مضى ثلاثون عامًا منذ أن احتضن الثرى الفلسطيني جثمان الشاعر والزجال الشعبي، حادي الوطن والحرية، راجح السلفيتي(أبو احمد).
وللسلفيتي الباع الطويل في ميادين الزجل والشعر الشعبي المحكي والقصيدة العامية، منذ عهد الانتداب البريطاني وحتى الاحتلال، شريكًا للناس في أفراحهم وأتراحهم وهمومهم اليومية ونضالاتهم. عرفته ساحات وميادين وبيادر القرى الفلسطينية في حفلات زفاف خيرة أبنائها، وعرفته ليالي السجون والزنازين المعتمة الطويلة والمملة، وعرفته مخيمات واعراس العمل التطوعي في الناصرة، ومهرجانات الثقافة والفن واحتفالات العمال في أول أيار وأروقة الجامعات. فهو صوت الشعب الفلسطيني وروحه الوطنية الأصيلة الوثابة على امتداد مسيرته الكفاحية منذ ثورة العام 1936، وحامل هموم الناس البسطاء والفقراء، وأبداعه مرتبط بالانخراط في قضايا الشعب الوطنية التحررية.
راجح السلفيتي من مواليد بلدة سلفيت العام 1921، كانت اهتماماته الاولى بالغناء مستمدة من المرحومة والدته، منذ طفولته المبكرة، عندما كان يرخي أذنه لها وهي تغني لأخوته الصغار وتهدهدهم، ومن بين ما كانت تغنيه لهم " عذب الجمال قلبي يوم نوى ع الرحيل ".
وفي العام 1929 كان عمر الراجح يقارب الثامنة فأرسله أبواه لمدرسة القرية عند الشيخ نافع مسمار، الذي كان له الفضل في تحفيظ الأطفال الأغاني الوطنية وتاريخ فلسطين والأخطار المحيطة بها، مما أسهم في تعميق ملكة الشعر وحبه لدى راجح الطفل في حينه.
أما أول ممارسات وتجارب الراجح لهذه الهوايات فتعود إلى الثلاثينات من القرن الماضي، وكانت أولى القصائد التي حفظها تلك التي قيلت في رثاء الشهداء محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، الذين اعدمتهم سلطات الانتداب في السابع عشر من حزيران العام 1936. وقد قيل الكثير في رثائهم من قصائد، أشهرها " الثلاثاء الحمراء " للشاعر إبراهيم طوقان.
حفظ راجح الكثير من الأشعار وكان يرددها أمام نساء الحي بحضور والدته ويلقى تشجيعهن، لكن هذا النبوغ المبكر أصيب بنكسة عرقلت تطوره ونموه. ففي العام 1933 توفي والده فاضطر راجح ترك المدرسة ليجد نفسه أبًا لأخوته الستة، وبعد أحد عشر شهرًا اكتملت فجيعته بوفاة والدته لتكبر همومه ليدخل سوق العمل. وفي العام 1937 تزوج، وبعد أشهر من زواجه التحق في صفوف الثورة ضمن فصيل عارف عبد الرزاق وحمد زواتا، ليعود بعد فترة لبلده سلفيت. وفي أيام الثورة كان يشارك في الغناء والدبكة في القرى والبلدات التي كان يدخلها فصيله.
وراح راجح السلفيتي بعد ذلك يغني في الأعراس والأفراح في سلفيت وجوارها، وبزغ نجمه وذاع صيته حتى ان أهل بلده كانوا يقولون : " العرس ما بيعمر في سلفيت إذا بكنش راجح فيه ".
شارك راجح في حرب 48 وجرح في سلمة، وكان وقتها ينشد للأرض والبيارات وللحاج أمين الحسيني. وفي العام 1949 تعرف بالشيوعيين والتزم معهم وكان واحدًا منهم.
