تنحاز نصوص الأديبة اللبنانية أمل خليفة الى الأشتغال بالهاجس الأنثوي من خلال إستحضار الآخر / الرجل اليومي ، في نصوصها بوصفه مرآة يعكس من خلال تصرفاته ملامح الصورة المعاكسة والتي هي صورتها عبر سيل من النصوص تحمل بين طياتها لغة إنفعالية تمتاز بنغمتها المتصاعدة نحو الآخر وتساؤلات مشروعة تحاول الأديبة إثارتها كي تثير الإجابة في القارئ أو المتلقي كقولها في قصيدتها (ما في الأرض):
هل يضم الفجر قلب الليل الى صدره
أم هل يبدأ البحر بإحصاء موتاه
وغيرها من الأسئلة وفي قصائد عدة ، ولشدة وقعتها على الشاعرة دفعتها لإختيار مفردات تتجه نحو الوضوح والمباشرة المؤلمة كي تكون قادرة على إستيعاب طاقاتها الإنفعالية بنصوص من ذوات طابع سردي نقلتها من جو القصيدة الى جو آخر يمكن تسميتها بخواطر وصفية أو رسائل إنسانية جميلة وهي تشبه لوحات رسم تجسد لنا من خلالها صورا تثير لدى القارئ إنفعالات تستوقفه ليتلمس حجم المعانات التي تركها الآخر ( الرجل ) لديها ، وكرد الفعل إتجهت الأديبة أمل خليفة كي تستنجد بقلمها ولغتها بعد أن حملتهم بوظائف نفسية واضحة للتعبير عن أناها .
وبقدر ما كانت نصوص مجموعتها هذه مسكونة بالألم ، تشتغل الشاعرة على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري فتتفجر طاقتها في مجموعتها هذه الصادرة عن دار نريمان للنشر والتوزيع والتي تحمل بين دفتيها (36) نصاً .
فأهم ما أفضت إلينا المجموعة منذ عتبة الاستهلال ( حياكة السنين ) والتي تقصد بها ما حاكتها لها سنين عمرها التي قضتها مع الآخر وقبله ، هذه العتبة وغيرها من العتبات النصية، الداخلية ( مشيئتك يا الله ، الزواج ، خلايا قلبي ، الجرح ، أين الرجولة ، الرحمة ، ما زلت على قيد الحياة ، فليغفر الله للجميع ، هل يخلق الإنسان تعيسا ، دعوني أنام ، نفوس مظلمة ، القلوب المحجرة ....) تكون بمثابة مرايا عكست لنا شعرية عميقة متأتية من المأساة ، وهي تشير إلى مدى تعلقها، بأشتغالات إشكالية الصراع اليومي حول الوجود الانساني فهي تحمل دلالة ما او تضطلع بوظيفة من الوظائف فثمة موازنات سردية / حكائية تقيمها الشاعرة داخل نصوصها ، تنفتح على العالم الخارجي . ويمكن إعتبار قصيدتيها (نداء العمر ، ما زلت أنتظر ) نموذحا لتدلنا على نقطة العبور الى الداخل النصي كقولها في قصيدتها ما زلت أنتظر :
عانقني الشوق من الصغر
لكنه ذهب وإنفجر في عيني وقلبي
دمعا أحمر
واستيقظ فجري من سباته الطويل
فمنذ أول نص تقرأه ستجد نفسك أمام هواجس أنثوية بريئة تحمل بين طياتها تراصف من الصور المتجسدة والمتراسلة للأنا والآخر عبر الإيقاع الذاتي وسط صراع مشروع تنشغل به الذات الشاعرة بحثا عن النبع والمصير الذي تعكسه مرآتها بما تحوي من مشاهد حاضرة تعج بعناصر الخوف من الفعل اليومي وكما تقول في نصها ( مشيئتك يا الله ) :
مرت ليالي الوحدة القاتلة
وأنا أتحسس برودة الوقت
وأفكر ! كيف أن ذلك الضباب
الذي نسجته يد السنين
في بصري
لا تمزقه الأيام القليلة
إنها صور من مكونات الأنا والآخر لتساؤلات إنسانية تشكلان صوتاً آدمياً ، وبسبب هذه الخزانة الواسعة من الحكايات والتوظيف غير التعاقبي ، سايرت معاناة الأنا وكابدت ظلم الآخر متجسدة بنتاجها المفعم بالترنيمات الأليمة وهي تتجرع الأحزان عبر كلمات جريحة تشدو بموسيقى الحسرة ما ألم بها من مفارقات دعتها لتحاور أناها المتألمة كي تعزيها في هذا الآخر :
وبعد برهة من التنهدات
إكتشفت أن قلبي ما زال على قيد الخوف
بالرغم من هروبي الدائم منه
