ما أعلنته حركة "طالبان" الأفغانية منذ أيام قليلة من مسودّة لاتفاق يهدف إلى إنهاء الحرب في أفغانستان، تمّ إعدادها أثناء محادثات أجرتها الحركة مع المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشأن الأفغاني زالماي خليل زاد، هو مفصل مهمّ في سياق الحرب الأميركية في أفغانستان التي بدأت قبل 17 سنة، وهي أطول حرب تخوضها الولايات المتحدة في تاريخها. فما نصّت عليه مسودّة الاتفاق يعني ضمناً قبولاً أميركياً بتسليم السلطة مستقبلاً لحركة "طالبان" وبسحب "قوات الناتو" من أفغانستان خلال 18 شهراً مقابل تعهّد "طالبان" بعدم السماح لأنشطة "القاعدة" و"داعش"، وأيضاً للمسلّحين الانفصاليين البلوش، الناشطين في جنوب غرب أفغانستان، من استخدام هذه المنطقة كمنطلق لهم في عملياتهم ضدّ باكستان المجاورة.
وهناك تجاهلٌ واضح في هذه المفاوضات الأميركية مع "طالبان" لحكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني الذي عبّر عن امتعاضه من الموقف الأميركي، ومن عدم مشاركته في المفاوضات، ولغياب التنسيق مع حكومته قبل إعلان نتائجها.
وما أعطى مصداقية لهذه الجولة من المفاوضات، قرار "طالبان" بتعيين الملا عبد الغني برادار كرئيس للوفد المفاوض منها، وهو أصلاً أحد المؤسّسين للحركة وكان معتقلاً في باكستان منذ عدّة سنوات، ولم تقبل كراتشي بتسليمه للحكومة الأفغانية إلى حين الإفراج عنه في شهر أكتوبر الماضي، وهو أمرٌ جرى حتماً بتنسيق مع واشنطن لكي يتمّ التوصّل إلى اتفاقيات تلتزم بها الحركة وتدعمها باكستان.
وواضحٌ في نصوص مسودّة الاتفاق، وبالمفاوضات نفسها، بأنّ واشنطن قد فشلت في إنهاء حركة "طالبان" بعد إسقاط حكمها في نهاية العام 2001، وبأنّ المراهنة الأميركية على إقامة "حكم بديل" يستقطب الأفغانيين ويعزل الحركة، لم ينجح رغم كل المحاولات والخسائر البشرية والمالية في حرب أفغانستان على مدار 17 سنة. وقد حاول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما تخفيض عدد القوات الأميركية في أفغانستان وتحجيم دورها العسكري ووضع جدول زمني لانسحابها، لكنّه لم يستطع تحقيق ذلك بسبب ضغوطات "البنتاغون" والغالبية "الجمهورية" في الكونغرس. وهاهو الرئيس ترامب "الجمهوري" يدفع الآن بهذا الاتّجاه رغم امتعاض المؤسّسة العسكرية من هذا الأمر الرئاسي.
فعملية اتّخاذ القرار لدى الإدارة الأميركية الحالية تخضع لاعتباراتٍ كثيرة أبرزها هو كيفية التوفيق الآن بين مصالح "الدولة الأميركية" في محاولة إبقاء تفوّقها العالمي الراهن، وبين مصالح ترامب الذاتية والقوى الأميركية المحلّية الضاغطة التي ساهمت في دعم الرئيس ترامب وإيصال إدارته الجمهورية إلى سدَّة الحكم في البيت الأبيض.
ولا شكَّ أنَّ تحقيق هذا المزيج بين "مصالح الدولة" و"مصالح النظام الحاكم" ليس بالأمر السهل دائماً، لكن ما كان يساعد هذا المزيج في الحياة السياسية الأميركية أنَّ الشعب الأميركي لم يكن يهتمّ كثيراً في شؤون السياسة الخارجية لأيَّة إدارةٍ حاكمة، أمَّا اهتماماته الداخلية فكان يمكن توجيهها من خلال وسائل الإعلام الكبرى وإثارة القضايا التي تضمن استمرارية نمط الحياة الأميركية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
لكن يوم 11 سبتمبر 2001 أفرز حالةً جديدة في المجتمع الأميركي، فقد أدرك الأميركيون أنَّهم ليسوا في جزيرةٍ منعزلة عن أحداث العالم، وبأنَّ ما يحدث في أقصى الشرق قد يصيب بتفاعلاته الأمنية والاقتصادية دولة أميركا القائمة في أقصى الغرب. وقد وظّفت إدارة بوش الابن هذه "اليقظة" لدى الشعب الأميركي من خلال قيامها بغزو كلٍّ من أفغانستان والعراق وبإعلان "الحرب على الإرهاب"، وذلك سعياً لتحقيق أجندة "المحافظين الجدد" على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وقد أدّت نتائج الحرب على العراق إلى خسائر سياسية كبيرة للحزب الجمهوري إضافةً للخسائر الاقتصادية والعسكرية التي أصابت الولايات المتحدة بسبب هذه الحرب، خاصّةً بعد تبيان زيف الذرائع التي اُعطيت لها وعدم وجود مشروعية دولية خلفها، ممّا ساهم في وصول مرشّح الحزب الديمقراطي باراك أوباما لمنصب الرئاسة الأميركية، وهو الذي تعهّد بسحب القوات الأميركية من العراق ولم يكن من الموافقين في الكونغرس، حينما كان عضواً في مجلس الشيوخ، على دعم قرار إدارة بوش الابن في غزو العراق.
أمّا الحرب في أفغانستان، فقد دعمها الشعب الأميركي بمعظمه لأنّها كانت أشبه بحال انتقام لما حدث في يوم 11 سبتمبر 2001 بحكم وجود أسامة بن لادن وقيادات تنظيم "القاعدة" فيها، وهو التنظيم الذي أعلن مسؤوليته عن أحداث سبتمبر، ولذلك لم يكن سهلاً إقناع الأميركيين وأعضاء الكونغرس بصوابية قرار سحب القوات من أفغانستان قبل القضاء على حركة "طالبان" التي كانت تدعم بن لادن و"القاعدة" ووفّرت لهما ملاذاً آمناً قبل سبتمبر 2001.
لكن رغم ذلك، فإنّ تداعيات حرب أفغانستان جعلتها تُشبه إلى حدٍّ كبير الحرب الأميركية على فيتنام في حقبة الستّينات من القرن الماضي، والتي سبّبت خسائر كبيرة للولايات المتحدة، وانتهت بمفاوضات في باريس أدّت إلى الانسحاب الأميركي وتسليم الحكم إلى من كانوا يحاربون أميركا من ثوّار فيتنام الشمالية "الفيتكونغ"، وإلى التخلّي عن حكومة فيتنام الجنوبية المدعومة من واشنطن.
وهذه هي الحرب الثانية، بعد العراق، التي "تخسرها" الولايات المتحدة في هذا القرن الجديد، لكن دون أن يؤثّر ذلك على القوّة العسكرية الأميركية المنتشرة في العالم وعلى تفوّقها النوعي والكمّي على أي دولةٍ أخرى. فما زالت الميزانية العسكرية الأميركية هي الأضخم بنسب كبيرة مقارنة مع ميزانيات الدفاع لدى القوى الكبرى الأخرى. فالميزانية العسكرية الأميركية هي حوالي 10 أضعاف الميزانية الروسية وحوالي أربعة أضعاف الميزانية الصينية. ولم تكن خسارة أميركا في فيتنام مبرّراً لخفض الإنفاق الأميركي على المؤسّسة العسكرية أو سبباً لانسحاب أميركا من الأزمات العالمية أو لعدم خوض حروبٍ جديدة. وقد رصدت إدارة ترامب الآن أكثر من 700 مليار دولار لصالح ميزانية "البنتاغون"، وهو أكبر مبلغ يُخصّص لهذه المؤسّسة منذ تأسيسها.
وفي تقديري، فإنّ امتعاض المؤسّسة العسكرية الأميركية من قرارات ترامب بالانسحاب من سوريا وأفغانستان لن يؤثّر على حجم التقدير الكبير له نتيجة زيادة حجم ميزانية المؤسّسة، والتي ترى أنّ أولوياتها هي الآن تجاه روسيا والصين ومحاولة التنافس معهما على الأرض والفضاء معاً، وما يعنيه ذلك من تطوير ضخم لنوع السلاح الأميركي ولضمان تفوّقه وانتشاره في أرجاء العالم كلّه.
