المقابل لم يشهد كذلك منحنى  الانتعاش والنمو الاقتصادى للولايات المتحدة صعودا كالذى شهده خلال السنتين ونصف التى مضت من فترته الرئاسية مع أى رئيس أمريكى سابق وذلك باعتراف معارضى ترامب من الديمقراطيين أنفسهم  قبل أنصاره من الجمهوريين رغم حالة السخط عليه التى نراها ونسمعها من كافة المستويات .

وعلى صعيد أخر لم تشهد السياسة الخارجية الأمريكية انحرافا عن مسارها التاريخى وكسرا لقواعدها الثابتة من القضايا السياسية والاقتصادية  العالمية  كالذى نشهده منذ عامين ونصف من حكم إدارة ترامب؛ والذى وظف قوة الولايات المتحدة السياسية والعسكرية والاقتصادية فى خدمة الاقتصاد الأمريكى بعيدا عن  الحدود الدنيا من المبادئ والأعراف الدبلوماسية والأخلاقية الموجودة فى السياسات الدولية والأمريكية والتى التزمت بها كل الادارات السابقة.

وتبدو اليوم الولايات المتحدة أكثر عزلة  فى الغرب من أى وقت مضى بسبب سياسات إدارة ترامب الاقتصادية الخارجية وممارسته للعبة النرد فى كافة مواقفه السياسية سواء من العولمة الاقتصادية واتفاقيات التجارة الحرة والعسكرية فى حلف الناتو وبسبب مواقفه المنفردة فى الكثير من القضايا الدولية التى تتعمد تقزيم الدور الأوروبى فى السياسة الدولية لصالح  دور أمريكى ريادى يسعى له ترامب بفرض  سياساته كواقع ملموس على الأرض يطلب من الآخرين التوافق معه والتعامل معه كأمر واقع. 

وقد تجلت تلك السياسات فى موقف الادارة الأمريكية من اتفاقية التجارة الحرة؛ ومن التمويل الأمريكى لحلف الناتو والاتفاق النووى الايرانى وكذلك من ملف التسوية للصراع الفلسطينى الاسرائيلى، وبعيدا عن أوروبا الموقف من كوريا الشمالية ومن التنين الاقتصادى الصينى والتمدد  السياسى والعسكرى الروسى.  كلها قضايا كسرت فيها إدارة ترامب الكثير من القواعد الصلبة التى كانت قائمة ولم تبن بعد قواعد جديدة، لكنها فى المقابل ترجمت  كل هذا التدمير لتلك القواعد إلى مكاسب قياسية للاقتصاد الأمريكى دفعت ثمنها كل الاقتصادات العالمية.

ولكن ترامب اليوم يواجه أصعب أوقاته، فقد بدأت فضائحه تتحول إلى قضايا قانونية قد تطيح به حتى قبل أن يكمل فترته الرئاسية الأولى؛ وعلى الرغم أن هذا الاحتمال لا يبدو واقعيا فى المدى المنظور إلا أنه ليس مستبعدا إلا أن  التأثير الأكبر لتلك الفضائح والقضايا سيكون  بعد أقل من عام ونصف فى انتخابات الرئاسة القادمة، وكذلك انتخابات التجديد النصفى التى باتت على الأبواب سوف تمثل حتما  استشرافا عمليا وواقعيا لمستقبل الادارة الأمريكية؛ فإن تمكن الجمهوريين من الاحتفاظ بأغلبيتهم فى مجلسى النواب والشيوخ فهذا يعنى ببساطة تصويت شعبي  ودعم سخى لإدارة ترامب وسياساتها سيمكن ترامب من تجاوز كل  فضائحه وقضاياه  القانونية باستخدام صلاحياته المخولة له قانونيا فى تجميد تلك القضايا، ولكن فى حالة حدوث ذلك فإن إدارة ترامب سوف تكون فى أمس الحاجة بعد انتخابات التجديد النصفى إلى تحقيق نصرا مؤزر وغير مسبوق فى أحد القضايا الخارجية الدولية التى كسر فيها سلفا قواعد أساسية كانت قائمة ولن تجد إدارة ترامب أفضل من  قضية الصراع الفلسطينى الاسرائيلى لتفى بهذا الغرض.

وهنا ستبدو إدارة ترامب أحوج ما تكون للطرف الفلسطينى لإحداث إختراق فى الموقف الرسمى الرافض لكل سياسيات ترامب تجاه القضية الفلسطينية ولتمرير الخطة الأمريكية لانهاء الصراع العربى الاسرائيلى ، ويجدر الاشارة إلى أن ما يدور فى الفضاء الأزرق من تصريحات وتهديدات أمريكية؛ والذى يدمنه ترامب وينقل مواقفه السياسية من خلاله لهو مغاير عما يدور فى الأروقة الأمريكية المغلقة التى تحاول كسب موافقة الفلسطينين وجلبهم الى طاولة المفاوضات  لتمرير صفقة القرن؛ ولكن هذا الجلب للطرف الفلسطينى من الواضح أنه يخضع لسياسة العصا والجزرة التى تجيدها الادارة الأمريكية بجدارة للوصول إلى غايتها بمجمل القضايا، ولكن باعتقادى هذا لن يحظى بأى تجاوب فلسطينى رسمى ما لم يفضى إلى إصلاح ما دمرته إدارة ترامب فى قواعد التسوية الثابتة باعترافها بالقدس عاصمة لاسرائيل ومحاولتها لتصفية قضية اللاجئين، وقد تنجح إدارة ترمب فى إنهاء الكثير من الملفات وفق لعبة النرد التى تتبعها فى معالجة القضايا الدولية المختلفة، ولكن من الصعوبة بمكان إحداث أى تقدم فى الصراع الفلسطينى الاسرائيلى وفق هذه اللعبة دون موافقة الفلسطينين لأنها هنا تراهن على مصير شعب حافظ على هويته وكينونته الوطنية رغم كل ما تعرض إليه من محاولات التذويب والانصهار، خاصة أن سياسات ترامب السطحية بالتعامل مع القضايا الدولية لن تُحدث إلا نتائج مؤقتة لا يمكن البناء عليها لتثبيت وقائع لأمد طويل، ولن يكون فى الواقع إلا فقاعة سرعان ما تنفجر نظرا لأن أخطر ما تقوم به الادارة الامريكية فى جهود التسوية هى تعاملها مع الصراع الفلسطينى الاسرائيلى بالنظر إلى الواقع الآنى على الأرض دون أخذ الاعتبار لمقاومات الصراع التاريخية الانسانية والعقائدية والقومية والحضارية .

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق