في السنوات الأخيرة، وبينما كان بعض الدول الأفريقية قد مضى بعيدا في الانهيار والتفسخ والفوضى (الصومال مثالا)، كان بعضها الأخر يؤسس لدولة القانون والمؤسسات المدنية ويتجه بخطى ثابتة نحو التنمية المستدامة وتمتين إقتصادها (رواندا وأثيوبيا مثالا)، وذلك من بعد عهود طويلة من الحروب والفوضى والانقلابات العسكرية والقمع والفساد والإفساد. ومع التحولات الإيجابية في أجزاء من القارة السمراء، تزايد إهتمام بعض القوى العالمية بها مدفوعة بأجندات وأهداف مختلفة.
فالصين مثلا، التي كانت تستخدم في الستينات الأيديولوجيا الماركسية بنسختها الماوية وشعار مقاومة الإمبريالية الغربية معطوفا على شعار التصدي للتحريفيين السوفييت للنفاذ إلى أفريقيا وإيجاد موضع قدم لها في القارة، تحولت اليوم إلى قوة تستخدم أدواتها الناعمة كالتجارة والاستثمار في البنى التحتية والقروض والهبات لتحيق الأهداف القديمة نفسها، مدفوعة بعوامل جديدة مثل: تعزيز مركزها على الصعيد العالمي، وتأمين إحتياجاتها من الطاقة والمواد الخام، إضافة إلى قطع الطريق على تايوان للحصول على إعتراف بها من قبل الدول الأفريقية.
ودليلنا في هذا السياق هو إرتفاع حجم المساعدات الصينية للدول الأفريقية دفعة واحدة من مائة مليون دولار سنة 2009 إلى 100 مليار دولار سنة 2010 مثلا، ناهيك عن قيام بكين في عام 2000 بإطلاق ما يسمى المنتدى الصيني ــ الأفريقي كقناة للبحث في إحتياجات القارة السمراء التنموية، ورصد الأموال والقروض اللازمة. والمعروف على نطاق واسع أن شكوكا كثيرة حامت حول نوايا بكين، بل إن بعض الأفارقة رأى في مساعدتها وتوغلها في أفريقيا نوعا من أنواع الاستعمار الجديد، الأمر الذي جعل مهمة الصينيين أكثر صعوبة مقارنة بمهمة اليابانيين مثلا، خصوصا وأن بكين تعتمد في استثماراتها على الشركات المملوكة للدولة والمقيدة بتوجهات محددة مثل الترويج للإقتصاد الخاضع للدولة.
وطالما أتينا على ذكر اليابان فإنه من المفيد الإشارة إلى وجود نوع من المنافسة الخفية بين طوكيو وبكين على تقديم العون إلى الدول الأفريقية في خططها التنموية. وإذا كانت بكين تشترط في مساعداتها هذه قطع الدول المستفيدة علاقاتها وروابطها مع تايوان ــ وهو شرط رضخ له معظم الدول الأفريقية بحث لم يبق لتابيه أي تمثيل دبلوماسي في أفريقيا إلا في سوازيلاند ــ بالإضافة إلى شروط اخرى متعلقة بطريقة سداد الديون، فإن طوكيو لا تشترط في ضخ مساعداتها التنموية السخية سوى أن توظف في المجالات التي ترتقي بمستوى معيشة الإنسان الأفريقي وتحقق له ولبلاده الأمن والإستقرار والسلام.
لقد بدت المنافسة الصينية ــ اليابانية على هذا الصعيد جلية في تصريحات سـُجلت ْعلى هامش القمة السابعة لمؤتمر طوكيو الدولي السابع للتنمية الأفريقية (تيكاد 7)، التي إنعقدت مؤخرا في مدينة يوكوهاما اليابانية تحت شعار "دفع التنمية الأفريقية من خلال الشعوب والتكنولوجيا والابتكار"، بمشاركة 26 رئيسا أفريقيا وست من رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية، وممثلين عن الجهات الدولية الداعمة مثل: الأمم المتحدة وبرنامج التنمية التابع لها ومفوضية الاتحاد الأفريقي والبنك الدولي. حيث طالبت طوكيو الصينيين (دون ذكرهم صراحة) بالكف عن إرهاق الدول الأفريقية بالقروض والديون الثقيلة، وجاراها في ذلك بعض المراقبين والمحللين الأفارقة الذين أشادوا بجهود اليابان في تنمية بلدانهم، وعقدوا مفاضلة بينها وبين الجهود الصينية، بينما دعا البعض الآخر، مثل رئيس البنك الأفريقي للتنمية، إلى تكامل جهود اليابانيين والصينيين التنموية بدلا من تنافسها.
وتيكاد TIKAD، ليس سوى مؤتمر ينعقد كل ثلاث سنوات من صنيعة اليابانيين ينافسون به المنتدى الصيني ــ الأفريقي، وتعود نسخته الأولى إلى عام 1993 حينما قررت طوكيو إطلاقه بعد انتهاء الحرب الباردة. لاحقا قرر المشاركون في النسخة السادسة التي انعقدت في نيروبي سنة 2016 أن ينعقد المؤتمر بالتناوب بين اليابان وأفريقيا، علما بأن أهداف تيكاد المعلنة تتضمن معظم ما درجت طوكيو على التأكيد عليه حين تقديم مساعداتها السخية لدول العالم الثالث، إضافة إلى حشد الدعم الدولي لصالح مبادرات التنمية الإفريقية وحل أزمات القارة. ويمكن اختصار الأهداف اليابانية في تحسين بيئة الأعمال من خلال تشجيع الاستثمارات الخاصة والابتكار، وتشجيع الحوار السياسي بهدف تعزيز الأمن والاستقرار والسلام في المجتمعات الأفريقية واجتثاث أسباب الحروب والتطرف وانعدام الأمن.
وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن اليابان تحولت خلال العقود الأربعة الماضية إلى أحد أهم مصادر المساعدات الخارجية للقارة السمراء. ففي عام 2013 تعهدت طوكيو بدعم القطاعين العام والخاص في افريقيا بمبلغ 32 مليار دولار وتشجيع الشركات اليابانية على الاستثمار هناك. وفي عام 2016 التزمت باستثمار نحو 30 مليار دولار خلال ثلاث سنوات فى إطار شراكة بين القطاعين العام والخاص بهدف تطوير بنية تحتية ونظم صحية وتعليمية عالية الجودة. على أن كل هذه المساعدات وغيرها (مثل 6.5 مليار دولار قدمتها وكالة اليابان للتعاون الدولي JICA لتطوير البنية التحتية الأفريقية وتنمية الموارد البشرية وتدريب 30 ألف مواطن وتحسين بيئة التعليم لنحو 20 مليون طفل أفريقي) ظلت أقل من إجمالي قيمة الاستثمارات الصينية.
د. عبدالله المدني
أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: سبتمبر 2019
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق