تمنّيت لو أعرف مبرّراً لغيابك، أنا التي انتظرتك من عهد الغيم حين عانق الشجر، أنا التي منحتك عطر الياسمين، حتى نطقت بعينيك الحزينتين ألوان الفرح.
تمنّيت لو أخمدت هذه النار المتأجّجة كلّ يومٍ في ضلوعي بالسؤال عنك، فمن مثلك لا يخون، ولا ينكث عهداً، لأن الضياء لا يعرف لزوجة الطين.
لمَ ابتعدتَ؟ هكذا...بصمتٍ قاتلٍ، فتك بكلّ أجنحتي، ورماني على قارعة نبضي المستكين.
أعرف.. أعرف أنّ ما قيل في الليلة الأخيرة لزيارتك لنا، قد آلم كبرياءك، حين استحثّك والدي على إسراع الخطا نحو الزفاف.
شهورٌ طويلة مضتْ على خطوبتنا، ولم ننجز وعد أحلامنا، في عشّ هادئ يجمعنا.
أتذكّر بأسى دمعتك الرجولية التي تكسّرتْ بين هدبيك، وتلّقفتها بصدري،وبسمتك التي استعصتْ على شفتيك، فلم تستطع أن ترسمها، ولو كذباً.
وكيف شحنت حروفي خلف الباب، وأنا أودّعك، بنبرةٍ صادقةٍ همست بها: لا تهتم ..سأنتظرك حتى آخر العمر..
ويح قلبي، كيف لم تصلك رسائله؟لمَ أقفلتَ كلّ النوافذ، وارتحلتَ بعيداً؟
أدرك ضيق الحال، أدرك بأنك المسؤول عن إعالة بيتٍ كبيرٍ، بعد ارتحال أبيك، مخلّفا وراءه إرثاً من همومٍ متوالدةٍ، لا تنتهي.
ولكني رسمت معك حلماً جميلاً، يجتاز كلّ الأبواب المغلقة في وجوهنا..
آاااه يا شوارع دمشق، هبيني بعضاً من أنفاسكِ لأعيش بها بعد موتٍ.
علّميني كيف تبسمين رغم كلّ المحن، والشقاء!!!
وكيف أعلنتِ الحبّ، في رسائل الحرب التي كانت تدهمك في كوابيس الظلام،نارنجاً، وأضاليا، ولبلاباً !!
ها أنا أدور مثل خزروفٍ متعب،ٍ في دوّامةٍ مفرغة، مالها قرار..
تعبت من السير، من الظنون، من مدامعي، من نزف قلبي.
هاقد لمحتك الآن على الرصيف المقابل، تشقّ الجموع من غير التفاتٍ، النحول بادٍ على وجنتيك،تحمل أكياساً، تتأبّط أوراقاً.
أما شعرتَ بي وأنا أقف مشدوهة، بينك ، وبين قلبي الذي طار من صدري كعصفورٍ جريحٍ، ليعبر أشواقه إليك ؟؟؟
حسناً سأمضي وراءك، أتبع خطوك، أفكّ أزرار سرّ ابتعادك.
يا الهي ..ها أنت قد دخلت المشفى الكبير، كنت خلفك ألهث، كتمتُ خفق قلبي ، واصلت تتبّع ظلّك.
تسمّرتُ في مكاني عندما لمحتك، تجثو على ركبتيك ، تقبّل طيفاً نحيلاً يستكين على كرسيّ متحرّك، تجرّه الممرّضة ، مجتازةً الممرً ذي البلاط اللامع،الذي زادت توهّجه، الأضواء المتناثرة كالنجوم في السقف.
استبنتُ ملامحها، إنها أمك ، أعرفها جيداً، وكم أحببتها !! حين ضمّتني إليها ، ذات مرّة، تعطيني امتداد إشعاع ضلوعها إلى قلبي، كي أحفظك فيه، كما تفعل هي دائماً ، مذ كنت في أحشائها.
تقدّمت إليك ، تقدّمتُ أكثر،حتى وقفت قبالتك، أردتَ أن تهرب من نظراتي العاتبة، من دموعي التي اخترقت تجلّدك، وثباتك،نبضك فضح أشواقك الكامنة في حناياك.
تمتمتَ بشفتيك المتشقّقتين: لم أرد أن أشقيك معي ...إنها أمي .. احتاجت إلى عملٍ جراحيٍ عاجلٍ في القلب، استنفذ كلّ ما ادّخرته من أجل عشنا الحلم..
لم أستطع يا حبيبتي أن أفي بوعودي لك ، والعمر يمضي، وأنت وردة حلوة الأكمام ، أخاف أن تذوي على حائط الانتظار البارد.
وأنا الزارع البائس، قد شقّقتْ يد الزمن أصابعي، فما استمطرتها ، غير أملٍ جريحٍ، كتمته الأيام، لقلّة حيلتي..
أردتُ أن تكرهيني، تلعني حبي، تخمدي أنفاسي المعذّبة على يديك الحبيبتين..
..أغمضت عينيّ ..أضغط على رأسي بأصابعي ..أمرّر الحروف بصعوبة لشدّة قهري:
ــ اصمتْ ..لا تكملْ، طعنتني ألف مرّة بصمْتك الموجع، ماجدوى الحبّ إن لم تتفتّح أزراره بين شقوق الصخر؟؟؟
كان عليك أن تصارحني، لن أسامح ما أثقلت به على صدري من حزن..
خطوت نحو الطيف الرقيق ، أمسح بيدي عبرات وجنتين غائرتين ، مكدودتين تعباً ، أحسست سيول أمطار نديّةٍ تسري في عروقي حين لامستها.
ثمّ نهضت أضع يدي فوق يده على قبضة الكرسيّ المتحرّك، ندفعه معاً ..
أهمس له : أنت في عيني اليوم أكبر، ألم أقل لك ..لا تهتمّ ..سأنتظرك حتى آخر العمر ؟؟؟
0 comments:
إرسال تعليق