عندما أقرأ جبران خليل جبران؛ أتحوَّل إلى طائرٍ يحلِّقُ في أعالي السّماء، كي أعانقَ أزاهيرَ الفرحِ المبرعمةِ في زهوةِ الإبداع. جبران خيالٌ منساب من وهجِ الشّمس، كلمةٌ منبعثة من جنانِ السَّماء، حرفٌ مندَّى بثمار الجنّة، رؤية محبوكة من أحلامِ الطُّفولة، من شموخِ شاعرٍ مبرعم من رحيقِ الأشجار. عندما أقرأ جبران؛ يخفق قلبي فرحًا، وأشعر كأنّي أقرأ فصولًا من انبعاثاتِ نفسي، يجتاحني ألقٌ فرحيٌّ. أقرأ كتاباته بشغفٍ عميق ومتعةٍ منعشة تبهج الرّوح والقلب، أتماهى مع نصوصِهِ كأنّها منبعثة من أعماقي الخفيّة في حالة انسيابيّة باذخة، تغمرُني فضاءاته السّاحرة بتجلّياته الشّاهقة، وتلامسُ بَوحي المنبعث من وهجِ الأحلام، وأنا في أوج تجلِّياتي وجموحي لأشهى حالاتِ التَّأمُّل. يكتبُ جبران حرفه بتفرُّدٍ بديع كأنّه مفطور على انبعاثِ الكلمة الخلّاقة منذ أن تبرعمَ في أحشاءِ أُمِّهِ، حاملًا بين مرامي حرفه طاقة إيجابيّة حافلة بالخير والمحبّة والوئام، طاقة مبلَّلة بيراعِ الحلم المجنّح نحو هلالات الغمام السّاطع في شهيقِ السّماء. ينثرُ هذه الطّاقة المنبعثة من تجلّيات حرفه فوقَ نصاعةِ الحياةِ؛ كي يموسقَ جمالَ الأرضِ والسَّماءِ، ويصالحَ الإنسانَ معَ أخيهِ الإنسان عبر نداءِ المحبّة المعشّشة في كينونتِهِ منذُ أن تدلّى على طينِ الحياةِ على شاكلةِ إنسان، فهو طاقة علويّة مسكونة في حبورِ الكلمة الخلّاقة، تنسابُ نصوصُهُ فوقَ ظلالِ الرّوحِ كما ينسابُ أريجُ الفرحِ في أوجِ تجلّياتِ هدهداتِ العشقِ. يجمحُ حرفه عاليًا عبر تدفُّقات خيالٍ فسيح ومفتوح على رحابةِ حنينِ الأرضِ للسماءِ، وتلامسُ شغافَ الرُّوح بأريحيّة طيّبة، كأنّه خلال انبعاث حرفه في حالةِ ابتهالٍ مع الأعالي وأبهى تجلّياتِ الأحلامِ. ينسجُ وميضَ حرفه بحبرٍ مندَّى بحليبِ الحنطة ورحيقِ الزَّنبقِ، يستلهمُ انبعاثاته من اخضرار الغابات المفروشة على رحابةِ شهقاتِ الخيال، كأنّها متهاطلة أريجًا متناثرًا من مآقي الزّهور، من شهوةِ المطر، من غمامِ الرّوح، من إشراقةِ الحنين إلى حبورِ الأطفال، من منعرجاتِ الرّحيل إلى أقاصي غربةِ الرُّوح؛ بحثًا عن كلامٍ يغدقُ ألقًا كعذوبةِ أمواجِ البحرِ، فيحلِّق عاليًا فوقَ الأمواجِ الهائجة، مهدهدًا نوارسَ البحارِ وهو في أوجِ حنينه إلى شواطئِ المحبّة والأحواش العتيقة، المحاطة بأشجارِ التّينِ والرَّمان والدَّاليات المعرّشة فوقَ نوافذِ البيوتِ حتّى نهاياتِ سطوحِ المنازل.
يتأمَّلُ المدى البعيد، وهو يمخرُ سفينة حروفهِ في أعماقِ عبابِ البحرِ، حاملًا فوقَ أجنحتِهِ أسرارَ انسيابِ دندناتِ الكلمة، ينسجُ حلمًا طافحًا بهواجسِ البحرِ، ويقطفُ من هديرِ الرِّيحِ أسرارَ العبورِ في أشهى مروجِ الحياةِ .. فتتوالدُ الكلمات من رحمِ عذوبةِ البحرِ، ويغدو حرفه كأنّه مستولدٌ من ظلالِ النَّعيمِ!
