"أليس من المدهشات أنّ مظاهر الباطل أقدر في الإقناع أحياناً من مظاهر الحقّ؟" (مي زيادة)
من المدهشات أنّه تمّ الاهتمام المكثّف بسيرة حياة ميّ زيادة العاطفيّة، وربّما المتخيّل، أو ربّما المزوّر، أو بتعبير أفضل المشكوك فيه. ومن المدهشات أنّه بالاطلاع الجدّيّ على مسيرة ميّ الأدبيّة نلقى امرأة قضت حياتها في الكتابة باللّغة العربيّة، وبلغات أخرى، والبحث وبناء الفكر والتّرجمة والمناقشات الثّقافيّة والأدبيّة. وكلّ أديب يعلم جيّداً أنّ الكتابة الجادّة تفترض وقتاً وجهداً شاقّاً وبحثاً دؤوباً ومخزوناً معرفيّاً، ما يعني أنّ ميّاً لم يكن لديها الوقت لتلك العلاقات الغراميّة المروّجة، حتّى وإن تمّ الاستدلال إلى هذه الحالات العاطفيّة من خلال رسائلها. إلّا أنّه تمّ التّركيز على هذه الرسائل بما يتناسب والمراهقات الفكريّة الّتي ما زالت في طور النّموّ، ويحلو لمن كرّسوا الوقت هباء لهذه الرّسائل أن يجتذب القارئ بتحليلات سخيفة عن أديبة قضت عمرها في الكتابة.
ومن المدهشات كذلك، أنّه لا يتمّ التّركيز على مراسلات ميّ الثّقافيّة الّتي يرد ذكرها في كتاب ضخم جمعته وحققّته وقدّمته المستشرقة الألمانيّة أنتيا زيغلر، الّذي ضمّ أكثر من مئة وسبعين عملاً للأديبة مي زيادة، ما بين مقالة ومحاضرة وقصّة قصيرة وقصيدة منثورة وخاطرة وقصص للأطفال. وهي من مختلف الدّوريّات والكتب، وباللّغات العربيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة والإيطاليّة. وتذكر المستشرقة أنتيا زيغلر في مقدّمة الكتاب أنّها أدرجت الصّياغتين الإنكليزيّة والإيطاليّة في هذه المجموعة، لأنّهما توثّقان أنّ ميّ زيادة كانت معروفة بكتاباتها حتّى في البلاد الأوروبيّة، وبين أوساط أوسع من القرّاء، وأنّ صيتها جاوز جماعة المستشرقين الغربيّين ممّن كانت على صلة معهم، والزّوار الأجانب لصالونها، خلافاً للوصف المعتاد عنها في الكتب. كما تذكر أنّ ميّاً قدّمت لكتاب بقلم الدّكتور يعقوب صرّوف "فصول في التّاريخ الطّبيعي من مملكتي النّبات والحيوان" الصّادر عام 1931. على أنّه لم يكن مألوفاً في ذلك العصر أن تقدّم امرأة لكتاب رجل، بل على العكس، فالكاتبات هنّ اللّاتي كنّ بحاجة إلى تقديم ما يشبه خطاب توصية بقلم رجل حتّى يتضمّن عدداً محترماً من القرّاء لمؤلّفاتهن. (مقدّمة كتابات منسيّة للمستشرقة أنتيا زيغلر، دار نوفل، بيروت، ط1، 2009).
كيف يمكن الإغفال عن أديبة بهذا الحجم، تمتلك من الثّقافة ما لم تمتلكه إلّا نساء قليلات في زمنها وربّما في الزّمان الحاضر. وتقتني من المعرفة ما يفتقده أغلب من يدّعون أنّهم أدباء وأديبات. إنّ امرأة بحجم ميّ زيادة، كانت أقرب ما يكون إلى المرأة الإلهة في الأزمنة ما قبل التّصوّر التّوراتيّ عن المرأة، في تلك الأزمنة الّتي كانت فيها المرأة مقدّسة، وإلهة مانحة للحياة. والحياة لا تقتصر على إنجاب الأطفال، وإنّما يتمدّد معناها لتشمل الحياة ككلّ، فكريّاً وثقافيّاً واجتماعيّاً وعلائقيّاً.
امرأة أديبة بحجم ميّ زيادة أثرت البناء الفكريّ والاهتمام بتنوير العقول؛ لذلك شكّل صالونها الأدبيّ حركة أدبيّة لا بدّ من أنّها أثّرت في الأدب العربيّ. وفي هذا الصّالون الأدبيّ الّذي اجتمع فيه كبار الأدباء والمثقّفين والمثقّفات العرب والأجانب ناقشت ميّ فكريّاً وأدبيّاً، وليس كما يظهر في بعض التّحليلات أنّ صالونها لم يرتده إلّا الرّجال، ناقشت مي المثقّفين، كما المثقّفات، ولعلّها عدّت المثقّفين الرّجال أنداداً، ونظرت إليهم كرجال فكر. وأمّا هم، وفي غالب الظّنّ، آثروا اللّقاء بالأنثى في ميّ وحسب. وإلّا فلماذا لا نجد رأياً أو ملاحظة أو نقداً أو تقريراً عن بعض هذه النّقاشات؟ فجُلّ ما نقرأه أنّ بعض الأدباء كانوا ينتظرون يوم الثّلاثاء؛ ليرتادوا إلى صالون ميّ الجميلة والمثقّفة واللّبقة. لقد اجتمعت ميّ بأندادها كامرأة الأزمنة الغابرة، المرأة المقدّسة بفكرها وعلمها ومعرفتها، وتصرّفت معهم على هذا الأساس دون أن تعي في ذاتها هذه القداسة الأنثويّة. فعلى ما يبدو اختبرت ميّ هذه القداسة الأنثويّة لا عن وعي كامل، وإلّا لما كان حالها في نهاية المطاف هو الحال الّتي آلت إليها من إهمال وعدم تقديرها حق قدرها، التقدير اللّائق بها كامرأة مثقّفة، وليس كأنثى جميلة يحوم حولها الكثير من الفَراش، ولكن للأسف، هي من احترقت، وسلم البقيّة.
