مِنْ طِينِ العِراق
جَبَلَ اللهُ آدَمَ
ونَفَخَ في أنفهَ نَسَمةَ حَيَاةٍ
" فَصَارَ ادَمُ نَفْسًا حَيَّةً" ( تكوين ٢ : ٧)
فَدَعُيَ إلى الوُجُودِ
بعدَ أنْ سَرَى
نَبَضُ الرُّوحِ في عُروقِهِ
فعاشَ معَ زَوْجَتهِ حَوَّاء
الْمَخْلُوقَةِ مِنْ ضِلْعهِ ( تَكْوين ٢: ٢١- ٢٢)
في جَنَّةِ عَدْنٍ بالعِراق ( تَكْوين ٢: ٨)
يُِسقيها نهرًا
ينقسمُ إلى أَرْبَعَةِ رؤوسٍ:
دِجلَةُ (حدّاقال) الجاري شرقيّ آشور.
والفُرَاتُ.
وفيشون وجيحون - وقد اندثَرا- ( تَكْوين ٢: ١٠ - ١٤)
لكَنَّ آدَمَ العِراقي وزَوْجَتهُ الْعِرَاقيَّةَ
اِرْتَكَبَا أوَّلَ خَطِيئَةٍ في الخَلِيقَةِ
في رِبوعِ العِراق ( تَكْوين ٣ : ٦)
غيرَ أَنَّ اللهَ الخالقَ
لَمْ يلعَن الإِنسانَ
بَلْ لعَنَ الأرضَ. "ملعَونةٌ الأرضُ بِسَبَبكَ"( تَكْوين ٣: ١٧).
كما أَنَّ ابنهمُا قايين
قَتَلَ أخَاه الأصغر هابيل ( تَكْوين ٤: ٨)
بِسَبَبِ الغَيْرَةِ وإِرضاءً للذّاتِ المُتَغَطْرِسَةِ!
فكَانت أوّلَ جَرِيمَةِ قَتْلٍ في التَّأريخِ
تحّدثُ عَلَى أرضِ العِراق أيضًا!
************
أجَلْ في البَدْءِ كَانَ العِراقُ
ومِنْ أرْضِهِ خُلَقَ الإنسانُ الأوّلُ
فكَانَ الشَّقَاءُ والغَمُّ!
ربَّما لأنَّ اللهَ ومُنذُ البَدْءِ
لَمْ يُنفق الكثيرَ
من طِينِ السَّلامِ عَلَى بَلدٍ
جَبَلَ مَنْهُ جَبلتهُ الأولى.
*********
في البَدْءِ كَانَ العِراقُ
فكَانَ إبراهيم أبو المؤمنين
في أوَرِ الْكَلْدَانِيِّينَ ( تَكْوين ١٥ : ٧).
فهي مَسْقِطُ رَأْسِهِ.
إبراهيم كَانَ مُبَارَكًا مِن الله( تَكْوين ٢٢: ١٧-١٨).
ومَعْلُومٌ أنَّ إبراهيم المؤمنَ
وَجَدَ في رِحَلةِ الإِيمَانِ
ما هو أهمُّ وما هو أَوْلَى وأَبدَى
مِن قَرَابَةِ الدَّمِ والّلحْمِ والأرضِ
وأنَّ إيمانهُ مُقاسٌ بِوسعِ ذَاتهِ
وذَاتهُ أكثرُ اِتّسَاعًا
مِن أنْ يَحْتَوِيهَا القَلِيلون
حَتّى لَو كَانوا مِن الْأَقْرَبِينَ والأحِبَّةِ
فنَفى مِن قَلْبهِ الحِسَّ العَشَّائريّ
والاِنْتمَاءَ الْقَبَلِي والتَّعَصُّبَ الْعِرْقي
وَسَائرَ أَشْكَالِ التَّعَصُّبِ الْقَومِي والدّيِنيّ
مُبتَعدًا عَن التَّمْيِيزِ العُنْصُريّ
دُونَما نِسْيانِ الفرّادةِ والْخُصُوَصِيَّةِ
فاِنْطَلَقَ رَاحِلاً مِن أوَرِ الْعِرَاقيَّةِ
حَامِلاً مِشْعَلَ التّوْحِيدِ
نحوَ شُموليّةٍ أَوَسَعَ
وبِرِسَالَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ وَسَمَاوِيَّةٍ
لَيْسَ للْبُلْدانِ الْأُخْرى
أنْ تُنَافَسَهَ في عَراقتِهَِا
وأَصَالَتِهَا وَعُمْقِهَا وتَنَوُّعِهَا.
