وسط الحديث عن التطرّف والأصوليات الدينية، ودعوات الى الجهاد والتطرّف التي لم تعرفها دول المنطقة الّا في الأزمنة السوداء المظلمة... تطل أصوات معتدلة تدعو الى تغليب لغة العقل والمنطق على لغة التكفير والتهجير والتنكيل. كما تطل ثورة 17 تشرين 2019 في لبنان ومطالبها الداعية الى الاصلاح قبل الانهيار التام للدولة ومؤسساتها، واقامة نظام علماني يقضي على الفساد والاقطاع بكل أشكاله وأنواعه.
كان المعلم بطرس البستاني رائد الذين نادوا بفصل الدين عن الدولة، وذلك عام 1861 اثر أحداث 1860 الدامية التي وقعت في جبل لبنان بين الموارنة والدروز وسقط خلالها ضحايا كثيرون وأدت الى مآس وأحزان كبيرة في هذا الجبل الشامخ. فقد كتب المعلم بطرس البستاني داعياً الى "فصل الرياسة عن السياسة" أي فصل الدين عن الدولة. وقد نادى في الكثير من مقالاته بضرورة قيام دولة عصرية تستند الى القوانين والدساتير التي تُصنع لصالح البشر ولحسن سير العدالة بينهم، بعيداً عن المشاحنات والعصبيات الدينية التي لا تُنتج سوى الحروب والمآسي.
الإمام الكواكبي الذي عاش في القرن التاسع عشر كان من أوائل الذين دعوا الى فصل الدين عن الدولة وهو الإمام الشهير في الإسلام طبعاً... كان تأثير الكواكبي كبيراً على الشيخ عبد الحميد الزهراوي رئيس المؤتمر السوري في باريس عام 1913، وعلى الدكتور حسن الأسير، والدكتور خالد الخطيب أحد أبرز الوجوه الوطنية في مدينة حماه السورية. ذلك أن هؤلاء جميعهم قد رفضوا الدولة الدينية وركّزوا على فصل الدين عن الدولة وتابعوا الطريق الذي شقّه الكواكبي.
أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي كان أيضاً أحد أبرز دعاة فصل الدين عن الدولة، وهو ما أكده دوماً في كتاباته ومحاضراته وندواته. وهو أيّد فكرالكواكبي وتأثر به
ولا بدّ من الاعتراف بأن جريدة "النهار" حملت مشعل فصل الدين عن الدولة. وكان غسان تويني "الملهم" لفكر وعقيدة جيل كامل من الشباب المثقف في لبنان وعدد من الأقطار العربية الذين دعوا الى التحرر والديموقراطية وحمل مشعل الحرية والسيادة وفصل الدين عن الدولة.
في كتابه "المهنة... وأسرار أخرى" (صفحة 535) يفصح غسان تويني عن تمسّك "النهار" بمبادئها التقليدية منذ تأسيسها وعدم المراوغة ولا التهاون في الدفاع عنها: "هذه المبادئ هي (الدستورية) وكانت شعار "النهار" في الثلاثينات، أيام مقاومة الانتداب، قبل أن ينعم لبنان بحكم دستوري. وكذلك "الاستقلال"، ولم يكن مرة بالنسبة الينا، جيلاً بعد جيل، مجردّ شعار... ثم الديموقراطية، وقد تعلّقنا بمعاركها، داخليا كما في مواقفنا في السياسة الخارجية خلال الحرب الكونية الثانية وبعدها. واخيرا قضية الحريات، على كل صعيد وحيثما تطرح وبأي شكل، والمساواة في الحقوق وما تفرضه، بنوع خاص في بنيان المجتمع الوطني، او المدني حيث لا يمكن ان تكون "طائفية بغيضة"، كما كان يسميها جبران تويني منذ ايام "الاحرار" (وكان شعار الجريدة الام انها "لاطائفية")، ولا طبقية،
وبالطبع لا تخلف اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا خصوصا حضاريا ثقافيا"."
وبالطبع لا تخلف اقتصاديا ولا اجتماعيا ولا خصوصا حضاريا ثقافيا"."
يدعو الطبيب والمفكر اللبناني الدكتور فيليب سالم الى فصل الدين عن الدولة، وقد نشر مقالات ودراسات عديدة تدعو الى "إعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله". وفي مقال له رأى انه "مخطئ من يظن ان الحرب في لبنان كانت قد وقعت لو لم يكن النظام السياسي اللبناني مبنيا على مبدأ الدويلات الطائفية، التي لا تزال من اهم الاسباب التي عوّقت قيام الدولة الحديثة القوية في لبنان. فاذا اردنا بالفعل قيام الدولة الحديثة، يجب ان نبدأ بفصل الدين عن الدولة."
ويضيف: "السياسيون يتكلمون على التعايش لانهم لا يريدون الانصهار. ورجال الدين يتكلمون على العيش المشترك لانهم لا يريدون العيش الواحد". ويؤكد ان فصل الدين عن الدولة يعمق الانصهار المسيحي – الاسلامي ويؤدي الى قيام الدولة القوية وتنشئة مواطن جديد يكون ولاؤه للوطن لا للطائفة ولا للمذهب. كما يرى سالم ان فصل الدين عن الدولة في الدستور والقوانين يشكل الضمانة العقلانية ضد التطرف والعنف والاستخدام السياسي للدين. وهو ضروري لدعم دور الدين في صنع انسان اكثر روحانية ونبلا واخلاقا.
وينظر سالم الى موضوع الدين في العالم العربي كما في العالم اجمع بهذه الطريقة: "اني اؤمن ايمانا راسخا ونهائيا بأهمية الدين، لان التقدم التكنولوجي المخيف والتطور العلمي المطرد اذا لم يواكبه تقدم روحي ايماني وتمسك بالقيم الاخلاقية والمفاهيم التي توصي بها الاديان، يحول الانسان الى آلة بعيدة عن الانسانية واقرب الى الوحشية... ان الاديان التي ننتمي اليها في الشرق كانت ولم تزل مصدر حضارة وتقدم حوّلناها نحن عن هدفها الحقيقي في اتجاه العنف والاقتتال والجمود. ان الدين بجوهره الحقيقي هو دعوة الى الارتفاع بالانسان، وتراثنا الديني الهائل يجب ان نستعمله في هذا الاتجاه، اي ان يكون مصدر قوة وغنى لمجتمعاتنا، لحاضرنا ومستقبلنا".
ويعتقد سالم بقوة انه "اذا اردنا بالفعل قيام الدولة الحديثة، فيجب ان نبدأ بعملية فصل الدين عن الدولة. قد تأخذ هذه العملية وقتا طويلا، الا ان هذا لا يعني الا نبدأ غدا".
*صحافي وكاتب لبناني
0 comments:
إرسال تعليق