من خلال جولتي في قراءة مجموعتي الشاعرة رندلي منصور ( بلا عنوان الصادرة عام 2013 من الدار العربية للعلوم ناشرون والتي تضم 79 نصا ) و( دوران الصادرة عام 2017 من دار ميرزا للطباعة والنشر والتي تضم 89 نصا) أجد نفسي منذ البداية أمام سؤال في عتبة مجموعتيها ونصوصها ، فرغم كون العتبات النصية هي نقطة عبور القارئ الى النص إلا أن الشاعرة تعمدت أن تقدم لنا مجموعتيها خالية من العتبات النصية لانها تريد من القارئ ان يكتشف هو بنفسه عتباتها .
ففي مجموعتها ( بلا عنوان ) تريدك أن تختار انت للمجموعة والنصوص عنواناً بما يناسب وقراءتك للأنا الجريحة ... وهكذا في مجموعتها (دوران) والتي تحاول أن ترسم حولك من خلال نصوصها (دورانها) شبكة عنكبوتية وأنت تجول بين طياتها ومن جراء ذلك عليك أن تضع لكل دائرة أو لكل نص عتبتها الإستهلالية لأنك ستتعامل مع قصائد تبدو الأجواء فيها قلقة غير مستقرة تتراقص وهي مشدودة للعلو بروح مفردات رومانسية تود الخلاص – الإفلات من الدونية السفلية – لذا جاءت نصوصها عبر سيل من التمني بالتحليق المتقارب . فلوحاتها الشعرية تفضي بنا إلى المزيد من الشّد النفسي للشكل المتحرك أمامنا وخصوصا في مجموعتها (دوران) .
عنونة المجموعتين ( بلا عنوان ـ دوران ) تُفضيان إلى تأويل افتراضي لحلمها المستقبلي الغامض ، فضلا عن كونها دالة على مفارقة تتبدى فيها تجليات الواقع المأزوم والهش، وفي إطار علاقة العنونة مع عوالم قصائدها يتبدى الحلم وكأنه يحمل ثنائية اللذة والضحية فهو يستعيد بهجتَه، ويتكىء على لغةٍ (ناعمة) تحتفي بالحياة والجسد والتفاصيل الأنثوية.
ففي مجموعتها الأولى ( بلا عنوان ) وعبر ما تكشفه من خلال رؤاها، ومراياها من هواجس وشحنات تُحيلها إلى فضاء شعري تتبدّى من خلالها ظاهرة شعرية لأناها والآخر، فتقترب شيئا فشيئا من الذاتي/ الطفولي والتأملي، وفي الوقت نفسه تحاول الإبتعاد عن كل ما يعكر صفاء حلمها فما كان لديها إلا أن ترسم لنفسها المزيد من الإستعارات بوصفها أقنعة للتستر، أو مرايا لتأكيد فاعلية الذات، من أجل ولادة مجموعتها الثانية (دوران ) هذا ما تعكسه لنا قصيدتيها ( 56) والتي تقول فيها :
أدورُ ، أدورُ ، أدورُ ،
أدورُ في مكاني ، أدورُ حول تفسي ...
أدورُ ، أدورُ ، أدورُ كأنني في إعصار !
أدورُ دون فلك ، أدور في العدم ...
وهكذا في قصيدتها(58 ، 76، .. ) والتي تقول في قصيدتها 58 :
وكأني حجر رميَ بهِ في الماء
فبدت نفسي مُبَعثرة
تحولتُ الى دوائر ، دوائر ، دوائر ...