*********
رحَلَ قايين عن أرْضِ العِراق
وسَكَنَ في أرضِ نود
شرقي عَدْن ( تكوين ٤ :١٦).
بعدَ أنْ اِستَهانَ بدمِ أَخيهِ
ثُمَّ بنَى أوّلَ مَدِينَةٍ في التَّأريخِ
عُرِفْت باسمَ ابنهِ البِكْرِ حنوك ( تكوين ٤: ١٧).
قايين هو أوّلُ عراقيٍّ مُتَغَرّبٍ
وأقدمُ رحّالةٍ موثّقٍ
في تاريخِ الاغترابِ الرَّافدينيّ
يليهُ إبراهيم عَلَى الصَّعِيدِ الإيمانيّ
ثُمَّ إنكيدو وكَلكَامش
عَلَى مُسَتوًى حَضَاريٍّ.
فمَنْ يدري لَعلَّهم
غَرَسُوا فينَا بِذورَ الغُربةِ
وظَاهِرِةَ الْهِجرِةِ والتَّرْحَالِ
التي أصبحت مُلازِمةً لنَا
وداخلةً في تَكْوِيَننا الْحَضَارِيِّ كعراقيّينَ
على ممرِّ الْعُصُورِ،
فالعِراقيُّ مُنذَ القِدَمِ
نجدهُ تارةً في الطَريقِ
وتارة أُخرى يبحثُ عَن طريقٍ
للحفاظِ عَلَى الحَياةِ قَدرَ المُمْكنِ.
*********
في البَدْءِ كَانَ العِراقُ
فكَانت مَلْحَمَةُ كَلكَامشِ
وبَطَلُهَا إنكيدو المُعلِّمُ
ففي المَلْحَمَةِ أعتقُ حَضَارَةٍ
كَانت بوَاكيرَ الفِكْرِ والحَرفِ
لِيبزغَ مِنْ الإنسانِ الرَّافِدينيّ
فَجْرُ الْكِتَابَةِ والتَّدْوين والعَلمِ
فأَوَفْدَهَا إلى الإِغْرِيقِ والشَّامِ
وبِلَادِ وَادِيَ النّيلِ
لتَسِيرَ الشُّعُوبُ على خُطاه
فعرفوا الْيَرَاعُ والْابْدَاعَ والامْتَاعَ.
فمَا بَالُهُمْ اليوم سَاسةُ بَلدي
مُنْصَرِفِينَ للْفَسَادِ والْقَتْلِ
يَتَغَنَّوْنَ فقط بأمْجَادِ حَضَارَتيّ
كَطَفِلٍ تُدَغدَغَهُ مُهودُهُ الْمُرِيحَةُ
كَأَنَّهُمْ لا يُرِيدُونَ لَنَا
أنْ نكَونَ بُناةَ الحَضَارَةِ المُعاصَرةِ
لَعَلَّهُمْ نَسُوا أو تَناسَوْا
أنَّ العِراقَ ليسَ مِنْ مُحبّي البَقاءِ
مَتَاحفَ جَميلَةً ومَخْطُوطاتٍ نَفِيسَةً
وآثارًا خالدةً ومَلْحَمَةً تَأرِيخِيَّةً
يَغِلبُ عَلَيْنا الطَّيُّ والنّسْيَانُ.
