كان من المفترض أن ينبثق عن إجتماع الحكومات الآسيوية الأخيرة في بانكوك يوم الاثنين الرابع من نوفمبر الجاري التوقيع رسميا على إتفاق القرن أو ما يُعرف بـ"اتفاقية الشراكة الإقتصادية الشاملة" في آسيا والمعروفة إختصارا بأحرفها الأجنبية الأولي أي RECP حيث أنّ هذه الإتفاقية، التي جرى التفاوض على بنودها على مدى السنوات السبع الماضية، في حال العمل بها بدءا من العام القادم كما هو متوقع سوف تؤسس لقيام أوسع منطقة للتبادل الحر قوامه 30 بالمئة من سكان المعمورة ونحو 30 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي للعالم ونحو 40 بالمئة من التجارة العالمية، وذلك بسبب القوى الإقتصادية الكبرى المنضمة اليها إلى جانب القوى الاقتصادية الصاعدة وعدد من الاقتصاديات مكتملة النمو مثل: الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا ودول جنوب شرق آسيا العشر المنضوية تحت تكتل آسيان. غير أن ما حدث هو رفض الهند التوقيع في آخر لحظة رغم أنّ كل المؤشرات كانت تقول خلاف ذلك.
ومن المؤكد أن القرار الهندي جاء على خلفية خوف نيودلهي من قيام الصين بإغراق أسواقها بمنتجاتها الصناعية وسلعها الزراعية الرخيصة بشكل يهدد مصالح المنتجين والمزارعين الهنود وقطاعات التصنيع الهندية، ويهدد في الوقت نفسه مشروع "إصنع في الهند" وشاهدنا في هذا السياق هو ما صرح به رئيس الحكومة الهندية ناريندرا مودي تبريرا لقرار بلاده هذا، إذ سُجل عنه ما مفاده أن الهند إضطرت إلى الإنسحاب من الإتفاقية لأسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية الهندية والتاثير السلبي المحتمل للاتفاقية على حياة وسبل معيشة ملايين الهنود، ولا سيما الطبقات الضعيفة منهم كالمزارعين.
وإذا كان مثل هذا المبرر ليس غائبا عند الآخرين، في ظل حقيقة أن الإتفاقية المشار إليها تهدف إلى تحرير التجارة بين دولها من الرسوم الجمركية وبقية أشكال القيود الحمائية، فإنه عند الهند مرتبط بحركة معارضة يغذيها ويقودها "حزب المؤتمر الهندي" المعارض الذي ما إنفك منذ تلقيه خسارة قاسية في الإنتخابات العامة الأخيرة، التي جرت في مايو من العام الجاري، يبحث عن أي ثغرة لإحراج حكومة مودي وحزبه الحاكم (بهاراتيا جاناتا) والمتحالفين معه.
من ناحية أخرى، يمكن القول أن القرار الهندى جاء إرضاء لواشنطون التي تقود حربا تجارية ضد بكين وسياسات الأخيرة في عموم آسيا، ويعكس رغبة نيودلهي في إعادة الزخم إلى علاقات الصداقة والتحالف الإستراتيجي مع القوة العالمية الكبرى، واستثمار مثل هذا التحالف ضد ما يهدد الهند سياسيا واقتصاديا وعسكريا. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن العلاقات الأمريكية ــ الهندية شهدت في الآونة الأخيرة بعض الخلافات. فإدارة الرئيس دونالد ترامب من بعد إعلانها عن خطط للتقارب مع الهند، ظهرت تجلياتها في تغيير البنتاغون إسم قيادتها العسكرية في آسيا من "قيادة الباسفيك" إلى "القيادة الهندية الباسيفيكية"، مما أعطى مركزية أكبر للهند كشريك إستراتيجي؛ وإعلان ترامب قرب التوقيع على إتفاق كبير جدا للتجارة مع الهند؛ وقيام واشنطون بمنح الهند مزايا تجارية تفضيلية؛ ومنحها تفويضا لشراء المنتجات التكنولوجية الامريكية المتقدمة، قام ترامب بإطلاق تغريدات ندد فيها بالرسوم الجمركية العالية المفروضة على السلع الأمريكية من قبل الهند، كما قام بإلغاء المزايا التجارية الممنوحة للمنتجات الهندية، ناهيك عن فرضه رسوم جمركية على الصلب والألمنيوم الهندي.
وإذا أردنا الخوض في تفاصيل أوسع بشأن إتفاقية RECP ، نجد أنها اكتسبت قوة دفع كبيرة منذ قرار ترامب الانسحاب من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي التي هندسها سلفه باراك اوباما. كما نجد أن الهنود دخلوا مفاوضاتها بقوة على أمل أن يفتح شركاؤهم أبواب بلدانهم للخدمات الهندية (حقل تملك فيه الهند ميزة) علّ ذلك يعوض الهند جزئيا عن خسائرها المحتملة من فتح أبوابها للسلع الصينية والآسيوية، لكن رفض عدد من الدول ــ بدعم صيني ــ للمطلب الهندي واصرارها على أن تشتمل الإتفاقية على تحرير السلع دون الخدمات من الرسوم الحمائية جعلت نيودلهي تتراجع عن التوقيع على الاتفاقية في اللحظة الأخيرة.
على أن بعض أطراف الإتفاقية، وخصوصا اليابان، تأمل أن تتراجع نيودلهي عن قرار رفض الإنضمام من الآن وحتى مؤتمر آسيان المقبل في فيتنام سنة 2020، وهو ما لا يمكن توقعه اذا ما قرأنا تصريحات مودي المشار إليه آنفا.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: نوفمبر 2019
البريد الإلكتروني: Elmadani@batelco.com.bh
عبارة الهامش:
إضطرت إلى الإنسحاب من الإتفاقية لأسباب تتعلق بالمصلحة الوطنية الهندية
0 comments:
إرسال تعليق