جبران خليل جبران قصيدةُ عشقٍ معبَّقة بأزهى أهازيجِ السَّماءِ، خيالٌ معبَّقٌ بوهجِ القرنفل، ينسج حرفه على إيقاع نبضات القلب وهفهفات الرُّوح، لا أرتوي من قراءةِ فضاءاته الفسيحة وهو يغوصُ ألقًا في مناراتِ عرينِ القصائد، حرفٌ مسبوغٌ من لدنِ المحبّة، من مناغاةِ زخّاتِ المطرِ، يتهاطلُ حرفه حُبًّا شهيًّا رهيفًا كأنغام النّاي المنسابة في بؤرةِ الأحلامِ على امتدادِ كلّ الفصول، يتدفَّقُ خياله ألقًا وفرحًا ووئامًا فوقَ صدرِ الأرضِ، كأنّه يكتبُ حرفه من نضارةِ آلهة الماءِ السّاطعة في مآقي السّماء، فيروي عطشَ البراري المستكرشة بملوحة متناثرة فوق وهادِ الأرضِ، ويسقي حنينَ اللَّيلِ إلى بسمةِ الصَّباحِ، يناغي خريرَ السَّواقي المنسابة من منحدراتِ الخير، وكأنّه يناجي عبر حرفهِ شوقَ الرُّوحِ وهي في أوجِ سموِّها إلى ضياءِ الأعالي، عابرًا بشغفٍ عميقٍ عبر مسارات حرفه إلى قبَّةِ السَّماءِ، مُهدهدًا توهُّجاتِ الكلمة المكلَّلة بغبطةِ الغمامِ. يسمعُ برهافةٍ شفيفة إلى خشخشاتِ هديرِ الرِّيحِ، طموحٌ مفتوحٌ على بساتينِ حلمٍ مترعرعٍ فوقَ أعشابِ القلبِ، يكتبُ بفرحٍ غامرٍ كلّما غفا اللَّيلُ على أهدابِ القصيدة، كلّما ابتسمَ القمرُ لبهاءِ حدائقِ العشقِ وهي تظلِّلُ بهجةَ العشّاقِ، خيالٌ منسابٌ على إيقاعِ هدهداتِ نُجيماتِ الصَّباحِ، يموجُ حرفهُ مثلما تموجُ غيومُ الحنينِ إلى خدودِ الأطفالِ، يزغردُ قلبُهُ شوقًا إلى عناقِ الدّالياتِ وهي تغدقُ علينا أشهى عناقيدِ دفءِ الرّوحِ. ينثرُ بعذوبةٍ انسيابيّةَ الحلمِ فوقَ أزاهيرِ الحياة،ِ كأنّهُ موجة عشقٍ متناثرة فوقَ خميرةِ الأرضِ، ينامُ بحبورٍ عميقٍ على إيقاعِ هدهداتِ الكلماتِ الوارفة بأزهى طفوحِ الابتهالِ، شوقًا إلى باكورةِ البراعمِ. يرسمُ بشغفٍ براعمَ الحلمِ من نسغِ حرفٍ مندلقٍ من سقسقاتِ العصافير وهي تلهو جذلى معَ البلابلِ في الهواءِ الطّلقِ. يزدادُ تجلِّيًا كأنّه في حالةِ ابتهالٍ طافحٍ بشهوةِ الإبداع، وفي أوجِ عناقِهِ لنعيمِ السّماءِ.
أزهرَتِ البحارُ في قلبِ جبران أبهى المحار، وأغدقت الطَّبيعة عليه أغنى كنوزِ الدّنيا وكأنّه صديق البحرِ وعاشق الجبال وموغل مثل النَّسيمِ البليلِ في عناقِ سكونِ اللَّيل. جبران شجرة وارفة بمذاقِ ثمارِ المحبَّة بكلِّ نكهاتها الطَّيِّبة. كلّما عبرْتُ فضاءاته الرّحبة؛ شعرْتُ وكأنّني أقرأُ ما كان يراودني قبلَ أن آتي إلى مرافئِ الحياةِ، فهل تواصلَ مع روحي التَّوّاقة إلى مهجةِ القصيدة قبلَ أن أعبرَ مروجَ الدُّنيا، أم أنّه وهج عشقٍ متطايرٍ من هلالاتِ الرُّوحِ؛ هذه الرُّوح المرفرفة فوقَ جبينِ الحياةِ منذُ أن تبرعمَ فوقَ أديمها اخضرارَ الكائنات، وتنامَتْ خمائل الطّبيعة بكلّ بهائِها فوقَ أغصانِ المحبّة، تسربلُ وجهَ الأرضِ ألقًا بديعًا، متوغِّلةً بينَ أحضانِ البحارِ، ترتوي من طفوحِ خيراتها؟!