*******
رغمَ الْخَطِيَةِ والْمَوْتِ والتّرْحَالِ
لكَنَّهُ وَطَني لَمْ يُهَيَّأْ نَعشُهُ
إذ تشبَّثَ بالحَياةِ
خَشْيَةَ أَنْ تَفلتَ مِنْ بينِ يَدَيهِ
فرَاحَ يَرطُمُ الغَيْمَ بالغَيْمِ
حَتّى هَلَّ الْمَطَرُ
قَطرَةً ...قَطرَةً
فعُني العراقيُّ القَديمُ بالْعُمْرَانِ
بَانِيًا مَعالِمَ تُقِيمُ للحَياةِ وَزْنًا
مُشيّدًا الزَّقُّوراتِ والْمَعَابِدَ والْمُدُنَ والْقَنَوَاتِ
أكثر ممّا شَيَّدَ المدَّافِنَ.
بَيْنَمَا المصريون
اهتَمُّوا قَدِيمًا
بِتكْريمِ الْمَوْتى
وما الأهرامات،
سِوى مدافنَ أُريدَ بِها
تكْريمُ الميتِ وتَخْلِيدهِ.
فمالهُ العِراقُ الْيَوْمَ
يتَدثَّرُ بِعَبَاءةِ الْمَوتِ؟!.
********
في البَدْءِ كَنتَ أنتَ يَا بلدي
هِبَةً جَميلَةً للوُجُودِ
ولَمْ يَكَن بَلدٌ سِوَاكَ
فما بَالُكَ يَا باكُورَةَ الْبُلْدانِ
أشْقَيتني في غُربتي وأبّكَيْتَني
فسَالَتْ مِنْ عَينيّ وتَدَفَّقتْ أدمعي.
فأيُّهَا الْوَطَنُ المُتْعَبُ والمُتعِبُ
مُنذُ فَجْرِ التّكْوينِ
وأرْضُكُ ملطَّخةٌ بالدِّماءِ
فنحنُ العراقيين
لاَ نَحتاجُ إلى مُنَاسَبَةٍ حَزِيِنةٍ
كَمَقتلِ هابيل
أو صَلَبِ السَّيّدِ الْمَسيحِ
أو اِستِشهادِ الإِمامِ الحُسينِ
أو إلى اِسِتِعمارٍ مغوليٍّ أو عثمانيٍّ
أو حاكمٍ طَاغُوتٍ كصدّامْ
أو إلى اِحْتِلالٍ عَسْكَرِيّ
من قِبلِ الأمريكيّ والأعجميّ
لنَسِيرَ في دُرُوبِ الجُلجُلةِ
فحَيَاتُنَا مُنذُ بَدْءِ التَّكْوِينِ
إلى يَوْمِنَا هَذَا
كَانت صَلْبًا واِستِشهادًا ومَوْتًا!
فقد اِعتدنا غَمسَ
الْيَرَاعِ بِمحْبَرَةِ الدَّمِ
لنَكْتُبَ معلَّقةَ السّلَامِ
بِقلمِ الْحُرُوُبِ الطَّوِيلَةِ
ونُرَتَّلَ أناشِيدَ الْفَرَحِ
بِحناجرَ مِلْؤهَا الفَجِيعَةُ!
فإنْ كَانَ السَّيّدُ الْمَسيحُ
قد دَحْرجَ حَجَرَ القبرِ الثَّقِيَلَ
وقَامَ في اليَوْمِ الثَّالثِ
غيرَ أنّي لَمْ أعُدْ أرَى
بَصِيصَ نُورٍ يُبَشّرُّ بِقيَامَتكَ
إلّا أن اِسْتَحالَ الْمُسْتَحِيلُ!
لكَنَّي لن أرثيكَ يَا بَلدي
فالرِّثاءُ لا يجوزُ فيكَ
ومُنذُ مَتَى رَثْى التُّرابُ الأَرْضَ؟!
فقط سألُتُ المُعينَ عَوْنًا
لَيُهَوِّنَ عَلَيْكَ مَتَاعِبَكَ
ويقُولَ " ليكنْ نورٌ"
على أرْضِكَ الخِرِبَةِ
فمُنذُ التَّاسعِ مِنْ نَيْسَانَ
حَلَّ فيكَ غُرُوبٌ مُظلِمٌ
لَمْ تُشْرقْ مِن بَعْدهِ شَمْسُكَ!!.
---------
0 comments:
إرسال تعليق