رِيزا هذا الشبحُ المجهولُ ، هذا السِفرُ الخاِلد من المعاناة في ضمير الزمن ... هذا النداء المعلن من قرية فيشخابور ، هناك لا زالت الأطلال في البيوتات تحكي زمن القهر والإستلاب الإجتماعي ... كانت سليلةُ أمجاد فأبكت الديار وساكِنيها سِياطُ القدر بعد ضحكه ِ، كَم لعبتْ رِيزا مع فراشات السعادة وشاهدت قطعان الخنازير البرية وهي تتكاثر على ضفافِ دجلة وتتحاكى مع القدر ... إنها سليلةُ البيت الشامخ إجتماعياً (عَزِيزْ الياقو) الذي يمتلك سبعة قُرى هي (قرية فيشخابور وقرية ديربون وقرية باجه براف وقرية باجده كندال وقرية توسان التي تقع على ضفاف نهر دجلة مقابل قرية گوزكيران في ناحية زُمَّار وقرية مشارة مقابل قرية "جم باهيف عُليا" في ناحية زُمّار) بمساحاتها الشاسعة ولكن كان لخارطة تحالفات الأرمن مع الروس القياصرة والإصطفاف ضد العثمانيين الأتراك خاصة وضد المسلمين عامة ذلك التحالف الذي خطط له الكبار لابد وأن تكون له تداعيات يدفع ثمنها الأبرياء من النساء الأيامى والولدان اليتامى وها نحن نحط الرِحَال بين يدي أمنا المسيحية (رِيزا) سليلة الحَسَبِ والنسب إبنةُ الأكابر التي لسعتها سياط القدر وغربلتها محنةُ التغريب نستذكر النُزر اليسير من تلك الأهوال الموجِعَة المؤلمة ...
كيف لا نتوجع وقد نَقل لنا الأحفاد كيف تمت تخبئة حُلِيُّ جميع النساء بِجِرارٍ داخل حُفْرَةٍ تًحْتَ مَعْلَفِ الخيل ولا زالَ في ضياع ، وكهوف الذاكرة الشاهدة على جريمةِ عصر كانَ الجميعُ يحلمُ ويُمني النفس بالفرجِ بعد الشِدة ... كانت أمنا (ريزا) تئن وتتوجع وتبكي الأهل الذين ربما هم ماتوا أيضاً بكارثة الفرمان العثماني ... وربما حال الأهل لا يختلف فربما هم مشردون كذلك بعد أن كان والديها لها مثل الغيمة يحمونها من لـهيب الشمس وزمهرير البرد ... وَقَفتْ في ذهول وسالت دُموعها على الخدود تسيلُ مِثلَ شَلاّلٍ هادرٍ يَجري ، الكلُ يرمقها بِنَظرةِ إستحقارٍ وإزدراءٍ أو شهوة أو لربما لا يهمهم أمرها بل هم يتوارون عنها لأن السياسة اغتالتها كبسمةٍ لم تكتمل أو كهلهولة خرست بالشفاه ووُئِدتْ في مَهدِها ، عِندما أستحضر الموقف وأنظرُ إلى مَنْ حولها أدركُ متيقناً أن إنسانيتها إغتيلت فلا فرحٌ بيومِ العيدِ مَثلَ كُلِ الناس ، وأنّى لها الفرح وكيف تنطلق البلابلُ والأهل والأحِبّة في غياهِبِ الضَياع ولم تبقَ لها إلاّ الذِكرى الموجِعة .
كأني بها تناجيني قائلة :
الحزن أصبح جاري الذي يشاطرني همي ويتقاسم ليلي وشمسُ نهاري .. والخوف هو رفيقي الذي لم يزل يطرد الأمن عني .. الضياع قريبٌ مني قُرب النفس بالنفس حتى ظنناه أمي وأبي اللذين أنجباني ... والهلاك يلازم حياتي أينما إستفقت من يقظتي التي سُرِقَت .
مُقَطّعةُ الثيابِ بعد عزٍ أصبحَ ذِلة .. لا ألبس حذاءً برجلي بعد خلاخيل الذهب واستجادة النعال ، أعاني برد الليل وحر النهار ، إلى من أشكو ... أشكوا ضعفي وأبث نجواي إلى الله وأسأله أن يكشف الهم والحزن عني ... الله هو خالقي وإليه أرسل تضرعي ، رباه سالت مياه عيوني بعد فرحٍ ، ويبس جلدي بعد نضارة ، وبان عظمي من الجوع ... أشتكي بعد ترف قدماي لا تستطيع أن تحملني ، عيوني تؤلمني ... لا أدري إلى أين أذهب حيرانةٌ تائهة الفكر قد سُلِبَ الحنانُ والعطف والحب ... مكسورةٌ متحطمةُ الجوانب الفكرية والاجتماعية ، لقد جار عليَّ الزمان بمعوله وضربني في ظهري حتى أوشك أن يقصمه فحطم تراتيلَ أحلامي السعيدة ...كيف لا وقد انطفأت شمعة حياتي بكهف الظلم أصبحت أعيش في ظلام وكأني تحت طبقات الأرض فأنا كما الميت في قبره .. بكائي ودمعتي سيمفونيتي المفضلة .
ولدت أمنا (رِيزا) عام ( 1900م ) وربما قبل ذلك بأعوامٍ قليلة أرمنية الأصل مسيحية الديانة كانت متزوجة عند حدوث نكبة الأرمن عام 1918م أو المذبحة (سَمِها ما شِئت) في أول سنة زواجها من إبن عمها الذي قُتل أثناء الهجمة عليهم من يَد الأتراك واستطاعت (رِيزا) الهرب بعد أن ألقت بنفسها في نهر دجلة وهي تحمل قَرع اليقطين اليابس الذي يطفو على سطح الماء على شكل قِرِبَة (الجربة) وهي عبارة عن 2 قرع سلاحي كبير الحجم شكله اسطواني مربوطتان بحبل من وسطهما إستطاعت أن تنقذ نفسها وتصل إلى الضفة الثانية من نهر دجلة .
تجلت مشيئة الله ولطف عنايته أن هيئ لأمنا (ريزا) مَنْ يستقبلها من ساكني إحدى تلك القرى وهو (الحاج برو الدلال) ومما شاع في مناطق زُمّار إختصار الأسماء (إبراهيم إلى برو وعزيز إلى عزو ومجيد إلى مجو ومصطفى إلى مصطو و...) المهم أن الحاج برو الدّلال إصطحبها معه إلى البيت كواحدةٍ من بناته حيث مكثت عندهم قرابة سنتين ، أرتبط (حمود العبد هين) بصداقةٍ حميمة مع برو الدّلال و(عبد هِينْ) هو عبدالله شاع لقبه (عَبد هين) على إسمه وسبب هذه التسمية كثرة سؤال ضيوفه : عبد هين أي هل أن عبد موجود هُنا ومفردة (هين تعني هنا) ، فضلاً عن سؤال الوافدين
من الأصدقاء والأحبة الذين يسألون عنه (عبد هين) وهكذا طغت الشهرة على الإسم .
في أحد الأيام التي صادفت في موسم الحصاد زار (حمود العبد هين) صديقه (برو الدلال) فأبصرت عيناه الشابة الجميلة (رِيزا) التي حمل الكثير من أبناء وأحفاد الحمود لاحِقاً جيناتها الوراثية ...
فسأل حمود مضيفه برو عنها هل هذه إبنتكم ؟
فأخبره بتفاصيل حكايتها ، ليُبادر حمود بِخِطبتها لنفسه لتكون زوجةً له على كتاب الله وسُنةِ رسول الله ، وعندما سُئلت عن رأيها كان موقفها كيف لا وقد واعتبرني هذا الرجل العربي الشهم تحت رداء الأهل بنخوة الرجال ، وهكذا شاء الله أن تتدارك رحمته ولطف تدبيره ( أمنا ريزا اليوسف) لتكون كنّةً لتلك العائلة الجبورية الزُمّارية المتغذية بقيم الإنسانية والنخوة والمرؤة ، لتنقشع غمامة تلك الليالي السود ويكون هذا الحدث إيذاناً بفجرٍ جديد وحياة تملؤها السعادة الزوجية لــــ( حمود وريِزا ) التي إختارت لها إسماً جديداً هو (مَريم) بعد أن إعتنقت الإسلام قَبل زواجها ، وإزدادت الفرحة بعد أن أنعم الله على الزوجين بالذرية ( ناصر ، أحمد ، يُونس ، محمد الحمود ) .
شاء الله سُبحانه وتعالى أن يتوفى (حمود العبد هين) عام 1938م أي بعد قرابة ثمانية عشر عاماً من الزواج وبعد أن أعقب أربعة أبناء ، ليترك للزوجة (ريزا أو مريم) حِملاً ثقيلاً خاصةً وأنه أصيب بالعمى قبل وفاته بعامين فكانت مريم هي عيونه التي يُبصر الدنيا بها حتى وافته المنية (رحمه الله تعالى) ، توفي حمود في حياة أبيه (عبد هين) الذي أقعده المرض وشَلَّ أطرافه عن الحركة فكانت (مريم) هي البلسم الشافي وهي البنت الفاضلة التي إعتنت بهِ أفضل مما تعتني أي إبنة بوالدها وهذا ما شَهِدَ به القاصي والداني فضلاً عن أبناء الحمود (رحمهم الله تعالى) حيث كانت تطعمه وتقوم بكل إحتياجاته ، ومِمَّا تَجدُرُ الإشارةُ إليه أنها صنعت لطريح الفِراش (عَبِد هين) سرير خاص من الحطب تضع عليه فراشه الذي تُحَتِمُ عليها حالةُ عمها الصحية أن تغسله يومياً وأستمر الحال طيلة ثمان سنين لم تقصر في يوم من الأيام ولم تشكو بل كانت إبنة بارّة بعمها الذي هو بمثابة والدها حتى وافته المنية عام 1945م .
في عام 1953م حدثت المفاجئة عندما جاء الأخ الشقيق للأم (رِيزا / مريم) وهو (توما ) من س
0 comments:
إرسال تعليق