سؤال خلقته الأحداث في الآونة الأخيرة، هل فيروس كورونا زعزع العالم حقاً؟ أم أنّ تبعته التي تمحورت في إنهيار أسعار النفط زَلْزَل استقراره وأمنه مع تفاقم شعور عدم اليقين في الأشهر المقبلة، أم أنّ حرب الأسعار وغزارة الإنتاج النفطي بين روسيا والسعودية وأمريكا هي التي أودت بالعالم إلى هذا الموصل؟
تزامَن انخفاض سعر النفط إلى أدنى مستوى تاريخي والمؤشرات لا تبشّر بتعافيه في الفترة القريبة المقبلة، مع تزايد إصابات كورونا في الولايات المتحدة الأمريكية وارتفاع حالات الوفيات إلى مؤشر ينذر بخطر حقيقي ويوحي بعدم قدرة الدولة الأولى بالعالم على السيطرة عليه.
الإنخفاض الهائل لسعر النفط قد يهدّد أمن واستقرار دول برمّتها، بدءاً بدوّامة هبوطية في أكثر من اثنتي عشرة دولة حول العالم، ممّا قدّ يعطّل عجلة الاقتصاد ويغيّر اتجاهات سياسة وقرارات كما الطمأنينة في كثير المجتمعات.
لمحة عامّة عن تلك البلدان التي يمكنها السيطرة على هذه الأزمة وأخرى علّها تواجه خطر الانهيار.
في الثمانينيات مثلاً لعب انخفاض سعر النفط دوراً مهماً في إسقاط الاتحاد السوفييتي، التي كانت تعتمد الحكومة في ميزانياتها عليه بشكل كبير. واليوم تتعرض روسيا وهي ثاني أكبر دولة مصدّرة في العالم لضربة شديدة بسبب اعتماد ميزانية الكرملين على عائدات النفط. ووفقًا لوزير المالية الروسي "أنتون سيلوانوف" فإنّ احتياطيات الدولة التي تبلغ 124 مليار دولار سيُستهلك نصفها بحلول نهاية عام 2020م إذا استمر الإنخفاض في نفس المستوى.
لقد شهد عاما 2014م و 2016م اضطرابات تسبّبت في انخفاض الخام الأمريكي الخفيف الذي وصل إلى 94 دولار و107 دولار لخام برنت نتيجة لعوامل عدّة، منها أحداث ليبيا وسيطرة مجموعة على موانئ تصدير النفط، والمعارك في العراق ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" والمخاوف من تقليص إمدادات الخام منه، وهو ثاني أكبر منتِج للخام في منظمة "أوبك"، بالإضافة إلى موجة البرد الشديد التي اجتاحت الولايات المتحدة.
سجّل سعر النفط "خام غرب تكساس الوسيط" الإنخفاض التاريخي على الإطلاق 40,32 دولارا تحت الصفر، لا بل وصل الحدّ لتدفع الشركات النفطية للمشتري 40 دولار كي يتخلصو من البراميل المتراكمة.
تراوحت أسعار النفط الأسبوع الماضي 28 أبريل/نيسان حسب النوع بين 15 و 20 دولار للبرميل الواحد، وهي الأدنى منذ التسعينات، ويعتبر الإنخفاض الأكثر حدّة منذ عقود لتعرّض بعض الدول للعديد من الأزمات في ذات الوقت مثل كورونا مثلاً، غير أنّ الإرتفاع الطفيف خلال الأيام الماضية يظهر تعافياً نوعاً ما للذهب الأسود.
يتفاوت حجم تأثر انخفاض النفط على الدولة بين واحدة وأخرى حسب النسبة التي يشكّلها من مجمل الناتج المحلي الإجمالي، فلو أخذنا الدول الصناعية الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، كندا، الصين، النرويج والبرازيل، وهي الدول المرنة، من المرجّح أن تتحمّل الإنخفاض نسبياً على الرغم من تصدير كميات كبيرة من النفط، غير أنّها تشكّل نسبة مئوية قليلة من الناتج المحلي الإجمالي، هذا لوجود قطاعات إقتصادية متنوعة. تشكّل حصة إنتاج النفط في أمريكا من الناتج المحلي الإجمالي نسبة 0.17 بالمائة، كندا 0.9 بالمائة، الصين 0.33 بالمائة، البرازيل 1.25 بالمائة، المكسيك 1.7 بالمائة والنرويج 3.75 بالمائة، حسب البنك الدولي وبنك "جي بي مورغان اللذان تستند إليهم المقالة في جميع النسب. غير أنّ المكسيك لديها مشكلة خاصة، وهي أنّ شركة النفط المملوكة للدولة ""Pemex مديونة بمبالغ ضخمة ممّا يهدّد التصنيف الإئتماني للبلاد. وبالتالي فإنّها تميل إلى أن تكون أكثر تكلفة على الدولة للتعويض عن الدخل المفقود من صادرات النفط بديون جديدة.