نجد إن الأديبة أمل تستجمع شظايا الألم من معاناتها في طفولتها أو من الآخر ، وترسل عبر صورها المباشرة والمحملة بآهات الشجون كي تصدمنا بما تحمله من شحنات توترية تراكمت لديها مما تحملته الذات الشاعرة / المتأثرة وما أفرزه الآخر المتصلب والعنيف لذا تحاول الشاعرة أن تزيل القناع عن وجهه لترسم لنا صورته كي تفصح عن هويته وهي تقول في نصها ( أين الرجولة ) :
كان حازما كالموت
ظالما كالجحيم
قاسيا كالصوان
مراً كدمع العلقم
ذاك الذي إعتقدته رجلا
ومن ثم تحاول عكس العلاقة التنافرية والتخاصمية القائمة بينهما من خلال مراياها (نصوصها ) فنجدها وعلى طول الخط في علاقة تنافر وخصام مع الآخر، إلا أنها ترى نفسها عاجزة عن الخوض في حلبة الصراع مما جعلت الشحنات النفسية التي تحملها المفردة، تستخدم في سياق الخضوع والكشف عن المستور علها تستطيع شفاء غليل ذاتها المنكسرة ومع هذا تراها تعود منكسرة لتنام عسى أن تحلم حلما جميلا وكما تقول في قصيدتها (دعوني أنام) :
دعوني أحلم بالصباح
القادم على حصانه الفضي
كي أنام على ذراعه وأغفو في حضن نجمة
من رحيق الأقحوان
دعوني أنام ملء سريري
لحضن طيفه الغافي
على وسادة الأمل الغارق في أوهام ليلية
فصورها لا تنغلق على ذاتها بل تنفتح على مصراعيها من خلال استدعاءها للصور الحسية والتي هي مجموع الجراح الدامية المخزونة في مناطق الحس المحفوظة عن مسيرة حياتها من الطفولة الى الآخر، حيث تعمل مخيَلَتهما على تحفيز الحوار مع الآخر الشخصي حينا، والآخر تجربة ومغامرة حينا آخر.فأناها المتألمة تكون طاغية على النص وواضحة وهي تقف بالضد من الاخر الرجل كي تعريه وكما تقول في نصها ( الزواج) والذي يدخل ضمن نصوص السيرذاتية :
هو القدر أم الخلاص
عندما كنت في بيت أبي (رحمه الله)
كنت أشكو للسماء ضعفي
(أنا التعيسة فأين الخلاص )
الى أن حمل القدر اليّ
ذلك الرجل وجنيت على نفسي بالزواج
يعتبر النص السيرذاتي من الوسائل التي مكنت الشاعرة من أرسال أنويتها المحملة بآهات الشجون عبر مفردات من ذوات العلاقة الوطيدة بحياتها اليومية، والقرببة من الفؤاد ، تتشظى في اعماقنا وتنقلنا بتجربتها الشعرية الى مديات بعيدة مما يسمح لإنعكاسات صورها الشعرية من ملامسة ودغدغة أحاسيسنا الداخلية بكلمات وجمل محملة بالآهات كي تولد وتنصهر في دواخلنا كاشفة لنا عن الأنا الكلية بصورتها القاتمة كما تقول في نصها (الجرح) .
منذ طفولتي وأنا جريحة
وكبر الجرح مع أنوثتي
ومع أمومتي
فتمنيت لو أن العمر لم يمر
تمنيت لو أني لم أكبر
ما الذي يدعوها لتتمنى أن تبقى طفلة رغم أنها كانت جريحة في طفولتها لو لم يكن جرحها بعد إكتمال أنوثتها أكبر ؟ وهي تتساءل في قصيدتها ( أكثر الناس طمعا ) كيف يحق للآخر أن يستعبد أنوثتي وقد خلقني الله حرة ...
الزميلة أمل أستطاعت أن تنسج نصوصها من مجموعة صور تخترق الوضوح لتجسد دلالات الرؤية والتخيل من خلال الربط بين هذه الجزيئات ( الصور) للحصول على اللوحة البانورامية الجميلة والمحزنة بعوالمها الوامضة والمحفوفة بظلال المشاعر لتقوم بدغدغة مشاعرنا وحثها على الأستفاقة لتأخذ أماكن السحب والأشجار كمصدات للشر الذي يحصد الأبرياء وكما تقول في ( نداء العمر ) :
بكيت مرارا من أجل من غابوا
ومن وقفوا على أطلالة أهاتي الصامتة
ناجيت الليل لكي يطول
لأسهر مع نجومه المرتجفة كقلبي
وفي الختام ومن خلال قراءتنا لنصوص المجموعة يمكن درجها ضمن أدب السيرذاتية وحيث نرى إن الشاعرة تميل الى استخدام المفردات ذات العلاقة الوطيدة بعلاقاتها اليومية مع الآخر وبلغة مباشرة بعيدة عن الرموز والأقنعة وكأنها تخاطبه هو وحده لا سواه مما يسمح للصور الشعرية بالتوالد والإنصهار بتجربتها كي تفجر الدال عند القارئ، وتحسسه كي يشاركها في معاناتها ، لتسرع بنا في عرض صور متتالية لمشاهد من أيامنا الدامية .
0 comments:
إرسال تعليق