تحكم الإجراءات المتبعة في التعامل مع الفايروس والحد من انتشاره فكرتان أساسيتان، الأولى الفردية المطلقة، وهذه الفردية لبّ الفلسفة الحديثة التي عرفت عند مفكري عصر التنوير الأوروبي، بما تعنيه من حرية شخصية بجوانبها كافة، فقد جاءت الإجراءات الصحية المصاحبة للفايروس للقضاء على كل المظاهر غير الفردية في المجتمع، سواء التجمعات السياسية الاحتجاجية، فمثلا مع اقتحام الفايروس الحياة العالمية توقفت مظاهر سياسية كثيرة كان لها الصبغة الجماهيرية، فتوقفت في فرنسا احتجاجات السبت الغاضبة، وفي العالم العربي توقفت احتجاجات الجزائر وتوقفت احتجاجات لبنان، وصار المتظاهرون أكبر المخترقين لإجراءات الحظر الصحي، وبالتالي فهم الوسيلة الطبيعية في هذه الحالة لانتشار الفايروس والتسبب في تفشيه بين الناس، ولذلك سيصبحون مسؤولين أخلاقيا أمام المجتمع ويروّج أنهم ضد المصلحة العليا للوطن والمواطن؛ فهم يوفرون فرصة مجانية للإصابة بفايروس صُنف على أنه خطير ومميت، ولذلك عليهم ألا يتظاهروا حماية لأمن المجتمع الصحي أولا كما كان يردد المسؤولون أو بعضهم.
على ما يبدو كانت هذه ذريعة فقط لمنع التظاهر ضد السلطة الحاكمة في تلك البلدان؛ فقد عملت السلطة الفلسطينية مثلا على إقامة مهرجان الأغوار في ذروة انتشار الفايروس، ولم يتحدث المسؤولون ولا وزيرة الصحة عن خطر التجمهر، وصمت الإعلام السلطوي عن ذلك صمتا مطبقا، بل إنه احتفل بالمهرجان اختفالا بطوليا وطنياً، وكذلك فعلت السلطة أيضا عندما سمحت بفتح المحلات التجارية في المدن عشية الأعياد ليتزود الناس بالبضائع، وكان الناس بالآلاف دون أخذ قواعد "التباعد الاجتماعي" والإجراءات الصحية الوقائية من ارتداء الكمامة والقفازات بعين الاعتبار. وليس في فلسطين فقط، بل دعا "حفتر" في ليبيا الناس إلى التظاهر ضد حكومة "السراج"، وعندما تذرعت حكومة السراج بالفايروس وانتشاره، انتقدها الإعلام العربي التابع لحفتر.
ربما يستشف المرء في هذه اللعبة مقدار التلاعب في عقلية الجماهير التي أرعبها الإعلامُ وخوّفها من خطورة الفايروس، بحيث صار من الكبائر الاجتماعية المصافحة والعناق والتقبيل، تلك المؤشرات التي كانت تدل على المودة والمحبة بين البشر. وهي من طبيعة تكوينهم وهي مظاهر تكاد تكون فطرية للتعبير عن الحب، أراد المتحكمون بالعالم نسفها والتخلص منها، تحقيقا لموضوع الفردية، يحميها هذه المرة قوانين "التباعد الاجتماعي" و"الحجر المنزلي"، وعدم إقامة الصلوات الجماعية لا في المساجد ولا في الكنائس.
إن ما يتعلق بموضوع الدين يجب ألا يُفهم أنه حملة ضد الدين الإسلامي وشعائره فقط، لأنه الدين الإسلامي، بل جاءت الفكرة مؤكدة فردية العلاقة الدينية بين الإنسان وخالقه وما يعتقده، سواء أكان مسلما أم مسيحيا أم يهوديا أم بوذيا، فالمسألة هي الفردية، بمعنى عليك أن تمارس حياتك الدينية وطقوسك وحدك، وليس بشكل جماعي، وهي فكرة تنويرية فلسفية، تعترف بها العلمانية الغربية، ولا تحاجج بها، ولكنها ترفض لأي دين أن يكون له مظاهر في المجتمع، فجاء الفايروس وكان الذريعة القوية لتحقيق الفردية في العبادات، بل عندما سمح بفتح المساجد والكنائس ودور العبادة الأخرى تحت ضغط الشارع أو الانتقادات التي صارت تخرج بين الفينة والفينة أكدت الحكومات التي سمحت بذلك إجراءات "التباعد الجسدي"، وأن يكون لكل شخص مسلم سجادته مثلا، وعدم المصافحة، وما إلى ذلك من إجراءات كانت تتم بين المؤمنين في دور العبادة. لقد دفع ذلك، وربطا بموضوعات وإجراءات أخرى، بعض العلماء المسلمين إلى أن يتراجعوا عن فتوى إغلاق المساجد، لأنها أصبحت فتوى لا قيمة لها، وهم يرون اكتظاظ الناس في الأسواق والمهرجانات الوطنية وفي الأعراس وفي بيوت العزاء وجاهات الصلح العشائرية التي لم يلتزم فيها الحاضرون بتلك القواعد الصحية الوقائية العامة، وتحدث تحت سمع الحكومة وبصرها.
لقد قبلت الحكومات على مضض فتح المساجد ودور العبادة كافة، ولكنها حاولت إفراغ العبادة من روحها الجماعي، فصار المصلون في الجامع يصلون وهم فرادى وانكسرت اللحمة المعنوية التي كانوا يستشعرونها وهم يصلون، في تراص الأجساد وأن يكون الكتف على الكتف وألا يكون فُرْجة بين المصلي والثاني. لقد أحدث الفايروس والإجراءات الإعلامية شرخا نفسيا في نفوس المصلين، وربما صار شعورهم بأنهم يصلون جماعة أقل من السابق، فهم ليسوا إلا مجموعة أفراد لا لُحمة مشاعرية ودينية بينهم، يجمعهم مكان عام يصلون فيه وينصرفون دون أن يصافح بعضهم بعضا ودون أن يقتربوا. هذه خطوة مهمة لتحقيق الفردية التي ناضل من أجلها الفلاسفة والمفكرون، ويريدون تسريعها، ليصبح المجتمع مجموعة أفراد لا علاقة تربطهم معا، وبذلك سيكون هناك سيطرة على العالم بطريقة أفضل، وتحول الناس فقط إلى مستهلكين وهم في بيوتهم، أي أنهم يبغون تحويل الناس إلى حيوانات مرفهة ليس أكثر.
في واحد من الإعلانات التي بثتها فضائية عربية واسعة الانتشار في الفترة الأخيرة، رجل يلعب بهاتفه الذكي، تناديه زوجته دون أن تظهر أن الحليب (طعام صغيرهم) قد نفد، فما كان منه إلا أن يطلب الحليب عبر تطبيق في جهازه ليأتيه بالحليب ثم غيره وغيره، وهكذا. ليكون التعميم في نهاية الإعلان أن كل شيء سيأتيك وأنت في بيتك. وهذا بطبيعة الحال ليس الإعلان الأول الذي يوفر كل ما يحتاجه الفرد، ليصله إلى بيته ودون أن ينتظر طويلا.
تعكس هذه الإعلانات سلوكا اقتصاديا محددا أنتجه إعلام الفايروس المخيف، اقتصاد ترفيهي يلبي احتياجات الأفراد وهم في بيوتهم، فلا داعي ليخرج أحد من البيت ليحضر تلك الاحتياجات ثمة من يوفرها لنا. اقتصاد يتحول الفرد فيه إلى مجرد حيوان مرفّه مستهلك ليس أكثر.
هذا طرف معادلة يظهر فيها الفرد المستهلك، أما الفرد المنتج فقد تحكمت فيه (التكنولوجيا) وهذه هي الفكرة الثانية التي استند عليها القائمون على التخويف من الفايروس، وقد سرع هذا التخويف من حضور التكنولوجيا في حياة الأفراد، وربما أكثر ما تحرص عليه التكنولوجيا مذ وجدت وحتى انتشارها هو ترسيخ الفردية، فقد حولت الأجهزة الذكية وتطبيقاتها الناس إلى مجرد كيانات فردية منفصلة فثمة حسابات خاصة تراعي الخصوصية، ويعد انتهاكها جريمة، وحولت تلك التكنولوجيا التواصل الاجتماعي إلى تواصل افتراضي عبر الصوت والصورة والكلمة، وإن بدا أحيانا أن هناك اجتماعات بين مجموعة مشتركين إلا أنها ستظل اجتماعات "عن بعد"، وتحقق الفردية، فلكل فرد في الاجتماع منظومته الخاصة فيه وشاشته وحيّزه المكاني، ويبدو منفصلا فيه افتراضيا عن الآخرين ليكون الاجتماع هو اجتماع لمجموعة أفراد يناقشون أمرا ما، سيكون هذا الأمر حتما أمرا فرديا ويرسخ الفردية، انطلاقا من ظرف الاجتماع الذي جمعهم معاً. فلن تكون مخرجات تلك الاجتماعات إلا مزيدا من ترسيخ الافتراضية المعتمدة على التكنولوجيا، ومزيدا من ترسيخ الفردية المنغلقة على الذات أكثر من قبل.
لقد بدأ فعليا تطبيق التكنولوجيا وعلى نطاق واسع في المجتمع ومن كل أفراده، ليس في الترفيه وتزجية وقت الفراغ وفي الاقتصاد والاستهلاك فقط، وإنما امتد ليشمل التعليم الجامعي والتعليم المدرسي، وهذان النظامان أكثر نظامين يحطمان الفردية في المجتمع، ولأجل ترسيخ الفردية في المجتمع تحت ذريعة انتشار الفايروس، تحول التعليم إلى تعليم إلكتروني و"عن بعد"، وصار التحول سريعا في فلسطين مثلا وخاصة التعليم الجامعي، فلم يعد هناك قاعات درس ولا اجتماعات ولا لقاءات وجاهية، وهذا يعني أيضا سياسيا أن هذه الفئة من الشباب التي كانت تقود الاجتماعات والمظاهرات تمّ تفكيك منظومتها وتحييدها بعد أن صارت تمارس حياتها التعليمية والسياسية افتراضيا، بعيدة عن أرض الواقع والاشتباك مع الحكومات.
