(إن المحبّة لا تفشل أبدًا أما الكراهية فهي تفشل كل يوم)
فيليب سالم: «رسالة لبنان ومعناه»
يطلّ على العالم من شرفة منزله الأبويّ في بطرّام، حيث يرى الدنيا كلّها بين يديه وملك يديه، ويصبح البدر في هدأة الليل ذلك الساحر الغريب، وتُكْمِلُ النجوم صورة المشهد الذي يغرق في الرومنسية والحنين، ويدعو إلى التأمل حتى إِغفاءة العين المبهورة بجمال المكان وعبق زيتونه الأخضر!
هو فيليب سالم يتفرّج على الدنيا بكل أسرارها ومفاتنها، يسرّح نظره بين جبالٍ وسهولٍ وشجرٍ، وتأخذه نشوة حلمه الكبير إلى جبل الأرز، جار الكورة وصديقها الأبدي... يتكاملان جمالاً وإبهارًا، ويعزفان معًا نشيد الخلود في وطن المحبة والإبداع.
قصة فيليب سالم الطبيب العالم والمثقف العالم والمفكِّر السياسي والاجتماعي... هي إحدى قصص الإِبداع اللبناني المتميِّز. هي قصةٌ تَكبُر وتتمدّد كلما ازدادت عطاءاته وإنجازاته الطبيّة والإنسانية والفكرية.
* * *
في خمسين عطائه، كم تبدو تضحيات وإنجازات البروفسور فيليب سالم الطبّية والإنسانية والفكرية كبيرة وعظيمة. هو رجل محبّة ووطنية واندفاع من أجل المرضى والمحتاجين. عالمي المعرفة وواقعي الرؤية في دعواته المتكررة من أعلى المنابر الدولية، كما في كتاباته، لإنقاذ الإنسان من المرض. الحرية والديموقراطية والحقّ في العمل قضايا ضرورية وأساسية، لكنها تبقى دون معنى إذا لم تتوّجها الأمم المتحدة ودول العالم بقرار جريء يقضي بإعطاء الناس الحقّ في الصحّة... أي الحقّ في الحياة أولاً وقبل أيّ أمرٍ آخر.
البروفسور سالم طبيب أفنى عمره في معالجة المرضى مفتشًا وباحثًا ومتقصيًا عن دواءٍ شافٍ لمرضى السرطان، الذين غمرهم هذا الطبيب الإنساني الرائع برعايته وعطفه وحنانه وبراعته...
وَلَئِنْ كان أصدقاؤه ومحبّوه الكثيرون، المقيمون منهم في لبنان أو المنتشرون في أقطار العالم وأصقاعه، أرادوا تكريمه بمناسبة مرور خمسين عامًا على ممارسته رسالة الطبّ، فلأنه رجلٌ يستحق التكريم. والطبيب الذي يعمل ويضحّي بوقته وعمره وحياته من أجل إنقاذ مريض، يرتقي إلى مستوى عالٍ من الإنسانية والمسؤولية، كطبيب وإنسان.
لكن الطبيب المتواضع لم يسعَ يومًا وراء تكريم، وهو يؤكد كل يوم أن «التكريم الأحبّ إلى قلبي هو شفاء مريض، وهو تكريم من الله». وهو القائل أيضًا «كنيستي هي عيادتي، وعملي هو صلاتي، وأكون أقربَ إلى الله عندما أكون في عيادتي وبالقرب من مريضي».
ويتابع قائلاً: «هذه هي كنيستي، هنا أصلّي طول النهار وصلاتي هي مشاركة المرضى في آلامهم وعذاباتهم، وبعث الأمل والحياة فيهم. هنا رهبة المسؤولية، مسؤولية الحياة والموت. وهنا رهبة القداسة، إذ إن القداسة تكون في الإرتقاء إلى فوق، بأن تنسى من أنت ومن تكون، وأن تعمل من أجل الآخرين. بأن تذوب الأنا وأصبح أنا انت».
* * *
هذا الطبيب الباحث، المفكِر، والمحبّ لمرضاه وللناس، لم يعد صدره يتّسع لأوسمةٍ، ولا وقتُه لمناسبات تكريم. لكنه لا يبخلُ بكل وقته وطاقاته لانقاذ مريضٍ، أو لمناقشة أفكار في البحث العلمي، او الفلسفة. وصولاً إلى خطبه واقتراحاته العلمية من اعلى المنابر الدولية، وأبرزها اقتراحه بـ«الحق في الصحة».
والبروفسور سالم يرى أن «ليس هناك حقّ من حقوق الإنسان أهم من حقّه في الصحة، لأن الصحّة هي المدخل إلى الحياة. من دونها لا تكون حياة. ومن دون الحياة لا تكون هناك حقوق. من هنا اقترحنا على الأمم المتحدة، ونحن نعمل معها جاهدين لتعديل المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتقول بالحرف ما يلي: إن أهم وأقدس حقّ للانسان هو الحقّ في الحياة. وهذا الحقّ يعني بالعمق الحقّ في الصحّة. لذلك وجب على جميع حكومات الدول تأمين الرعاية الصحّية والطبابة لكل مواطن فيها».