وأنا مسجونة في داخلها
قصائد المجموعة الأولى ولدت لتهيئة الأجواء للولادة الثانية (دوران) والتي تشظت فيها دوائرها إلى مرايا متعددة بوصفها تعبيرا عن الفضاء الذي يستوعب العلامات المرآوية لأناها المتقمطة بحلمها الجميل لذا كان تشكلها في صورها التي تقترب الى حد ما من السردية ، تجعل حضور الشاعرة أكثر عبر ما تتركه القصيدة من تشظيات “الإستعارة والتشبيه وكما تقول في نصها ( الدوران التاسع والثمانون ) :
كنتُ أريد إستعمالَ الألوان لأكتبك
لكن الزمن كساها بالسواد ،
كنت أريد الزهور أوراقا تليق بأمنياتي لك ،
لكن الأقدار ألبستها الحداد
أن ثمة إشتغالاً في المجموعتين على نسق التمفصل الذي يرفع وتيرة النسق حرارة وجمالاً نصياً، فالنسق الشعري لديها نسق وصفي ؛ وشعريتها مولعة بتشعير الأنساق الوصفية ومن خلال فضاء متخيلها الشعري تخلق دهشتها وتتفجر طاقتها عبر لعبة الوصف، والتلمّس، وعبر إلتصاق القصيدة وملفوظاتها بهاجس الأنثى، تلك التي تحضرُ بوصفها صانعةَ اللذة، والمحفزَة على الرؤيا لصياغة وجدانها الشعري وكما تقول في القصيدة (1) من مجموعتها ( بلا عنوان) :
اليوم إستعدت أناملي الشعرية ،
أناملي ، طلاؤها حِبريّ ،
داكنُ اللونِ ،
صريحُ الكبرياء ،
بعد خمس نصوص وصفية من المجموعة ( بلا عنوان) تستنطق الشاعرة الآخر، وتحاوره، وحيث تبدو اللغة أكثر تَسوّغا لإستعمالِ الإستعارة الدالة على فعل اللذة الطقسية، وكما تقول في قصيدتها (6):
يحلو لي أن أناديك حبيي ...
في الفجر عند بزوغي ،
أنت كذلك ،
وحين أشرق في عينيكَ
أنت حبيبي
فكلّ قصائد مجموعتيها الشعرية( بلا عنوان ، دوران ) تعيش لحظتها الشعرية بوصفها خطابا في إستدعاء الآخر، عبر تمثلات صور حسية توحي، بدلالاتها، وعبر إلتصاقها بما تستنبته شفرات الآخر في أحلامها التي تُعيد إنتاج أناها الوجودي، وكأنه فارس أحلامها ... قصيدة (7) من ( بلا عنوان) :
قال : جميلة أنت كعطر الصباح
إبتسمت
حملت بيدها تفاحة
ألن تأتي ؟
تمثلات الشاعرة لفعل اللذة في الصورة التي ترسمها للآخر أو لنقل حلمها ، تجده أحيانا صعب إستعادته ، لذا تتحوّل الرؤيا لديها أحيانا الى هاجس ، والى مايشبه الإحتفال في أحيان أخرى وكما تقول في النص الدوران الأول من مجموعتها (دوران) :
لم أعرف ...
لم أعرف للقلق مكاناً قبلك ،
لم أدرك للخوف وجهاً قبلك ،
لم أشهر في حياتي توبة قبلك ،
لا لن أعرف ...
حيث تتسع دوائرها مثلما يتسع شغفها لإصغاء الآخر لتنهداتها، وحيث تتبدى الأصوات التي توهبها البهجة والنشوة، والتوتر فتضيع في إتساع دوائرها وكما في (الدوران الثالث):
أصاب بـ " سكيزوفرينية " عشقية
أتنقل بين الأنت والأنت
أتسكع ...
فيك ،
أجوبُ الأنت ...
بصورة عامة أستطيع أن أقول تتكئ الشاعرة رندلي منصور في قصائدها الشعرية على فضاء من الإستعارات التي تطوعه لتصنع منه مشهدها الشعري، مثلما تسعى الى تلمّس ما يتخفى من التصرفات للآخر الذي يهجس بها عبر رؤية تلتقطها عبر دوائرها التي يكونها الحدث حين يلامس إنوثتها مثلما يصنعها الحجر الذي يلامس سطح الماء فتدور في فضائها ، فتبدو هذه الدوائر ( النصوص ) وكأنها مرايا، تتسع لمرآى أناها المنطوية والقلقة التي ترسخت لديها في تجربتها الأولى (بلا عنوان) وكما في النص (21) من مجموعتها (بلا عنوان) حيث تصف الآخر بأوج الربيع :
خضرةٌ في عينيك
ماءٌ في شفتيك
إلا أنه سرعان ما يتبدد هذا الحلم فتعود لتقول في قصيدتها (34) من نفس المجموعة :
قف !
توقف ...
