يقول سركون بولص : ونحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطىء , لأنّ قصيدة النثر في الشعر الأوربي هي شيء آخر , وفي الشعر العربي عندما نقول نتحدث عن قصيدة مقطّعة وهي مجرّد تسمية خاطئة , وأنا أسمّي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحرّ , كما كان يكتبه إليوت و أودن وكما كان يكتبه شعراء كثيرون في العالم . واذا كانت تسميتها قصيدة النثر , فأنت تبدي جهلك , لأنّ قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالارميه , أي قصيدة غير مقطّعة . من هنا بدأنا نحن وأستلهمنا فكرة القصيدة / السرديّة التعبيريّة / بالأتكاء على مفهوم هندسة قصيدة النثر ومن ثمّ التمرّد والشروع في كتابة قصيدة مغايرة لما يُكتب من ضجيج كثير بدعوى قصيدة نثر وهي بريئة كل البراءة من هذا الاّ القليل ممن أوفى لها حسبما يعتقد / وهي غير قصيدة نثر / وأبدع فيها ايما ابداع وتميّز , ونقصد انّ ما يُكتب اليوم انما هو نصّ حرّ بعيد كل البُعد عن قصيدة النثر . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة تتكون من مفردتي / السرد – التعبير / ويخطيء كثيرا مَن يتصور أنّ السرد الذي نقصده هو السرد الحكائي – القصصي , وأنّ التعبير نقصد به الأنشاء والتعبير عن الأشياء . انّ السرد الذي نقصده انما هو السرد الممانع للسرد أي انّه السرد بقصد الأيحاء والرمز والخيال الطاغي واللغة العذبة والأنزياحات اللغويّة العظيمة وتعمّد الأبهار ولا نقصد منها الحكاية أو الوصف, أما مفهوم التعبيريّة فأنّه مأخوذ من المدرسة التعبيريّة والتي تتحدث عن العواطف والمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة , اي التي تتحدث عن الآلآم العظيمة والمشاعر العميقة وما تثيره الأحداث والأشياء في الذات الأنسانيّة . انّ ما تشترك به القصيدة السرديّة التعبيريّة وقصيدة النثر هو جعلهما النثر الغاية والوسيلة للوصول الى شعرية عالية وجديدة . انّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي قصيدة لا تعتمد على العروض والأوزان والقافية الموحّدة ولا التشطير ووضع الفواصل والنقاط الكثيرة او وضع الفراغات بين الفقرات النصيّة وانّما تسترسل في فقراتها النصيّة المتلاحقة والمتراصة مع بعضها وكأنّها قطعة نثريّة . أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي غيمة حبلى مثقلة بالمشاعر المتأججة والأحاسيس المرهفة ترمي حملها على الأرض الجرّداء فتخضّر الروح دون عناء أو مشقّة .
وسعياً منّا الى ترسيخ مفهوم القصيدة السرديّة التعبيريّة قمنا بأنشاء موقع الكترونيّ على ( الفيس بوك ) العام 2015 ,اعلنا فيه عن ولادة هذه القصيدة والتي سرعان ما أنتشرت على مساحة واسعة من أرضنا العربية ثم ما لبثت أنّ انشرت عالمياً في القارات الأخرى وأنبرى لها كتّاب كانوا أوفياء لها وأثبتوا جدارتهم في كتابة هذه القصيدة وأكّدوا على أحقيتها في الأنتشار وأنطلاقها الى آفاق بعيدة وعالية . فصدرت مجاميع شعرية تحمل سمات هذه القصيدة الجديدة في أكثر من بلد عربي وكذلك مجاميع شعرية في أميركا والهند وافريقيا واميركا اللاتينية وأوربا وصار لها روّاد وعشّاق يدافعون عنها ويتمسّكون بجماليتها ويحافظون على تطويرها .
سنتحدث تباعاً عن تجلّيات هذه اللغة حسبما يُنشر في مجموعة السرد التعبيري – مؤسسة تجديد الأدبيّة – الفرع العربي , ولتكن هذه المقالات ضياء يهتدي به كل مَنْ يريد التحليق بعيدا في سماوات السردية التعبيرية .
