هو الديوان الثالث عشر لشاعر، رغم انتاجه الغزير، تبقى النوعيّة هي المسيطِرة على معظم قصائده. وفؤاد هو عملة نادرة بين أترابه. انطلق شاعراً واعدا من قريته بحويتا وأصبح شاعراً ملء عين الزمن. بعكس الكثيرين الذين اما تراجعوا شعرياً أو لا زالوا شعراء واعدين بانتظار القفزة المنتظرة والتي ربما لن تأتي.
ففؤاد في يا حارس الجمرة، كما في كل أشعاره، يعزف "من الفؤاد" "معزوفة الحزن العتيق": "عم موت بالتقسيط عا مهلي ص 30" وهل هناك حزن أكثر ايلاماً من حزن شخص يرى نفسه يموت بالتقسيط؟. وحزنه لا يبقى حزناً شخصياً بل يتعداه الى الحزن العام الذي يصل الى الوطن الغارق في آلامه والى الوضع العربي العام وخاصة القدس: "حزنِت القدس/ توجَّع القدّاس/ شو طوَّلت ها الجلجله/ وقدَّيش لازم يمتلي/ هالكاس؟ ص53" ورغم "دعسة ناقصة" هنا أو هناك، يبقى يا حارس الجمرة، كما "مسبحة أمي" وأمه، كما معظم شعره، يشدّه، يشدّنا، الى زوايا الحنين: " وصرِّخ بغابات المدى/ اشتقتلكن/ ص: 17" . ولكل منا ذكرياته وأماكنه وناسه الذين يحاولون اعادته الى أيّامه الجميلة الباقية في البال.
في يا حارس الجمرة، وفي كل ما كتب، تجده، كما كل مغترب يتقلَّب "بين تذكرتين". فالاغتراب هو مأساة حقيقية للجيل الأول من المغتربين، جيلنا. نحن نردد دائماً مع فؤاد: "يا ريت لا رحنا ولا جينا". وفي بعض المرّات، وعندما نسمع عن أوضاع وطننا الصعبة، التي نخاف منها على فلذات أكبادنا، أو حين نحقق بعض أحلامنا، نربِّت على أكتافنا، مثمّنين القرار الصائب الذي أتخذناه، أو محاولين اقناع أنفسنا بأنه قرار صائب فنردِّد: "مليح لْ حملنا حالنا وجينا". ونبقى الى آخر العمرنرقص الـ "تانغو" معانقين مرّة "يا ريت لا رحنا ولا جينا" ومرّة اخرى نعانق "مليح لْ حملنا حالنا وجينا".
ومرّات كثيرة يعزف على أوجاعه، أوجاعنا، فنجد صدى "رندح يا وجع" يتردد في ليالي غربتنا الباردة كما يتردد في ديوانه الجديد. فوجع فؤاد هو وجع خاص يُعمَّم على كل المغتربين: "شقّ الفجر لازم نفيق ص 11. أو : ومن يومها عالق أنا والدَّين ص 13". ومن منّا لم يعلق بالدَّين؟ أو لم يستيقظ "شق الفجر" اذا كان يريد أن يعيش حياة كريمة؟ أو الوجع المكبوت المختبىء في القلب: "حامل عصا بقلبي/ ما فيك تشوفها ص 78". ما أبلغ هذه العصا التي يتعكّز عليها قلبه من كثرة أوجاعه وأحزانه. الى الوجع العام الذي يدمي قلب المغترب في علاقته اليومية بالوطن: "محروق قلبو عا وطن محروق ص 36".
أما جمرة الحريّة ص 36، فلا تتحقَّق الا بالوعي، الذي يجب أن يعمّ الشعب كلَّه، والذي يجب ان يغضب ويثور على أوضاعه المأساوية: "جمرة وعي، جمرة أمل مخنوق/ جمرة غضب ها الشعب المْسالِمْ". ورغم ان "الشرق ظالم، والغرب ظالم" الا ان حريّة وطننا لا تتمّ الا بحرية الشرق كله. فهو يحلم ان تصبح جمرة الحرية قنديلا "والنور يجتاح الشرق كلّو". ولا يستثني الشاعر نفسه من مهمّة نشر التوعية فيتبرَّع بما يملك. وهل يملك الشاعر غير القصيدة؟ فبوظِّفها لخدمة الحرية ونشرها في الشرق . وبذلك "تبقى القصيدة لنارك مرايه" ويبقى الشاعر في خدمة الاهداف الكبرى لرقي شعبه وحريته وتقدمه.
ديوان يا حارس الجمرة هو ديوان المغترب بامتياز. هو لسان حالي ولسان حال كل المغتربين. فمنذ الصفحة الأولى حيث تركنا عيوننا هناك: "يصوّرو بيروت والمينا/ ويلملمو دمعة أهالينا" الى أيام السهر والتعب والوجع والحنين، الى أيام التكيّف مع واقع جديد: لا ثقافته تشبهنا، ولا شعبه شعبنا، ولا أكله ولا لغته ولا أغانيه. بكل ما يعنيه هذا الواقع من آلام وأحلام. الى الارتباط بوطن أعطانا ما فقدناه في أوطاننا: أعطانا قيمتنا وكرامتنا وحقّنا بحياة حرّة كريمة، حتى صرنا نغار عليه ونتمنى لأوطاننا بعضاً من تقدّمه ورقيّه، الى احتراقنا على "وطن محروق" تذبل فيه "المنى" وتبقى فيه الأحلام دون حصاد . ويزيل وَهْمَ المقيم، ويعطيه فكرة صادقة عن المغترب بكل ما لها وما عليها، خارج اطار الصورة الوردية النمطية عن الثروات التي تنتظرنا.
لغة شعرية جميلة. خيال خصب. صور لا يستدينها من حسابات من سبقوه بل تجد عليها ماركة "ابن نعمان" الخاصة به. "صَرّ الصلا والنور زوّاده ص: 75". أما كيف "يصر النور زواده؟" فهذا من أسراره الجميلة. أو "وقلب الحنون بينكسر مرة/ وبيضل عمر يلَمْلِم الشقفات ص 62" هذا اذا استطاع أن يلمَّها كلها. أو "شرشف عيوني كبير، والنظرة حرير ص 79"، وكلّنا يشعر بهذه النظرة الحرير التي تلفّ أحبابه أينما كانوا.
فؤاد نعمان الخوري ليس حارس الجمرة فحسب. بل أكثر من ذلك هو حارس الشعر وحارس الأصالة الشعرية في جاليتنا. ليس حارساً عادياً ولكنه حارس معتَرَف به رسمياً ومن رتبة "فارس" أيضاً.
قراءة مميزة من قارئ متميز لشاعر يعبق شعره حباً وخيراً وجمال
ردحذف