لم يعد قلبك موطني ،
لم يعد صدرك وسادتي ،
لم يعُد فراشك مضجعي ،
تواصل الشاعرة في رحلتها/ المناورة، تتقصى من خلالها سرائر الأحلام عبر ما يشبه السيرة الذاتية ، إذ تأخذها بواعث كتابة الشعر الى التأمل والمراقبة والحذر من الآخر في مجموعتها ( دوران ) عبر كتابة القصيدة المشهدية، حيث تبدو الكتابة فيها وكأنها حكايات مسكونة بتمثلات وجودية، تحضر فيها الشاعرة بوصفها الباحثة عن المعنى، والمشغولة بشعرنة التفاصيل، وكما في نصها (الدوران السادس ) :
لا ...لا لستُ فراشةً تحرِق جناحيها بنور ،
لا ولا إزميلَ نحتٍ تُغير به شكل الصخور ،
لا .. لا لستُ أغنية تحفَظُ وتردد على ضوء الشموع
لا ... ولا زيتا تضاءُ به القناديل ،
مهارة الشاعرة رندلي منصور في صياغتها الشعرية والعناية بالتصوير، تعكس تحولا مهما في تجربتها، وفي النظر الى الأحلام التي يتشكل منها مشهدها الشعري، المحمل بهواجس المرأة اليومي وكما تقول في نصها ( 41) من مجموعتها ( بلا عنوان ) :
تنتابني قشعريرة كلما مرّت أنفاسك على جسدي
تستيقظ مساماتي ،
تفكُ بها طلاسمي العشقية !!
أدخلُ معك دهاليزَ لم أرها قبلا ولم أعرف بوجودِها ،
لكني أتسكع بيم زواياها كأني ولدت ههنا ...
وهذا مايُعطي لقصيدتها خصوصية كونها أكثر إنحيازاً لقصيدة المشهد تلك، والتي تستدرج الشاعرة لإلتقاط هواجسها وإستحضار ماهو حسي في المشهد من علاقات وصفية أو دلالية، أو حتى تأويلية وكما في نصها ( الدوران السابع عشر ) من مجموعتها دوران:
أنا
مدينة الضباب ،
كثُرَ في الدخان ،
أعمدة أحزان ...
هذه الهواجس (الخوف من المجهول) تتحرك بالنيابة عن الرعب المتأصل في الذات المصابة بخوف مستديم طفوليا تتحرك هذه الهواجس بنقل الخطوة للخطوة (دائرة لأخرى) مكونا شكلاً مثيراً ثم تختفي فجأة وتتحول إلى أشياء تتراءى بقدر التخيلات المتحفزة في أعماق الذات كما هي رؤى الأحلام والكوابيس ، التي تتحسسها والتي تراها تدور في بؤرة الرعب على مسارها اليومي وكما تقول في نصها (الدوران الثامن عشر) من مجموعتها دوران :
ثقلٌ يجتاح أعماقي
كآبة تزلزل سكوني
سئمت الإحتضار الصامت ...
لمَ تُصلبُ على خشبة حُلُم
ومن دون وطن ؟!
تداخل الرؤية الحلمية بالواقع ، والحقيقة بالخيال، هذه الثنائيات التي تنطلق منها الشاعرة يعقبها موازنات سردية / حكائية تقيمها الشاعرة داخل النص ، لتنفتح من خلاله على أنا الآخر وكما تقول في نصها (45) من مجموعتها بلا عنوان :
اليوم أعدتُ عقاربَ الساعة الى الوراءِ
لكنك لم تأتِ
تغتالني الثواني شوقا
وتشتعل كل حواسي
يكويني الإنتظار
إلا أنها في مجموعتها دوائر تخوص الشاعرة في تداخلات دوائرها العميقة والمتشظية وهذا يتطلب منها ومن القارئ رؤية لفك شفراتها وقراءتها كما ينبغي . كما تقول في النص (الدوران التاسع والثمانون ) :
كنت أريدُ إستعمالَ الألوان لأكتبكَ ،
لكن الزمن كساها بالسواد
كنت أريد الزهور أوراقاً تليقُ بأمنياتي لك ،
لكن الأقدار ألبستها الحداد
متى أستطيع البوحَ بك في قصيدة حياة ؟!
وختاما أقول : أن شاعرية الشاعرة رندلي منصور تكمن في تدفق الصور والأفكار عبر نسغ القصيدة وإنتظام أنساق بنيتها الشعرية والأداء التعبيري ، فهي تميل الى إستخدام المفردات ذات العلاقة الوطيدة بحياتها اليومية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بحضور الآخر في حياتها إذ تمتزج المفردات بلغة مباشرة بعيدة عن المجاز وقريبة للفؤاد، مما جعلت الشحنات النفسية التي تحملها المفردة، تستخدم في سياق التمني والدعوة الى الصفاء ... فتشكيلها لتكوينات ملموسة من خلال المزج بين الصورة البصرية والصورة الحلمية ، أفرزت قصائد جميلة تتناغم بين عناصرها المتفاعلة عبر إيقاعاتها وبنائها الداخلي .
0 comments:
إرسال تعليق