أنّ اللغة المتموّجة في القصيدة السرديّة التعبيرية قد منحت شاعرها مساحة كبيرة لتوظيف الخيال والمجاز وطرحهما بصورة واقعية مألوفة , فنحن نعلم بأنّ هناك لا الفة بين المجاز وذهن القارىء , وكلّما تعالى المجاز أتّسعت اللاالفة وجعلت القارىء ينفر ويبتعد , لهذا فنحن نجد بأنَّ السردية التعبيريّة وعن طريق اللغة المتموّجة قد خلقت ومدّت جسوراً ما بين ذهني المتلقي ومجازاتها , أي أنّها تستطيع أن تطرح مجازاتها اللغوية والخياليّة بصورة واقعية محببّة , وبالتالي تستطيع أن تخلق حالة من الألفة لللاالفة , ليصبح الخيال واقعاً قريباً من ذهن المتلقي عن طريق لبسه ثوب الواقعية والحقيقية . أنّ اللغة المتموّجة في السرديّة التعبيريّة تتناوب ما بين مفردات وتراكيب لغوية توصيلية , وأخرى مجازيّة أنزياحيّة , وهذه الميزة لا تتوفر في القصصية السردية ولا في الشعرية التصويرية , فالأولى تعتمد على السرد والتوصيل وتخفّض من المجازية , بينما الثانية تعتمد على المجاز المتعالي وتخفّض من السرد . في السردية التعبيرية نجد المجاز العالي والخيال الخصب المتنامي والتداولية والتوصيلية , حيث يجتمع الأثنان لتكوين لغة قوية تنفذ الى أعماق الذات , وفي نفس الوقت تحافظ على فنيتها العالية , فهي ( السردية التعبيرية ) تجمع الالفة واللاالفة , أي تخضع المجاز والخيال الى الواقعية المحببة والقريبة والحقيقية , فهي قادرة على أن تجعل غير المالوف مألوفاً , والبعيد عن ذهنية المتلقي تجعله قريباً وواقعياً .
وهنا سنتطرق الى كيفية تدجين ووقعنة الخيال المجازي .
في نصّ الشاعرة : سامية خليفة – جفّ ضرع الأمل
نجد غرابة العنوان ولغته المتموّجة ما بين / جفّ / ضرع الأمل / , فمن المتعارف عليه بأنّ مفردة الجفاف مفردة شاسعة ومعلومة ودلالتها واضحة لدى المتلقي , لكن الغرابة تكمن في / ضرع الأمل / والتي هي عبارة عن موجة أنزيايحية ثائرة تثير المتلقي بغرابتها ودلالتها المعرفية والمعنوية . ونجد أيضا في النصّ / أنا العاشقةُ الغارقةُ في لجَّةِ الصَّمتِ أغفلُ عنْ موعدِ الإفطارِ أسألُ على أيِّ رشفةِ دمعِ سأفطرُ والدَّمعُ جفَّ منْ ضرعِ الأملِ / موجات مدهشة توصيلية تتبعها موجات أنزياحيّة مثيرة ومدهشة , فمثلاً / أنا العاشقةُ – عبارة توصيلية مفهومة , لكن عند اضافة / الغارقة في لجّة الصمت / نجد هنا موجة عنيفة من الانزياح اللغوي الذي منح الفقرة زخماً دلاليا وجماليا مبهراً , ثم ـاتي بعدها موجة توصيلية / أغفل عن موعد الأفطار / تتبعها موجة أخرى انزياحية مبهرة / أسأل على ايّ رشفة دمع سافطر والدمع جفّ في ضرع الأمل – ما أجمل هذا الانزياح اللغوي الغريب والمثير والمدهش , ثم / ها هي أطباقُ الإفطارِ تناديني لا أسمعها وصخبُ نواقيسَ تعلنُ عنْ موعدِ رحيلِ آخرِ أسيرٍ منفيٍّ كانَ أنت / تأتي موجة أنزياحية أخرى تبتدأ بها هذا المقطع بأنسنة الأطباق ومنحها صفة الأنسنة / ها هي الأطباق تناديني / تتبعها دون توقف موجة توصلية أخرى / لا أسمعها وصخبُ نواقيسَ تعلنُ عنْ موعدِ رحيلِ آخرِ أسيرٍ منفيٍّ كانَ أنت / مقطع نصّ تداولي متعرف عليه , ثم / أنتَ المنفيُّ إلى مدينة الأفكارِ السوداءِ ألمْ تعثرْ بينَها على فكرةٍ واحدةٍ عذراءَ بيضاءَ لم تدنس الشُّكوك يديها؟ / هذا المقطع الرائع والجميل جاء على شكل موجة هادرة عظيمة , موجة أنزياحيّة مدهشة جداً , تجعل المتلقي يقف عندها طويلاً منتشياً بجمالها , ثم تأتي موجة أخرى / أأنتظرُ انبلاجَ فجرٍ جديدٍ كي يهديَني قطرةَ فرحِ ويداكَ تتفجَّرُ منهما ينابيعُ السَّعادةِ / وهي عبارة عن مقطع نصّ مذهل تتزاحم فيه وتتدافع الموجات التوصيلية والانزياحيّة بطريقة أكثر من رائعة , فمثلاً / أأنتظرُ انبلاجَ فجرٍ جديدٍ / وبدون توقف تأتي الموجة الهادرة بأنزياحاتها المذهلة / كي يهديَني قطرةَ فرحِ ويداكَ تتفجَّرُ منهما ينابيعُ السَّعادةِ / , ثم تختتم الشاعرة نصّ البديع بـ / أذن المغرب الكل يولم بشراهة ذئب أما أنا فسرحت في وليمة تغص بعصائر باردة من سراب جليدي تعلو الرضاب شفتيه. / حيث الجمال اللغوي والأنبهار يتفجّر موجات كثيرة في هذا المقطع النصّي الزاخر بالابداع الجميل , تناوبت فيه اللغة الشعرية العظيمة ما بين التوصيلية والأنزياحيّة .
أنّ هذا النصّ يعتبر من التحف الكبيرة التي أنتجتها السردية التعبيرية عن طريق لغتها المتموّجة , حيث نرى فيه الخيال الجميل وقد لبس لباس الواقع , حيث الألفة والقرب لدى المتلقي , لقد استطاعت الشاعرة هنا أن تكتب لغة عظيمة لولا السردية التعبيرية لما تمكنت من تطويع هذه اللغة بهذه الطريقة المذهلة , ولما جعلت من الخيال الجامح لديها ملموساً وواقعياً .
جف ضرع الأمل
أنا العاشقةُ الغارقةُ في لجَّةِ الصَّمتِ أغفلُ عنْ موعدِ الإفطارِ أسألُ على أيِّ رشفةِ دمعِ سأفطرُ والدَّمعُ جفَّ منْ ضرعِ الأملِ؟ أستدعيكِ يا أفكاريَ الهاربةَ مني ألّا تختاري من قاموسِ الأبجديَّةِ حروفًا حارقةً أو ابقَيْ بعيدةً،ها هي أطباقُ الإفطارِ تناديني لا أسمعها وصخبُ نواقيسَ تعلنُ عنْ موعدِ رحيلِ آخرِ أسيرٍ منفيٍّ كانَ أنت ،أنتَ المنفيُّ إلى مدينة الأفكارِ السوداءِ ألمْ تعثرْ بينَها على فكرةٍ واحدةٍ عذراءَ بيضاءَ لم تدنس الشُّكوك يديها؟ أأنتظرُ انبلاجَ فجرٍ جديدٍ كي يهديَني قطرةَ فرحِ ويداكَ تتفجَّرُ منهما ينابيعُ السَّعادةِ؟!أذن المغرب الكل يولم بشراهة ذئب أما أنا فسرحت في وليمة تغص بعصائر باردة من سراب جليدي تعلو الرضاب شفتيه.
0 comments:
إرسال تعليق