صحيحٌ أنّ الولايات المتحدة قد فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها ومشاريعها في حروب وصراعات مختلفة حدثت في العقدين الماضيين. وصحيحٌ أيضاً أنّ هناك سعياً روسياً وصينياً دؤوباً لتكريس نظام متعدّد الأقطاب في العالم. وصحيحٌ كذلك أنّ عدّة دول في قارّات العالم تحبّذ الآن حصول تعدّدية قطبية. لكن هل تتصرّف أميركا الآن على أساس وجود تعدّدية قطبية في العالم، أو في الحدّ الأدنى، هل سلّمت واشنطن بهذه المتغيّرات الدولية الجارية حالياً؟!.
الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلّب رؤيةً دقيقة لواقع أزمات دولية حاصلة الآن، ولكيفيّة الانتشار الأميركي الراهن في العالم. فواشنطن (الدولة العميقة) هدفها الأول تعميق العلاقات الأمنية والاقتصادية والسياسية مع دولٍ تُشكّل بيئةً جغرافية مهمّة للصين، وبعضها (كاليابان) له مشاكل مع الصين وتاريخٌ سيء في العلاقات. ومن بين هذه الدول، ثلاثٌ منها تحتوي على وجود عسكري أميركي مهمّ منذ الحرب العالمية الثانية: اليابان، الفيليبيين وكوريا الجنوبية. وهناك الآن قرار أميركي بتحويل ما يُقارب ثلثي القوة البحرية الأميركية إلى منطقة المحيط الهادئ وجنوب شرق آسيا. فواشنطن تقوم الآن بخطواتٍ استباقية لمنع تحوّل القوة الاقتصادية الصينية إلى قوّة عسكرية ضخمة منافسة للولايات المتحدة.
أمّا محاولات التحجيم الأميركي لروسيا فهي متعدّدة، رغم حرص واشنطن على عدم حدوث تصادم عسكري مع القوة العسكرية الروسية التي تملك صواريخ نووية عابرة للقارات ولم تصطدم معها أميركا في أسوأ ظروف "الحرب الباردة"، حيث حرصت موسكو وواشنطن (كما تحرصان الآن) على إبقاء الصراعات بينهما في ساحات الآخرين، ومن خلال الحروب بالوكالة عنهما وليس بالأصالة منهما. ولعلّ الأزمة الأوكرانية، وقبلها جورجيا، ومعها الآن سوريا، لأمثلة عن كيفية سعي واشنطن لتحجيم النفوذ الروسي العالمي، ولمشاركة روسيا في مناطق هي محسوبةٌ كلّياً لموسكو. فالبعض يتصوّر الآن أنّ موسكو انتصرت في المسألة الأوكرانية بينما واقع الحال هو أنّ واشنطن ومعها "الناتو" قد وصلا إلى الحدود الإستراتيجية المباشرة للاتّحاد الروسي، بعد أن امتدّا أصلاً إلى دول أوروبا الشرقية وأصبح جزءٌ من هذه الدول عضواً في حلف "الناتو"!.
هناك بتقديري فارقٌ كبير بين مقولة "الانحسار الأميركي" وبين عدم نجاح واشنطن في السنوات الماضية بتحقيق كل ما كانت تريده أو ما خطّطت له من مشاريع. وهذا ينطبق على حربيها في العراق وأفغانستان، وعلى "مشروع الشرق الأوسطي الكبير"، وعلى الحرب الإسرائيلية على لبنان في العام 2006، وعلى ما يحدث في سوريا. ففي هذه الحروب والأزمات فشلت واشنطن في تحقيق ما تريده بشكلٍ كامل لكنّها حتماً استطاعت أيضاً مدّ تأثيراتها على مناطق لم تكن محسوبة لها بالسابق.
عالم اليوم متعدّد الأقطاب فعلاً، لكن من المهمّ الفهم السليم للواقع والانطلاق منه لتغييره، وعدم اعتبار النجاح في الدفاع عن الوجود ببعض المواقع تراجعاً نهائياً من قبل "المهاجمين" أو قبولاً تلقائياً بحقوق "المدافعين"!.
0 comments:
إرسال تعليق