بعد مضي 21 عاما على عودة الفرع الهونغكونغي إلى الأصل الصيني سلميا، بموجب صفقة بريطانية ــ صينية تم تطبيقها في اليوم الأول من يوليو 1997 ، لا يزال حراك الهونغكونغيين السلمي قائما من أجل الانفصال، أو التمتع ــ على الأقل ــ بحكم ذاتي أوسع بالمواصفات التي كانت معتمدة زمن الحكم البريطاني، بل يمكن القول إن هذا الحراك في تصاعد، فيما تحاول بكين معالجته بالمزيد من سياسات التعتيم وفرض القيود على وسائل الإعلام والتعبير عن الرأي، ومصادرة الكتب والمطبوعات. والشق الأخير هو مربط الفرس وجوهر النزاع بين الطرفين حاليا
والمعروف للجميع أن المفاوضات الفعلية المتعلقة بعودة هونغ كونغ إلي السيادة الصينية بدأت في الثمانينات يوم كان الصدام على أشده ما بين الشرق والغرب، والرأسمالية والشيوعية، والديمقراطية والحكم الشمولي. وقد اعتبرت بكين وقتها أن إعادة فرض سيادتها على المستعمرة البريطانية السابقة انتصار لها، خصوصا وأن البر الصيني كان متخلفا آنذاك بمراحل عن هونغ كونغ، صاحبة المركز المالي والسياحي النابض بالحياة والحركة والألق، بل قال معلقون كثر أن بكين انتظرت طويلا إلى أن دخلت الدجاجة التي تبيض ذهبا في قفصها. غير أن تلك الدجاجة سرعان ما تحولت إلى مصدر صداع يومي لها بسبب رفض الهونغكونغيين الرضوخ لإملاءاتها فيما يتعلق بالحريات التي اعتادوا عليها.
وعلى مدى العقدين الماضيين منذ عودة الجزيرة إلى السيادة الصينية، تحولت الأولى إلى نقطة إختبار لمدى قدرة بكين على الوفاء بوعودها التي قطعتها على نفسها أمام البريطانيين لجهة الإلتزام بمبدأ "وطن واحد ونظامان سياسيان"، أي عدم المس بوضعية هونغ كونغ الخاصة وما تمتع به سكانها على مدى 120 سنة من حياة متميزة وأوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية وحقوقية مستقلة. لكن يبدو أن بكين سقطت في الاختبار، لسبب واحد هو حساسيتها المفرطة من قضايا التدخلات الأجنبية والمس بوحدة البلاد وأمنها القومي. وبطبيعة الحال لم تكن مثل هذه القضايا واضحة، وقت تسليم بريطانيا للجزيرة إلى بكين، كوضوحها اليوم.
صحيح أن لندن استشعرت آنذاك حساسية بكين من نلك القضايا، بدليل خوضها لمفاوضات عسيرة في عام 1990 مع بكين حول المادة 23 من القانون الأساسي (الدستور المصغر) لهونغ كونغ، والتي أصرت بكين أن يتضمن حقها في تفعيل قوانين أمنية أوسع للحيلولة دون استخدام الجزيرة كقاعدة للتحريض ضد الحكومة المركزية في بكين، خصوصا وأن أحداث ساحة "تيان إن من" الدموية سنة 1989 لقيت تعاطفا قويا من الهونغكونغيين. غير أن الصحيح أيضا هو أن لندن رأت وقتها أن نصوص القانون الأساسي للجزيرة التي أعطت المحاكم المحلية سلطة التعامل مع أي خروقات أمنية ومواجهة أي جهة تقوم بالتجييش ضد الأمن والقانون والنظام كافية، مثلما كان الحال زمن حكمها للجزيرة. وقد أبقت بكين على هذه القوانين، لكن أضافت إليها، ووسعت من موجبات تطبيقها لاحقا.
ومن صور الإجراءات التي قامت بها، والتي فجرت غضب شعب هونغ كونغ وقوى المجتمع المدني ولجان الكنيسة الكاثوليكية في الجزيرة، ودفعتها إلى الشوارع في تظاهرات واحتجاجات ضخمة غير مسبوقة سنة 2002، القانون الأمني الذي اقترحته آنذاك إدار هونغ كونغ التنفيذية تحت قيادة أول حاكم صيني للجزيرة ( قطب الملاحة تونغ تشي هوا) ومررته بسهولة من خلال سلطتها التشريعية ذات الاغلبية الموالية لبكين، علما بأن هذا القانون الجديد المثير للجدل إشتمل على حزمة من المواد التي جرمت أعمال التحريض والفتنة والدعوة إلى الإنفصال والتظاهر ضد الحزب الشيوعي الصيني ودعم معارضي الأخير (مثل جماعة فالون غونغ الروحية)، مع تخويل الأجهزة الأمنية حق تفتيش المنازل والمكاتب واحتجاز المشتبه بهم وتشديد العقوبات بحيث تصل الى السجن المؤبد.
ومن هنا تزعم بكين أنها تطبق ما سنه البريطانيون قديما لجهة حماية مصالحهم وأمنهم الاستراتيجي، متجاهلة أهم ما ورد في مبدأ "بلد واحد ونظامان سياسيان" وهو أنه لا يحق لبكين أنْ تأمر فتطاع، وأنها يجب أنْ تراعي في ما خص هونغ كونغ مرئيات مواطنيها وطموحاتهم من خلال المؤسسات الدستورية وعلى رأسها مؤسسات القضاء المستقل.
في كتابهما "إعادة كتابة تاريخ هونغ كونغ" يتحدث المؤلفان: الناشط والوزير السابق "كريستيان لوه" و الأكاديمي البروفسور"ريتشارد كولين"، فيشددان على ضرورة أن يقبل الهونغكونغيين بواقعهم الحالي وأنْ يـُظهروا الولاء والإخلاص لحكام بكين، وأنْ يعملوا في الوقت نفسه على تحسين أوضاعهم عن طريق بناء الثقة بينهم وبين سلطات بكين، مضيفين أن مثل هذه الخطوات ليست عارا ولا تنتقص من وطنيتهم وحبهم لجزيرتهم المزدهرة، بل تؤكد عقلانيتهم وحرصهم على مواصلة طريق النمو والازدهار الإقتصادي في عالم مضطرب سياسيا واقتصاديا.
وبينما تستمر هذه المعضلة بين الطرفين ما بين شد وجذب، نجد أن مخاوف الهونكونغيين من إحكام بكين سيطرتها على جزيرتهم بصورة غير مسبوقة قد تضاعفت في الآونة الأخيرة على خلفية تنفيذ بكين لجسر عملاق يربط إقليم زهوهاي في جنوب البر الصيني بهونغ كونغ ومكاو. وعلى الرغم من أن هذا المشروع قد يصب جزئيا في صالح هونغ كونغ لأنه سيقلل من وقت الإنتقال والشحن بنسبة 60%، وبالتالي سيعزز الأعمال، إلا أن الهونغكونغيين سيجدون أنفسهم لأول مرة تحت رحمة الجغرافيا الصينية.
د. عبدالله المدني
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: يناير 2019
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh
0 comments:
إرسال تعليق