حَمَلَ كأسا كبيرا من الشاي الساخن المُنعنع ، وجَلَس على كرسي، في ساحة بيته، وبدأ يحتسي شايه، فيما كانت عيناه تحدقان في ظلمة الليل الساجي، وعقله مشغولا بأفكاره التي تؤرقه، وتجعله شارد الذهن مهموما.
غدا أو بعد غد، سيأتي العيد، فماذا سيفعل عامل بسيط فقد عمله، ومصدر دخله، فجأة ودون مقدمات؟.
يعترف داخل نفسه، أنه رجلٌ طيب بسيط، لا يداوِر ، ولا يراوغ، ولا يناور. ولو أنّ لقمة العيش تأتي من خلال الصراع، والأنانية والمزاحمة، لما استطاع الحصول عليها، ولكنه يعتز بأمانته، وإخلاصه ، وسمعته الطيبة.
عندما اجتاح فايروس الكورونا البلاد، اتصل به مدير الشركة الخاصة، وقال له: نزّلنا راتبك في البنك عن الشهر الحالي، ولا نلتزم بدفع الشهور القادمة !!. ماذا تقول؟!!.أقول لك ثانية: الظروف صعبة، ولا نستطيع دفع الرواتب !!.
يعود بذاكرته إلى الماضي .كنتُ محبّا لعملي، أذهبُ مبكرا إلى المؤسسة، أفتحُ البابَ الرئيس، والنوافذَ للتهوية، أُزيلُ الغبارَ عن المكاتب ، أكنسُ الغرف كلّها، وأشطفها، أنظّف وأعقّم، وأنثر الروائح الطيبة في فضائها، وأستقبل زملائي الموظفين، بوجه مشرق ، وابتسامة هادئة، ومريحة ، وأقدم لهم القهوة والشاي، وأنا في سعادة غامرة.
هكذا، إذن يا صاحبَ المؤسسة ...!!.تطردني من مؤسستك الثرية، وتقول لي بهدوء أعصاب : انتهى عملك ..!!.
تلقيني في البحر العميق ، دون مجداف أو قارب!!.يا للأسف لم تستطع أن تتحمل دفع راتب أو راتبين، طردتني شر طردة!!. وماذا تقول عن أقوالك وتصريحاتك السابقة عن الوطن والوطنية والعرف والدين ؟. العمال لهم حقوق مقدسة، عليهم أن يتقاضوا رواتبهم كاملة، لا يجوز لأصحاب العمل فصل موظفيهم فصلا تعسفيا، وتنظيرات أخرى كثيرة.
كيف سيمرُّ هذا العيدُ على أسرتي الصغيرة ؟!.لم أعمل طوال شهرين كاملين، ولا توجد معي مدخرات، ولم أشترِ ملابسَ جديدة للأطفال، ولحمة العيد وحلوياته أصبحت أمنية صعبة التحقيق ، رحماك، يا ربي ..!!.
ومع انتهاء آخر رشفة من كأس شايه ، سمع دقاتٍ على الباب، فقال: تفضل..!!.دخل الزائر وهو يقول: منذ زمن طويل لم نشرب الشاي معا ، يا جار، فأحببت أن أسهر معك في هذه الليلة الرمضانية الكريمة. هشّ في وجهه ، رغم حزنه العميق، ورحّب به، وأضاء مصباح الكهرباء ، وأحضر صينية بيضاء، يتوسطها كأسان شفّافان لامعان، وأبريق شاي ساخن ، يتضوع من فتحته بخارٌ مشبعٌ برائحة النعناع. وراحا يتحدثان في همومهما المشتركة، وآخر الأخبار الصحية المستجدة.
مال الضيفُ على أذن مضيفِه، وهمس له: أعرف ، أيّها الجار العزيز ظروفك وانقطاعك القسري عن عملك، وهذه شدّة ستمر، وغُمّة ستنتهي، وأنتَ تعرف أن حالتي والحمد لله ميسورة ، فاسمح لي أن أقدّم لك هذا المبلغ المالي الذي تتمكن فيه من عبور هذه الأيام الصعبة...!!. تأثر المضيف ، وأستقبل كلام جاره بمحبة وارتياح؛فقد أحسّ أنها خارجة من أعماق قلبه بسيطةً عفويةً صادقة.
استلم المظروفَ الأبيض ، وقال له:أشكرُك، يا جاري العزيز، لقد أسعدتَ قلبي بالفعل، وتعزّز يقيني أنّ الخيّرين موجودون، وهم الذين يشكلون الأغلبية في بلادنا ، لكنّ هنالك أناسا يعيشون بيننا، ولا يشعرون بمعاناتنا، و ليسوا مستعدين تماما للتضحية بجزء من أموالهم، في سبيل الوطن وأهله . وأصدق مثال هذا الفصل التعسفي الذي تعرضتُ له ، وغيري كثيرون ، ولكنني لن أسكت، سأنتزع حقي بالقانون
.
0 comments:
إرسال تعليق