بينما يشكّل الناتج النفطي في الكويت 36.6 بالمائة من مجمل الناتج المحلي والسعودية 23.1 بالمائة، وهي ثالث أكبر مصدّر للنفط في العالم، ومن المرجّح أن يكون الإنخفاض في الأخيرة أكثر إيلاماً من الدول النفطية المجاورة، حيث يزيد ناتجها عن الكويت وقطر والإمارات مجتمعة، لتحافظ السعودية على توازن ميزانيتها يجب أن يكون سعر البرميل 74 دولار على الأقل، فالسعر الحالي 20 دولار يتسبّب بوجود ثغرة في الميزانية تصل حوالي 600 مليون دولار يومياً.
ولهذا أقبلت الحكومة على تعويض جزء من هذه الخسائر من احتياطياتها الحكومية الضخمة وجزء من خلال الديون الجديدة، بالإضافة إلى برنامج تخفيض الإنفاق الحكومي. لذلك ترى الباحثة الألمانية "كيرستين فيستفال" في مؤسّسة العلوم والسياسة "SWP" وهي المؤسّسة الألمانية للسياسة والأمن الدولي بأنّ القطاعات التي ستتأثر بشكل خاص هي المؤسّسات الإقتصادية في الدولة التي تعتمد على النفط بشكل أساسي.
يصل ناتج قطر إلى 14.2 بالمائة ودولة الإمارات العربية 13 بالمائة وروسيا 6.4 بالمائة. هذه الدول تضرّرت بشدّة لا محال من الانخفاض، لأن اقتصادها يعتمد إلى حد كبير على العائدات النفطية، لكن يمكنها من حيث المبدأ تحمّلها دون معاناة بالغة من الأزمة. فالعجز المتوقع في العام الحالي تستطيع مئات المليارات من صناديق الثروة السيادية تعويضها، كما أنّ مستويات ديونهم منخفضة نسبياً، ويمكنهم بسهولة اقتراض أموال جديدة من سوق رأس المال عند الحاجة.
أمّا بالنسبة لعُمان التي تعتمد بشكل كبير على العائدات النفطية الآخذة في النفاذ، والتي يصل ناتجها 21.8 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي. فهي بحاجة لبقاء سعر البرميل بحوالي 85 دولار كي تتمكّن من تمويل ميزانيتها، ومن المتوقّع أن يصل العجز بنسبة 17 في المائة للعام الحالي.
كما أنّ بعض الدول تستطيع إستيعاب إنخفاض سعر النفط من خلال تعدّد مجالاتها الإقتصادية المتنوعة أو من حجم إحتياطها من مئات المليارات، فهناك على الضفة الأخرى دول مهدّدة بالدمار كإيران التي يشكّل النفط فيها 15.3 بالمائة من الناتج المحلي، تعاني كارثة حقيقية ووضع أكثر خطورة من الدول الأخرى لإنخفاض الإنتاج إلى النصف منذ عام 2017م بسبب العقوبات الأمريكية، علاوة على ذلك تأثّرها بشدّة بفيروس كورونا، فقد طلبت من صندوق النقد الدولي مساعدة قدرها 5 مليارات دولار لأول مرة منذ الثورة عام 1979م.
يرى معهد "كيل للإقتصاد العالمي" "IfW" أنّ إيران تواجه إنهيار إقتصادي حقيقي ويناشد الإتحاد الأوروبي دعم طهران لتجنّب حدوث كارثة إنسانية من شأنها عرقلة العلاقات الدبلوماسية المتوترة في الأصل.
الحال في فنزويلا والإكوادور أكثر سوءاً أيضاً، فالأخيرة مثقلة بالديون ومفلسة تقريباً، فأتى إنخفاض النفط ليشكّل كارثة تساويها أيضاً تفشي كورونا القوي حسب وكالة "فيتش" الدولية للتصنيف الإئتماني.
