(( بعض ُ قصص سناء كامل شعلان تلهمني ما تلهم ... شكراً للسناء )) .
إختطفها إذ غاب زوجها ليلاً عنها ...
ما رآها قبل ساعة الإختطاف . رآها قبل ذلك مرّاتِ عدة ولكن ، محتواة في إطار من فضة مُلقى ً على منضدة زوجها طبيب الأسنان الوحيد في القرية النائية . لم يرَ في سجنها الفضي ذاك إلا عينيها تشعان فيخترق الشعاع معدن الفضة البارد . تسخن الفضة فتنتقل الحرارة إلى قلب الشاب الباحث في علم حشرات الفاكهة . يلتهب القلب ويتقد . يشتعل العصب في الجسد فتتوهج الرغبة العارمة فيه . غاب زوجها الغيور عنها لفترة قصيرة أتاحت للباحث في علم الحشرات فُرصة إختطافها بعد عذاب وصراع وجرعة قوية فوق العادة من مخدّر أدمن تعاطيه درءاً لآلام أسنانه المزمن . العشق قتال في بعض الأحايين وغريب النشأة والتفاصيل.
ألم الأضراس يقويه ويزيده غرابة ً ووحشية ً وإصراراً على نوال مَن سببته . ألم الجوى والحرمان منه لا يضاهيه إلا ألم الأسنان القاسي . الألم هو الألم ، وعصب السن واحد من أعصاب الجسد المسربل بالعشق المتوحش الضاري . إختطف معشوقته وأدخلها كوخه الصغير ليلاً . عرّاها وتعرّى . مارسها فإستمرأته . وجدته أكثر فتوة ً وشباباً وجبروتاً من زوجها العجوز الخالي العظم . نامت وقد إرتوت حباً وجنساً فلم يدعها عاشقها تواصل النوم . تذكَّر أنها أعرضت عنه مرة ً ، طردته وقد باح لها بحبه . عاودته فجأة آلام أسنانه . ألَمان متساويا الدرجة والعنف والسيطرة. ألم ذل الطرد وألم أسنانه . تسلل عاريا ً رويداً من فراش ضجعتها الأخيرة ... تناول الساطور الضخم الذي إستعاره من فلاح البساتين المجاورة المستخدم في قطع وتشذيب أطراف وفروع الشجرغير المرغوب فيها ولتكريب جذوع النخيل . أهوى به على رقبتها العاجية وكانت غارقة في أحلام النوم وهي مخدرة الجسد لكثرة ما مارست من جولات الجنس مع مَن سيذبحها بضربة ساطور معد ٍّ لا لقطع رؤوس البشر ولكن لقطع أغصان الشجر .
أما أنا ... (( أنا وقد لا أكون أنا )) ... فلقد رأيت عينيها في إطار من ذهب خالص عيار 24 قيراطاً . نادتني عيناها قبل أن أبادر للنداء . أشارت لي تعالَ فما مضيتُ . ظللتُ واقفا ً أنتظر (( وقوفا ً بها صحبي ... )) . ذاك لأني بطبعي أخشى العواقب غير المحسوبة أو غير المتوقعة . هل سيذبحني زوجها ؟ أهي متزوجة أم لم تزل عزباء في إنتظاره ؟ طال وقوفي وطال إنتظاري فمللت ولم أتشكَ . تقحّمت خوفي وإخترقت الجُدُر الزجاجية (( قصة زاجر المطر / كتاب قافلة العطش لسناء كامل )) وأُطر الذهب الخالص وحواجز الفضاء والزمان لألتقيها هناك في دارها . ما طردت أحداً قبلي . ألفيتها غير متزوجة ... إحدى حوريات الجنان ... لم يمسسها ولم يطمثها إنس ٌ ولا جان . لم تسأل أو تستوضح سبب زيارتي المفاجئة . قدّمت لي ـ كعادة قبائل الطوارق ـ الطعامَ ، وما كنتُ لأستطيع تحويل بصري وما فيه من هيام وعشق عن زمرّد عينيها وسحر جسدها وما إختارت من ملبس وألوان . خبيرة في اللون وتصاميم ملابسها . لم تتكلم كثيراً . كلامها بعيون الزمرّد والعقيق . أحياناً توظِّف أناملها في توضيح ما تود توضيحه . تتكلم بأصابع كفيها . تأمرها فتطيع وتستجيب . لم أكنْ جائعاً فأكلت أقل من القليل . رفعت الصحون وجاءتني بالشاي المهيّل والمخدّر بمسحوق القرفة ( الدارصيني ). قلت لها قد فقدت شهوتي للطعام وللشراب . سألت بعقيق محجريها لماذا ؟ أطرقتُ ولم أجبْ . أعادت السؤال بسبابة كفها اليمنى فلم أجب . أرسلت لي حزمة من موجات غامضة عاتبة تحمل لي ذات السؤال . شعرت برهبة حقيقية فوقعت تحت طغيان قوة روحها السحرية . قوة غريبة في سحرها ومفعولها . جثوتُ على ركبتي ووضعتُ رأسي في حضنها مقبِّلاً معتذراً . رفعت برقة ِ يد ملاك ٍ أو إله ٍ أسطوري ٍّ رأسي وطلبت مني أن أنهض . قالت لايليق هذا الوضع برجل مثلك . قلت كذا المحب ... هذا هو شأن مَن يعشق . لا تأخذك سيدتي الدهشة (( أردتُ لكني لم أجرؤ. أردتُ أن أقولَ لها : أهوى أن أقبِّلَ مزيج منصهر الذهب وعسل جنات الخلد في ثغركِ . في شفتيك . من بين شفتيك . مخلَّقا ً مع رضابك ... )) أفلم تقرأي قصة الباحث في علم حشرات أشجار الفاكهة وإلى أي مصير إنتهى به عشقه لزوج طبيب الأسنان العجوز ؟ قالت كان ذاك باحثا ً في علم الحشرات أمضى جُل َّ عمره يجمع ويدرس ويصنّف حيوانات صغيرة تُسمى حشرات ، لكنك باحث ٌ في علم الكيمياء والمعادن ... والبشر كما قد تعلم معادن شتى . ثم إنك لست حشاشا ً كذاك ولستَ مجنوناً . ثم إني إستقبلتك ضيفاً كريماً ولم أطردك . ثم إنَّ مَن أحبَّ صاحبُ الحشرات والحشرجات إنما أحب صورةً مؤطرة ً في إطار من فضة ، لكنك وجدتني في إطار من الذهب الإبريز والعسجد النقي الصافي من أعلى عيار وميزان ، والذهب غير الفضة . ذاك قد وقع في غرام إمرأة متزوجة وأما أنا فكما تراني لم أزل ْ في دار وعصمة أبي أنتظر الرجل الذي يستحقني وأستحق. قلتُ لها ـ وقد رفعتُ رأسي بضراعة ٍ نحوها ـ دونما إبطاء : ها إني أتيتُ إليك ماشياً على قدميِّ الجريحتين من أقصى أصقاع الدنيا ... إليك في دار أبيكِ فهل ترينني أستحقك وتستحقينني ؟ إبتعدتْ قليلاً عني مبتسمة ً في حياء فتاة بكر ٍ شرقية أصيلة سليلة أصائل . وضعت كفها على رأسي فشعرت بنشوة وقعت عليَّ من أعالي السماوات . غبتُ عني وعنها وحين عدتُ لنفسي وجدت كف َّ المرحومة جدتي لوالدتي العلوية فهيمة بنت ناصر ، أم خالي الوحيد رزوقي الذي سقط من شجرة السدر العملاقة التي تتوسط دارهم القديم ففارق على الفور الحياة ، وجدت ُ كفها المرتعش على رأسي تتعوّذ وتبسمل وتقرأ شيئاً من آي القرآن الكريم وتنقر بالكف الأخرى على أرض الغرفة نقرات ٍ متتالية ً رتيبة الإيقاع . كان هذا دأبها معي ومع باقي إخوتي كلما شعرتُ بألم في رأسي زمان طفولتي . أحببت هذا الطقس حد َّ الإدمان حتى لقد كنتُ أفتعل صداع الرأس لتمارس المرحومة فهيمة معي ذات الطقوس الغامضة في أغلبها . تراتيل دينية وأدعية وشفرات شديدة الغموض ودفء حضن الجدّة وصمت الأهل خاشعين متضامنين مع هيبة العجوز الطاعنة في السن ومع طفلهم المتمارض الصغير . ما أن ْ وضعتْ عقيقيةُ العينين ذهبيةُ الإهاب والهيبة كفَّها فوق رأسي حتى عدتُ لطفولتي المبكّرة محمولاً على بُراق لا يعرف حكم الزمن ... بُراق يطير بسرعة البرق ضد مسار الزمن . يقول الشعراء إنَّ الحب سُكر ٌ ومَن لا يسكرُ لا يعرفُ معنى الحب