على أطراف حيّنا غابة حرمل، إذا أقبل الرّبيع أينع ورقه الصّغير وتزيّن بزهر أبيض فوّاح. ومع انتشار الدّفء تخرج علينا كائنات من كلّ صوب، منها ما هي محبّبة لدينا فنبادر إلى العبث بها، ومنها ما هي بغيضة فنسارع إلى قتلها. وكان لا بدّ أن يكون الحرمل قبلتنا دائما، إذ لا بقعة خضراء سواه.
ومرّ علينا زمن شغفنا فيه باصطياد النّحل، فكنّا نغدو إليه كلّما سنح لنا الفراغ. لم نك ندرك أنّنا لا نقوى على أمّة النّحل إلاّ وهي فرادى، وأنّ الويل كلّه معقود في مملكته. كنّا ثلاثة أطفال حين عثرنا على عشّ مخفّي...
ورقة منسيّة
تسقط الشّمس في العراء جمرة ملتهبة، مخلّفة وراءها شفقا ساحرا، ملأ السّماء وسقط على أعشاشنا وخيامنا فوهبها شيئا من عالم الأحلام. إذّاك كنت أسير وراء أبي وعمّي اللّذان يعودان من المرعى وقد امتلأ الجوّ بغثاء أغنامنا ونباح كلبنا الفتيّ...
رأيتها تزحف مسرعة تحت الرّمل. فجأة قفزت في الهواء لامعة البطن، قبل أن تواصل اندفاعها السّريع نحو جحر قريب.. أبرقتُ خلفها يدي فأمسكتها من ذيلها وجذبتها في قوّة...
- مغوار أنت يا ابن أخي، تعال.
فما إن اقتربت منه مزهوّا حتّى هوى على خدّي بصفعة...
- أيّها الغرّ، متى تقدّر الأفاعي حقّ قدرها؟
عُصيّة ليــــــــــل
ذلك زمن بعيد، ورغم قلّة ذات اليد كنّا نبتكر ألعابنا من اللاّشيء، ونسري على أنفسنا بما لا يثقل كواهل والِدِينا. إذا جنّ اللّيل وقت الرّبيع وغاب القمر عن السّماء، وبدأت أنفاس الهواء تغادر لسعها البارد، اجتمعنا في ناحية من الدّشرة وانطلقنا في لعبة الموسم...
*****
دوّت العصا في الظّلام فطلبناها بأرجلنا الحافية وأبصارنا الحسيرة... حين وجدتها ضربت بها الأرض مرّتين، وانطلقت كالرّيح وورائي يرتفع لغط ووقع خطى مجنونة واثبة...
اللّعنة، انتهت الصّفحة ولم أكمل لعبتي بعد؟!
فرسان الله
ونحن صبية صغار كم كانت تدهشنا مشاهد الحرب التي يقذفنا بها التّلفاز. تأخذنا حمحمة الخيل إلى أقاصي الخيال، وتهزّنا من الأعماق ضربات السّيوف والرّماح...
في حوش مهجور والهاجرة ضاربة، كنّا نجتمع وبين أيدينا كوم من عيدان الجريد وأقواس العراجين، نصنع منها عتادا حربيّا، وأخيلتنا وقتذاك مشحونة بمشاهد القتل والدّم...
قبل المغيب نخرج إلى الأحياء المجاورة ونبرز إلى فريق آخر بعد ميعاد مقدّر. ومن هذا الصّفّ وذاك يرتفع التّكبير وكلّ منّا يشتهي ذبح الآخر، قاذفا في وجهه: "مت يا عدوّ الله"!
عام الجراد
مع طلوع الشّمس وأنفاس الرّبيع دافئة منعشة، ارتفعت ستارة سوداء ملأت الفضاء. حسبناها -لهولها-عارضا مدمّرا. فما إن اقتربت حتّى سمعنا له دويّا ملأ الصّحراء...
ورأيناه يتفرّق نُتُفًا وينزل على أعشاب الصّحراء وأزهار الرتّم، فما هي حتّى تَحزُّ الأرض من تحته وتصير قاعا صفصفا...
صرخنا: هلك الزّرع والضّرع...
قال المسنّون: كلوه قبل أن يأكلكم.
0 comments:
إرسال تعليق