من المفترض أن الدولة ، أية دولة، هي التي تقود الجماهير وليس العكس. لكن حينما يختل هذا المبدأ فتخضع الدولة لرؤى واجتهادات العامة، ممن لا يدركون مصالح البلاد العليا، تقع الكارثة، ويصبح العلاج صعبا. وتجربة أندونيسيا، كبرى الدول الإسلامية من حيث السكان، في هذا الخصوص هو أوضح مثال.
ففي هذه البلاد، التي يسكنها نحو 270 مليون نسمة (بموجب احصائيات البنك الدولي لعام 2018)، أكثر من 88 بالمائة منهم يدينون بالإسلام، يوجد العديد من المدارس والمعاهد الدينية بنوعيها الحديث والتقليدي، علاوة على مؤسسات التعليم العالي الحكومية مثل الجامعات والأكاديميات والمعاهد الفنية وغير الفنية من تلك التي ارتفعت أعدادها تدريجيا منذ استقلال البلاد عن هولندا عام 1949 لتصل اليوم إلى نحو ثلاثة آلاف مؤسسة تعليم عالي يدرس بها أكثر من خمسة ملايين طالب وطالبة.
الملاحظ هو أن أندونيسيا خالية حتى الآن من الجامعات الأجنبية الخاصة، على الرغم من حاجتها إلى ذلك لتوفير نظام تعليمي متفوق يتواكب مع مستجدات الألفية الثالثة، ويخرج طلبة منفتحين على الثقافات الأخرى، وعلى قدر عال من المهنية والكفاءة كي يساهموا في الإرتقاء بأحوال بلادهم التي تخوض سباقا مع الزمن للنهوض من كبواتها، ولاسيما في المجال الإقتصادي. إذ من المعروف أن أندونيسا تعد أكبر اقتصاد في جنوب شرق آسيا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وتصنف على أنها دولة صناعية بدليل عضويتها في مجموعة العشرين. غير أن هذا لا يعني خلوها من مآزق اقتصادية ومعيشية وضعف بنيتها التحتية.
والحقيقة أن توطين الجامعات الأجنبية مسألة يدور حولها خلاف كبير ما بين مؤيد ومعارض في العديد من المجتمعات ومنها المجتمعات العربية. فالمؤيدون يرون ضرورة استقدامها وتوطينها لتخريج طلبة متمزين قادرين على دخول أسواق العمل والاستجابة لمتطلباتها بسهولة، خصوصا وأنها تركز على البحث العلمي والمناهج العصرية المطلوبة وتبتعد عن الأساليب التقليدية في التعليم، وبما يجعل الجامعات الوطنية تقتدي بها. أما المعارضون فينظرون إليها كأداة أجنبية لإختراق المجتمعات المسلمة والتأثير على مخرجاتها.
قبل أكثر من عقدين، وتحديدا في مطلع التسعينات، قررت جامعة موناش الأسترالية، التي تتخذ من مدينة ملبورن مقرا لها وتتمتع بسمعة أكاديمية طيبة وتحتل الموقع 58 على مستوى العالم، أن تفتح فرعا لها في العاصمة الاندونيسية جاكرتا كاستثمار تجاري. وقتها وافقت الحكومة الأندونيسية على افتتاح كلية للجامعة المذكورة بالشراكة مع بنك بانين، على أن تكون مرحلية بمعنى إعداد الطلبة الأندونيسيين للإلتحاق بمقرها الأم في ملبورن. لكن سرعان ما وضعت سلطات جاكرتا الكثير من العراقيل أمام تلك الكلية كاستجابة للضغوطات التي تعرضت لها من قبل الجامعات الوطنية وأكاديمييها، علاوة على ساسة وقادة الأحزاب الإسلامية، الأمر الذي جعل جامعة موناش تصرف النظر عن مشروعها وتولي وجهها صوب ماليزيا المجاورة، حيث أقامت حرمها الجامعي الضخم في كوالمبور والذي استقطب ليس الطلبة الماليزيين وحدهم وإنما أيضا عددا كبيرا من الطلبة الإندونيسيين الباحثين عن مستويات تعليمية أرقى دون أن يتغربوا في بلاد بعيدة مثل الولايات المتحدة ودول أوروبا واليابان والصين (تقدر منظمة اليونيسكو عدد الطلبة الاندونيسيين الدارسين في الخارج بنحو 45 ألف طالب وطالبة، نصفهم في أستراليا والنصف الآخر موزعين على الولايات المتحدة وبريطانيا واليابان والصين وماليزيا وسنغافورة). كان من نتائج هذه الواقعة أن ربحت ماليزيا وخسرت أندونيسيا تربويا واقتصاديا وبحثيا.
وفي عهد الرئيس الاندونيسي الأسبق "سوسيليو بانبانغ يودويونو" الذ يعد أول رئيس منتخب للبلاد في عام 2004، بدأت نظرة جاكرتا لقدوم الجامعات الأجنبية تتغير نسبيا. حيث أدرك يودويونو أن دراسة الاندونيسيين في الخارج ــ سواء في بعثات حكومية أو خاصة ــ يعني تسرب أموال طائلة من البلاد، فقرر أن يعالج الموضوع باستقدام الجامعات الأجنبية إلى بلاده من باب التوفير وتحسين الموارد البشرية محليا وتوظيفها في عملية تطوير البنى التحتية، لكن قراره قوبل أيضا بالإعتراضات التي سبق ذكرها، فبقي الأمر دون حسم.
مؤخرا استفاقت جاكرتا على تداعيات قرارها الخاطيء، فقامت بخطوات تمهد لإزالة كل العقبات أمام جامعة موناش لتأسيس فرع لها في جاكرتا. من هذه الخطوات إقرار قانون جديد للتعليم العالي مع وضع لائحة وزارية له في عام 2018 بهدف تحسين تنمية الموارد البشرية لخلق فرص عمل مجدية أمام الشباب الإندونيسي، وتغيير قواعد الإستثمار الأجنبي بما يتيح قدوم الجامعات الأجنبية، علما بأن القرار يستهدف أساسا الجامعات الاسترالية، تحقيقا لإتفاقية الشراكة الإقتصادية الشاملة الموقعة بين جاكرتا وكانبرا
وعليه فإنه من المتوقع أن تقوم الجامعة الاسترالية المذكورة بفتح حرمها الجامعي للدراسات العليا ابتداء من أواخر العام الجاري لتضم في باديء الأمر مائتا طالب ماجستير ودكتوراه، على أن يرتفع العدد تدريجيا، خصوصا وأن الرئيس الحالي "جوكو ويدودو" من أكثر الداعمين والمتحمسين لهذه الخطوة إنطلاقا من أن جامعة موناش ستقدم دورات قصيرة وبرامج تطوير مهنية مركزة، وبالتالي ستساهم في تحسين الموارد البشرية وتعزيز التنمية المستدامة.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: مارس 2921
0 comments:
إرسال تعليق