وبالعودة إلى الإطار الزّمنيّ لحياة ميّ الّتي تفرّدت بين نساء عصرها اللّواتي كنّ غير قادرات على التّعبير والانفتاح بحكم التّقاليد البالية، نفهم سبب نظرة الأدباء لها وسعيهم لصداقتها، ولكن ما لا نفهمه هذه العنجهيّة والكبرياء الّذي جعل من بعض هؤلاء الأدباء أن يغضّوا النّظر عن أدبها. وربّما نفهم بالنّظر إلى واقع كلّ زمن نظر فيه الرّجل إلى المرأة أنّها أنثى وحسب، ولا يُنظر إليها إلّا للتّقرّب منها ولا يُهتمُّ لما تقدّم إلّا بهدف مصادقتها. ولست أعمّم، وإنّما في الغالب هذه هي الحال، وهذا ما يمكن استنتاجه من واقع ما زالت فيه المرأة مستبعدة حتّى وإن ظهر بعض ممّن يشيدون بقيمة المرأة وعملها وهم نادرون جدّاً. تلتفت ميّ زيادة إلى هذه الحالة الملتبسة الّتي يخلقها الرّجال بوعي زائف ومزيّف بقولها: "من ظريف النّكات في الثّناء على المرأة الذّكيّة قولهم (إنّها تجاري الرّجال). ولماذا لا تكون مجارية نفسها الّتي تكتشفها كلّ يوم؟".
امرأة بحجم ميّ، امرأة إلهة، لا يمكن أن تفهم الحبّ كما يفهمه كثيرون على أنّه عاطفة. هي تفهمه انطلاقاً من معرفتها وثقافتها. تقول ميّ: "المرأة حبّ، والرّجل فكر."، ولئن كانت المرأة حبّاً، فهي لا تستدعي الحالة العاطفيّة، وإنّما تحيا الحبّ بمعناه الألوهيّ في حركة حياتيّة شاملة. ما لا يستطيع الرّجل أن يفهمه غالباً، لأنّه يبحث في المرأة عن الأنثى الخاضعة، لا عن المرأة النّدّ والمكافئ والنّظير. يبحث عن الأنثى الّتي ترضي غروره لا عن المرأة الحياة والاحتواء. وما يؤكّد أنّ ميّ لم تكن تعي هذه المرأة الإلهة الكامنة فيها انسحبت إلى ميولها العاطفيّة. ما نستدلّ عليه في جزء من رسالتها إلى العقّاد: "لا تحسب أنّني أتهالك بالغيرة من جبران، فإنّه في نيويورك لم يرني، ولعلّه لن يراني، كما أنّي لم أره إلاَّ في تلك الصّور الّتي تنشرها الصّحف، ولكنّ طبيعة الأنثى يلذّ لها أن يتغاير فيها الرّجال، وتشعر بالازدهاء حين تراهم يتنافسون عليها.. أليس كذلك؟ معذرة فقد أردت أن أحتفي بهذه الغيرة، لا لأضايقك، ولكن لأزداد شعوراً بأنّ لي مكاناً في نفسك، أهنّي بها نفسي، وأمُتّع بها وجداني." ويبدو من هذا الاعتراف الصّادق الّتي باحت به ميّ ببساطة ودون مواربة، أنّ ميّاً ملاك نظيف لا يخفي مشاعره، ولا يحجب دوافعه. ميّ امرأة نظيفة من داخلها حدّ البساطة الّتي منعتها من إدراك الدّسائس المحاكة لها. تقول ميّ: "أنا امرأة قضيت حياتي بين قلمي وأدواتي وكتبي ودراساتي، وقد انصرفت بكلّ تفكيري إلى المثل الأعلى، وهذه الحياة أي المثالية التي حييتها جعلتني أجهل ما في هذا البشر من دسائس."، وفي هذا القول إشارات كثيرة إلى شخصيّة ميّ وداخلها العميق. إنّ من يحيا في عالم المثل، عالم الفكر يصبو إلى كلّ ما هو مرتقٍ عن الواقع، ولعلّ الخطأ يكون في عدم لمس الواقع والابتعاد عن اختباره بحقّ وإدراك خباياه وبعض النّوايا السّيّئة. إنّ ملائكيّة ميّ حالت دون لمس هذا الواقع. فكانت وهي المفكّرة والأديبة والممتلكة المعرفة بسيطة في عمقها، تتعامل مع الآخر وكأنّه يرافقها في عالم الفكر.
0 comments:
إرسال تعليق