أما التعليم المدرسي فهو المعضلة الحقيقية في فلسطين على سبيل المثال وغيرها من المجتمعات الفقيرة، وذلك أن تلك المجتمعات، ومنها المجتمع الفلسطيني غير مهيأ لمثل هذا النوع من التعليم، ويقتضي "التعلم عن بعد" أن يتعلم الطلاب من البيت، وأن يمارس حياته المدرسية افتراضيا ويحل واجباته افتراضيا، فلا داعي للذهاب إلى المدرسة، مع ترسيخ نظريات "تفريد التعليم" و"التعلم الذاتي"، وصارت إمكانية التعلم الإلكتروني تصل إلى 100% افتراضيا، وذلك حسب "الحالة الوبائية"، بمعنى التخلي عن "التعليم الوجاهي"، كما صرح بذلك وزير التربية والتعليم الفلسطيني.
تكمن المعضلة الكبرى في أنه لا تستطيع الأسر التحول إلى "التعلم عن بعد" أو "التعليم عن بعد" في ظل ما تشهده فلسطين من وضع اقتصادي منهار ونسبة بطالة عالية بين فئاته القادرة على العمل، وانقطاع الرواتب، بل محدوديتها في حال انتظامها، بحيث لم تكن تكفي للمتطلبات للكلاسيكية للأسر. إن "التعلم عن بعد" الذي تسعى إليه الوزارة عدا أنه يكرس الحالة الفردية للطالب بشكل عام، وينزع عنه الروح الجماعية التي كان يعيشها مع زملائه في الصف أو في المدرسة سيكلف الأسر فاتورة "تكنولوجية" باهظة، ستذهب أرباحها إلى المتحكم الرأسمالي في الحياة الاقتصادية في العالم. وسيكون لا مفر إذن من توفير الأسرة ما يحتاجه أبناؤها من تكنولوجيا، ومن لم يكن قادرا على ذلك، عليه أن يخرج من النظام التعليمي، ليكون التعليم مرة أخرى، بما فيه التعليم الأساسي حكرا على من يملك ثمن الأدوات التكنولوجية من (لابتوب) ومن شبكة (إنترنت) وخط هاتف، وهذه مؤشرات رفاهية تؤخذ بعين الاعتبار في إجراءات إحصاء السكان، وبذلك تتراجع مرة أخرى المجتمعات وتنتكس لتعاني من أميّات متعددة وليس أميّة واحدة.
ربما ليس بعيدا ذلك اليوم الذي لم يعد للمدارس أهمية لتظل تمارس رسالتها في حياة المجتمعات، ليتحوّل التعليم قضية فردية، ليست الحكومة مسؤولة عنها، ومن أراد أن يتعلم فإن (الإنترنت) موجود، فمن امتلك أدواته امتلك التعليم، وهكذا تتخفف الحكومات من مسؤولياتها أولا بأول لنشهد في المستقبل، ربما في أقل من عشر سنوات حكومة تدير الأفراد من مكاتب مجهولة لمجموعة الأفراد الموجودين في بيوتهم عبر أجهزة ذكية لا ترى فيها الناس ولا الناس يرونها، يتعلمون افتراضيا، ويتوظفون افتراضيا، ويعملون افتراضيا، وكل ذلك من خلال جهاز حاسوب أو هاتف ذكي موصولين بشبكة إنترنت.
وهكذا تصبح الحياة خالية مما يعكر مزاج الحكومات في سيطرتها على المجتمعات بطريقة ذكية ناعمة أولا بأول تحت ذريعة فايروس كورونا الذي وظفته الحكومات ليكون صمام أمام للرأسمالية المتغولة وللسيطرة على الجماهير بطريقة غير كلاسيكية، بل إنها حداثية وما بعد حداثية هذه المرة، وربما جاءت محاربة مراكز الرأسمالية في العالم للقاح الروسي ضمن هذا السياق، فاللقاح الروسي إن ثبتت فاعليته وأقبل عليه الناس في العالم سيقضي على حلم السيطرة والتشييئ وتفريد المجتمعات، فمن وقف ضد هذا اللقاح هو أمريكا ومن لفّ لفيفها من دول عربية وأجنبية، وتضامن معها موقع فيسبوك وحذف كل التدوينات المتعلقة باللقاح وحظر حسابات أشخاص أعادوا النشر حول اللقاح الروسي، كما جاء في خبر نشرته فضائية "روسيا اليوم" الإخبارية الناطقة باللغة العربية، فمحاربة اللقاح في ظني ليست من أجل السبق الطبي، والأرباح الاقتصادية المتوقعة، وإنما له تبعات في الانفلات من منظومة جديدة تحكم العالم بالتكنولوجيا عبر تحويلهم إلى كائنات فردية عديمة القيمة خارج هذه المنظومة المرعبة.
0 comments:
إرسال تعليق