جبران حلمٌ مفتوح على مساحات كركرات الطّفولة، يحلِّقُ مثلَ النُّسورِ فوقَ هاماتِ الجبالِ، حرفٌ مجبول من شموخِ مرتفعاتِ "بشرّي" المكتنز بعيونٍ صافية صفاءَ القصيدة البكر، صوتٌ صادحٌ على أنغام النّاي، تنشده فيروز في صباحٍ مُبلسمٍ بهواءٍ يهبُّ من جهةِ البحرِ نحوَ جبالِ لبنان، نسيمُ فرحٍ منسابٍ فوقَ بتلاتِ الزّهورِ في أوجِ الرّبيعِ، لغةُ عاشقٍ منبثقة من تلألؤاتِ النُّجومِ، ينبوعٌ صافٍ متدفِّقٌ من دموعِ القصائد، رحلةُ شاعرٍ مجنّحٍ نحوَ إشراقةِ حرفٍ من لجينِ الأحلامِ المعرّشة في غبطةِ خيالٍ محبوكٍ بيراعٍ مشرئبٍ بأريجِ النّرجس والتِّين البرِّي.
كتبَ جبران أناشيدهُ كشغفِ ناسكٍ، ملتقطًا في أوجِ تجلِّياتِهِ وميضَ القصائد، كأنّه في غمرةِ نشوةٍ عارمة مبحرًا في محرابِ الشِّعرِ، يغترفُ أعذب الكلامِ وهو في أوجِ تأمُّلاته، مستلهمًا الكلمة الممراحة من حفاوةِ المطرِ، من نقاوةِ النّدى، من أنغامِ قيثارةِ الرُّوحِ، من بساتين جنّاته المفتوحة على رحاب الدُّنيا. صاغَ تراتيلهُ المتدفِّقة من زرقةِ السّماءِ كأحلامِ عاشقٍ مجنّحٍ نحوَ ضياءِ شموعِ الأديرة المعبّقة ببخورِ المحبّة. رسمَ حرفًا معجونًا بخميرةِ نارٍ مقدَّسة، كأنّه يُعِدُّ لنا مائدة لذيذة من نكهةِ الخبزِ المقمَّرِ. كم يبدو حرفه شهيًّا كأنّه محبوكٌ بإشراقةِ هلالاتِ السّماءِ، حرفُه من لونِ الأملِ المبرعمِ من قبلةِ الشَّمسِ وهي تغدقُ دفئًا من نكهةِ انبلاجِ القصيدة.
نثرَ جبران خلال رحلة البوحِ بذورَ حروفهِ فوقَ خصوبةِ الحياةِ، فوق خميلة الأحلام المعرّشة في شهيقِ السّماء؛ كي ينعشَ القلوبَ المكلومة، وقلوبَ العشّاقِ العطشى لأزاهير الخير، ورفرفات أجنحةِ اليمام المحلِّقة فوقَ منارةِ المحبّة المعبّقة بالسّنابل الشّامخة فوقَ جبينِ الحياة، ماسكًا ريشته كي ينقشَ فوقَ أمواجِ البحارِ أسرارَ انهمارِ المطرِ في أوجِ حنينِ الأرضِ العطشى إلى بركاتِ السَّماءِ كي تروي عطشَ الصِّغارِ والكبارِ، وتغدقَ خيرات الأعالي فوقَ أجنحةِ الكائنات كلّ الكائنات!
تنمو الكلمة في قلبِ جبران كزنابقِ الحقولِ، كأجنحةِ البلابلِ وتغرِّدُ تغريدةَ فرحٍ في كلِّ الفصول، وتنبعثُ من ظلالِ روحهِ الظّمأى إلى نورِ الحياة! وحدَها الكلمة تزرعُ بذور المحبّة فوقَ وجهِ الدُّنيا، وحدَها القصيدة تنسجُ اخضرارَ الحياةِ فوقَ جفونِ اللَّيل، وحدَها الرّوح تعانقُ ما يماثلها من أرواحٍ على مدى انبعاثِ شهقاتِ العصور!
جبران روحٌ فيَّاضة معرّشة بينابيع بوحِ القصائد، منذُ أن تبرعمَ فوقَ طينِ الحياة، وسيبقى مبرعمًا كأنشودةِ عشقٍ تدندنُها فيروز بألقٍ كبير على أنغامِ النّاي، لتبقى روحُهُ مرفرفةً عبرَ أناشيدِهِ الصّادحة فوقِ وجنةِ الحياةِ إلى أمدٍ طويل!
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
0 comments:
إرسال تعليق