ولا يتذوق طعمه حلواً أكان الطعمُ أو مرّا ً . سكرتُ بالفعل بين يديها وغبتُ عن الوعي والزمن . لم أسال نفسي عن سبب وسر تجاوبها معي حتى تذكّرتُ ما قالتْ لي قبل قليل : إنك كيميائي تتعامل والمعادن والبشرُ معادنُ . معها كل الحق . إنها فيلسوفة . الذي يتعامل مع المعادن يجيد التعامل مع البشر . ثم إنَّ الكيمياء سحر مُذ ْ عهود فراعنة مصر الأقدمين . هناك بدأت الكيمياء في معابد الفراعنة حيث أفلح كهّان هذه المعابد في تحضير مستلزمات التحنيط وكيمياويات حفظ الأجساد والأنسجة القطنية والصوفية والكتانية من التلف والرطوبة . فضلاً عن تحضير الألوان الثابتة التي تتحدى الزمن وتبقى محافظة ً على رونقها وبقيت لآلاف السنين . أنا كيميائي إذا ً حسبما قالت ساحرتي الفرعونية ورائحة الكافور ومسحوق القرنفل والمسك والحناء تفوح من بدلتها الكتانية الطويلة ومن بين خصلات شعرها المدلاة على كتفيها ومن خلل أناملها الدقيقة التكوين المطلية الأظافر بمزيج معجون الند والزعفران وخلاصة أندر الأزهار والورود . (( أنتَ كيميائي )) ... قالت ، والكيمياءُ سِحرٌ ... إذا ً سأسحرها أو أسحرُ لها فعسى ان تعشقني كما عشقتها ... عسى أنْ تحبَّني كما أحببتها ... وإلا فلسوف أطلب منها أنْ تقتلَني ... أنْ تحز َّ رقبتي بساطور الحشّاش خبيرِ الحشرات . لم يقتلْ ذاكَ الخبيرُ حشرةً لكنْ قتلَ بشراً ، قتل إمرأة ً حية ً من لحمٍ وعظمٍ ودمٍ . فهل تُرى أمسخ نفسي حشرة ً صغيرة ً لكي تقتلني بإصبعها صاحبتي الفرعونية الشديدة الرقة أو أن تدوسَ عليَّ ولو من باب السهو بأحد قدميها لأتركَ عليها تذكارا ً لحبّي شيئا ً من دمي ، ودمي يحمل إسمي وجيناتي وتوقيعي الذي تعرفُ ؟ الموتُ تحت أقدام الحبيبِ أفضلُ وأهونُ من الموت بساطور تكريبِ جذوعِ النخيلِ ... لا ريبَ . ما أن فرغتُ من قول هذا الكلام حتى تناهي لمسمعي صوت ٌ قوي ٌّ جَهوري ٌّ أتاني من البريّةِ صارخاً : كلّا كلّا ... سأعيرُ حبيبتك ومليكتك الفرعونية ساطورَ تكريب جذوع نخيل [ دقلة النور ] في واحة وصحراء [ تَوْزَرْ ] التونسية لكي تقصفَ به رقبتك لأنك جبان ٌ خانع ٌ وذليلٌ... ليس فيك شئ من رجولتي . لا تركع أمام مَنْ تُحبُّ . لا تطأطئ رأسَك حتى لكفِّ جدتكَ لأمّكَ . كنتُ أشجعَ منك فحولة ً ورجولة ً وأشد َّمضاء ً . إختطفتُ التي أحببتُ ... قدتها كقطة ذليلة جائعة لكوخي عنوة ً ... عريتها ... مارستها دون حسابٍ حتى خارت قوايَ وقواها فنامت كما لم تنم ْ من قبلُ ... ثم تعرفُ ما جرى بعد ذلك !! الحبُّ مقتلة تنتهي في جولة واحدة ميدانها الفراش . تخرج منها إما قاتلاً أو مقتولاً . أفلم يقل الفيلسوف نيتشة إنَّ في الحب حقدا ً أسودَ وكرهاً لا حدودَ لهما ؟ أفلم يقلْ هذا الرجل ُ المعتوه إن َّ في الحروب والغزوات حباً وعشقاً مخفيين دفينين عميقاً في أعماق نفوس البشر منذ أزمنة وعصور الصيد ؟ من غير حبٍّ لا تستطيعُ أكلَ صيدكَ . تجري كأيِّ عاشقٍ حقيقيٍّ سريعاً وراء صيدك حتى تتمكنَ منه فتقتله لكي تتناوله طعاماً سائغاً نيئاً قبل إكتشاف النار أو مشوياً بعد إكتشافها ؟ الحربُ قتلٌ وفي القتل حبٌّ شاذٌّ ساديٌّ ولكنه يبقى حباً رغم آناف البشر . توقف صوتُ أو صدى القاتل ِ حبيبته ِ فأصابني صُداع في رأسي وآلام ٌ مُبرِّحة ٌ في أسناني : أحقاً ما قال هذا الرجلُ خبيرُ الحشرات الذي حذا حذو َ الشاعر ديك الجن الحمصي الشامي إذ قتل حبيبته غيرة ً عليها ثم َّ أحرق جثتها وجبل من رمادها قدحاً لخمرة سكرهِ ؟ هل عرف هذا الشاعرَ أو قرأ عنه ؟ هل زار مدينة حمص أو واحةَ توزر حيث نخيل تمور دقلة النور ؟ هل كان سيقتل الصبية البربرية السمراء التي تحمل ويا للصدفة إسم ( دقلة النور ) لو كانت صدته وأعرضت عنه ولم تستجبْ لنداءات إغوائه وإغراءات ما عرض عليها من دولارات أمريكية ومما أغدق عليه شيوخ الخليج من أموال كي يسمسر َ لهم ويعرِّصَ ويزرعَ في رأسه شتلتي قرنين إثتين من قرون القوادين بدل َ فسيلتي نخيل ؟ هل كان سيحز رأسها كما يفعل الجزّارون مع رؤوس الضأن والغنم والماشية ؟ أتاني صوت الصبية دقلة النور صافياً رقراقاً قوياً حيث قالت : لا تنسَ أيها العاشق النبيل أنَّ وجودَ شبح الشاعر أبي القاسم الشابي فوق التلة الترابية التي تشرف على ما نصبَ على مسطّحِ الرمالِ شيوخُ الخليجِ من خيام وفساطيط هائلة وما نضدوا فيها من زرابي َ ونمارق ... مجرد ظهور هذا الشبح أذاب الشيوخ وخيامهم وسياراتهم الباذخة وسمسارهم ذا النظارة السوداء طويل القامة فتبخروا سوية ً مع تجار تهريب فسائل نخيل دقلة النور المشبوهين القادمين من ولاية كالفورنيا الأمريكية خصيصا ً لتهريب سيد الشجر النخيل والبشر المتواضع من فلاحي الواحات . إختفى صوت الصبية البربرية الشريفة العفيفة فأتاني صوتُ أبي العلاء المعرّي جهورياً يشق عنان صحراء توزر مادحاً ومبجلا ً النخيل في شعر يتذكر فيه إقامته في بغداد :
شربنا ماءَ دجلة َ خيرَ ماء ٍ
وزُرنا أشرفَ الشَجر ِ النخيلا
إشارة ً منه للنخلة التي ورد ذكرها مرتين في سورة مريم ، المرة الأولى في الآية [[ فأجاءها المخاض ُ إلى جذعِ النخلة ِ ... / الآية 23 ]] والثانية في الآية [[ وهُزّي إليكٍ بجذع ِ النخلة ِ تُساقط ْ عليكِ رُطباً جنيا / الآية 25 ]] .
أنتهى الفيلمُ المعروضُ أمامي على شاشة التلفزيون فصحوتُ من رقدتي وحلمي العميق << أنام عادةً أمام شاشة التلفزيون ونظارتي على عيني َّ والكتاب في حضني !! >> . فتحتُ عينيَّ المتعبتين الحمراوين باحثاً عن تفاصيل ما قد رأيتُ في حُلمي فلم أعثرْ على أي أثر ٍ منها سوى لوحة هائلة القياسات بدون إطار لصورة وجه لا أروعَ منه ولا أجمل تغطي أحد جدران شقتي كاملاً . تفحصت ُ وجه َ وعيني صاحبة الصورة فعدتُ لنومي مسحوراً بتعويذة ٍ سحرٍ مصرية ٍ فرعونية ٍ غيرَ مصدق ٍ ما ترى عيناي : صورة سناء كامل الشعلان كما رأيتها قبل يومين في موقع الصديق الفنان الناقد الجزائري محمد بوكرش . ركزتُ بصري فرأيت في أسفل الصورة إسمَ الفنان الغريق الذي رسم الصورة : طارق العسّاف !!
ملاحظة هامة : في هذه القصة الخيالية تفاصيل أخذتها بتصرف من قصص كتاب { أرض الحكايا / منشورات نادي الجسرة الثقافي الإجتماعي ، قطر ، 2007 } للدكتورة سناء كامل شعلان . القصص التي عنيت ُ هي حسب تسلسل ورودها هنا : الصورة / دقلة النور / اللوحة اليتيمة .
0 comments:
إرسال تعليق