فنزويلا تعاني هي الأخرى أزمة إقتصادية وسياسية منذ أعوام حتى أتى فيروس كورونا ومعه أسعار النفط ليساهم في جعل معدل التضخم خارج السيطرة، وتفشّي الفقر وتفاقم الإجرام وإنهيار المنظومة الصحية بشكل كلّي.
وضع الجزائر يعتبر كارثي أيضاً، حيث تتوقع الحكومة - المثيرة للجدل - عجزاً بنسبة 20 بالمائة ممّا يجبرها على استخدام احتياطها بنسبة تصل إلى 90 بالمائة حتى نهاية العام. فحسب "مجموعة الأزمات الدولية" وهي منظمة دولية مقرّها بروكسل - بلجيكا أنّ الحكومة مهدّدة بالإفلاس خلال عام في حال بقاء سعر النفط في هذا الإنخفاض.
بالإضافة إلى دول الصراع كليبيا ناتجها النفطي 37.3 بالمائة وسوريا والعراق يشكّل 37.8 بالمائة وهي بأمس الحاجة إلى صادرات النفط حتى لا تفلس بالكامل بسبب الإرهاب والانقسامات.
الأسباب الحقيقة وراء هذا الإنخفاض الخطير للنفط أحدها وأهمها هو فيروس كورونا المستجدّ الذي أجبر الملايين من الناس على البقاء في بيوتهم جرّاء الإجراءات الإحترازية، وبهذا ماتت الحياة جزئياً في خارج المنازل والمؤسّسات ومعها السيارات وجميع المحرّكات والأجهزة التي لا تعمل دون المحروقات، بالإضافة إلى القرارات العالمية حول إيقاف الطيران الكلي بين الدول.
ومن جانب آخر حرب الأسعار وغزارة الإنتاج النفطي بين روسيا والسعودية وأمريكا التي أدّت إلى هذا الإنخفاض إبّان الأشهر الأخيرة، هذا مع الخوف الهيستيري الذي تسبّب بالتخلّص من عقود شراء شهر مايو/أيار.
وجزئية أخرى توازي كورونا في الأهمية من جانب إنخفاض سعر النفط وهي المضاربة بين البنوك البورصوية الضخمة التي ساهمت في إنهيار سوق النفط الأمريكي بسبب شراء كميات كبيرة على أمل تحقيق أرباح مضاربة في حال ارتفاعها مرة أخرى. ما لم يكن في الحسبان هو استمرار الحجر الذي أدى كتبعة بديهية إلى إنخفاض الطلب مع زيادة العرض بشكل غير مسبوق، فآل التخلّص من العقود قبل نهاية أبريل/نيسان 2020م الحلّ الأخير.
إذن، سببان رئيسان لعبا دوراً أساسي في هذه الأزمة، أوّلهم الوباء الذي اجتاح العالم كلّه، والثاني طمع المضارب وجشعه جلّه مؤطران بالخوف الذي دفعهم للإقبال على ما يسمّى في البورصة "مبيعات وهمية" وهي التي يقبل عليها المضارب حسب نشاط السهم أو السند بناءً على ارتفاعه أو انخفاضه دون الرجوع إلى نشاطه الحقيقي.
متشائم يرى بقاء الحال كما نحن عليه الآن، ويراهن على إنهيار إقتصاد دول برمّتها، وآخر متفائل يعتقد بأنّ الوضع الحالي هو أرض خصبة مهيّأة بظروف مثلى لزيادة كبيرة في الأسعار والإنتعاش الإقتصادي بشكل عام، رغم حالة الإفلاس الملحمية. وبقدر ما هو صعب الاعتقاد بالتحسّن، فإن الخطوة التالية هي بداية الإزدهار كما يتبنى مدير مجموعة الطاقة "ريمون جيمس" محلّل الطاقة الإستشاري "بافل مولتشانوف".
وبين متفائل ومتشائم مساحة لسطوة السوق في العرض والطلب، التي يصعب المراهنة عليها بجلسة تحليلية أو مؤشرات بورصوية، يصحبها قانون الطبيعة الذي فرض على المضارب والبائع والشاري والمصلّي الصائم طوراً لا طاقة لنا عليه.
أعاننا الله وإياكم صيام الشهر وقيامه.
0 comments:
إرسال تعليق