لكل هذه الأسباب يرى البروفسور سالم أن الطب هو أقرب ما يكون إلى القداسة لانه يؤمن بعظمة الحياة وضرورة الحفاظ عليها وبعظمة الإنسان. ويقول: «أنا أرى أن الطبيب بمرتبةِ المترهّب أو الكاهن، فنحن نكمل بعضنا البعض الآخر، ونحن الأقرب إلى الله. وهذه عظمةُ الطبّ». ويضيف في مكان آخر: «الطبّ ليس علمًا وحسب بل هو علم وفعل إيمان بمحبة المريض ومنحه الأمل، وأن المريض هو المقدَّس وليس الطبيب».
يعطي البروفسور سالم أهمية قصوى لمحبة المريض ويرى أن المحبة تلعب دورًا أساسيًا في شفائه. ويؤكد «أن الطبيب الذي لا يحبّ مريضه لن يتمكن من شفائه. فالمحبة تَصْهَرُ الطبيب والمريض في عناق دائم، ومن دونها لا يتمكن الطبيب من معرفة المريض كإنسان...».
* * *
وكما في الطب، كذلك في الفلسفة والفكر السياسي. يطرح سالم أفكارًا وفلسفات متقدمة في الديموقراطية والحرية. يحمل مبضع الجرّاح القادر على استئصال الأورام السياسية تمامًا مثل استئصاله الأورام السرطانية. هو ينظر إلى أزمة الديموقراطية والحرية في العالم العربي من منظار ناقد ومعنِّف لممارسات الحكام العرب «حكّام يتكلمون على الوطنية وهم يستعملون الوطن سلعة لمصالحهم الشخصية». ويرى أن أزمة الديموقراطية والحرية في هذه المنطقة هي أزمة تاريخية مستعصية. وان العرب هم الجهة الوحيدة في العالم التي عجزت عن تطوير أنظمتها... ومن غير الممكن ان يحقّق العرب أي نهوضٍ أو تقدّم قبل توجههم نحو بناء مجتمع حرّ.
ويقول سالم إن الانطلاقة في لبنان ودول المنطقة يجب أن تبدأ من الجامعة ويؤمن بأن «جامعاتنا إن لم يكن فيها بحث علمي وحرية أكاديمية في مجال البحث العلمي، سوف تبقى مجرّد مدارس بسيطة، لا قيمة لها، ولا وجود لها في العالم، ولا تأثير لها في مجتمعاتنا كونها لا تستطيع إحداث أي تغيير جذري فيها».
* * *
«لو لم أكن لبنانيّا لما كنتُ مَنْ أنا». لو لم يكن لبنانيًا، لما شكّل فيليب سالم هذه الظاهرة العالمية المنفتِحة على الدنيا بكل المقاييس والرؤى.
وهذا الإيمان بلبنان الوطن والإنسان، دفع فيليب سالم إلى دعوة الطلاب الخريجين إلى الثبات في محبة لبنان مثلما هو ثابت في محبة أهله.
يقول: غريب هذا اللبنان، كم زرعنا فيه من الحقد وهو لا يزال غير حاقد علينا، حاضرًا دائمًا ليضمّنا إلى صدره. فتعالوا نضمّه إلى صدرنا. إذهبوا واعملوا وازرعوا الأرض. وإن تركتم لبنانكم، خذوا معكم حفنة من ترابه لكي لا تنسوا من أنتم ومن أين أتيتم، ومن هم أهلكم، وأيّ أرضٍ في الأرض هي أرضكم. وتذكّروا دائمًا أن هذه الأرض هي وحدها من بقاع الأرض كلّها تغفر لكم وتشتاق دائمًا إليكم. فاثبتوا في محبّتها كما هي ثابتة في محبّتكم.
* * *
مثلما أحبّ فيليب سالم ضيعته بطرّام (الكورة) وأرضها وزيتونها، وصنوبرات بيته الدهرية، وحجارة منزله التراثي في القرية الوادعة، أحبّ الناس، واعتاد ضمّهم إلى صدره الواسع بمحبته اللافتة والصادقة...
في لحظة تأمل، وفي لقاء مع أصدقاء بمناسبة الأعياد، قال سالم: لا أريد أن أعيش إلى يومٍ لا يعود فيه من وجود أساسٍ للقلب، فنخسر الإنسان فينا، ويعمّ الظلام!
في خمسين عطائه يكرّر فيليب سالم: «الشكرُ الكبير للّه الذي جعل منّي طبيبًا أعالج المصابين بالأمراض السرطانية. كم كان هذا شرفًا عظيمًا لي. خمسون سنة في حوار يومي مع المرضى والموت، فتجذّر إيماني بجمال الحياة وعظمتها.
إنه الطبيب الذي يؤمن بالمحبة طريقًا لقهر الألم وإحياء الأمل!
* * *
فيليب سالم تعلّم من الفراشات وهي تطير في دنيا الله الواسعة، كيف تكون الأحلام الكبيرة... وكيف تتحقّق!
*مقدّمة كتاب (البروفسور فيليب سالم: خمسون عاماً في خدمة الإنسان)
إخراج وتنفيذ: مطابع معوشي وزكريا
________________________________________________________________
كلام الصور:
البروفسور فيليب سالم و أسعد الخوري
منزل سالم في بطرّام
0 comments:
إرسال تعليق