وفي العام 1957 اضطر راجح للتخفي والهرب والعيش في المنفى حفاظًا على حياته، وخلال ذلك توفيت زوجته، ثم عاد للوطن بعد نكسة حزيران، رافضًا مرارة الهزيمة والمنفى قائلًا :
اللي على شعبه لبس جلد الهصور
مثل الحصيني انسل على الباذان
وفي العام 1974 طالته وشملته الاعتقالات الإدارية من قبل سلطات الاحتلال الاسرائيلي، وغمد في سجن نابلس حتى أفرج عنه بعد انتخابه عضوًا في بلدية سلفيت، وكان ذلك بمثابة تكريم له واعترافًا بدوره فيها، وشكلت قصائده في السجن روائع حقيقية في الادب الشعبي.
وفي السابع والعشرين من أيار العام 1990 وافته المنية تاركًا وراءه سيرة كفاحية ونضالية مضيئة ومشرفة، وإرثًا شعريًا وطنيًا وطبقيًا ملتزمًا بالهم الجماعي الفلسطيني والإنساني، والقضايا الوطنية المصيرية.
ويعتبر سجل السلفيتي الزجلي سواء في المناسبات الخاصة أو العامة، سجلًا تاريخيًا لمعاناة شعبه وآلامهم وعلامات في طريق نضالاتهم، وأزجاله وأهازيجه الشعبية كانت هتافات في المظاهرات، وشعارات سياسية، وفي بعضها تحس أن نبض القصيدة هو تحليل سياسي وبوصلة لنضال وكفاح ومقاومة الشعب في سبيل الحرية والاستقلال.
ولراجح السلفيتي ديوان " زجليات " كان قد صدر عن دار الأسوار في عكا لصاحبها ومؤسسها الناشر الصديق يعقوب حجازي، وقدم له الشاعر الراحل سميح القاسم، وضم بين دفتيه باقة من أشعاره بمختلف الموضوعات والأغراض الشعرية، ومضامينه تقدمية، واضحة المعالم والأفكار، وذات طموحات وتطلعات إنسانية على الصعيد الشخصي والجماعي، تؤكد التصاقه والتحامه بالكل الفلسطيني، وطنًا وشعبًا، ولا يمكن لأي قوة مسلحة ثنيه عن حبه لوطنه وشعبه ومجتمعه. والوضوح من أبرز سمات شعره، ليس وضوح الكلمات والمعاني فحسب، وإنما وضوح المواقف الوطنية والرؤى الطبقية. فراجح ينتمي لطبقة العمال والفلاحين، ويعبر عن انتمائه بالغناء والانتصار للفئات المسحوقة الغلبانة، ويعلن تمسكه بهويته الوطنية الفلسطينية، وحرصه عليها أكثر من حرصه على روحه، ويدعو للوحدة الوطنية والوحدة العربية والحرية ومقاومة المحتل، ويشيد بالمرأة الفلسطينية ومواقفها ونضالاتها، ويصور حبه لبلاده وأرضه وداره، وذلك بقوله :
بلدي بجمالها وسحرها حلوة بشمسها وقمرها
من دمّي رويت شجرها وخضبت ترابها وحجرها
جنة اللـه بعلاليها مع ثمرها وجوارها
لو فتحت لي مصراعيها وقال لي الخالق أخلد فيها
إن ما لقيتش وطني فيها لقول لو عالنار ارميني
ما في جنة بتلهيني عن غرامي بفلسطيني
راجح السلفيتي بكل ما كتبه وقاله من أشعار وازجال شعبية كان شاعرًا صادقًا، وفي شعره حرارة وهو يقاوم ويرفض الهزيمة والموت والاحتلال، وكتاباته مرآة تنعكس عليها الهموم والآلام والعذابات والأوجاع التي يعانيها شعبه تحت نير الاحتلال.
وسيظل راجح السلفيتي (أبو احمد)، رغم غيابه ورحيله جسدًا، خالدًا مخلدًا في ذاكرتنا وثقافتنا الوطنية الشعبية الفلسطينية.
0 comments:
إرسال تعليق