كثيراً ما كنا نسمع أن اللغة العربية هي لغة الإسلام، وأن المسيحيين العرب تحدثوا بها مجبرين بعد دخول الإسلام مصر، ونسي البعض أو تناسى أن اللغة العربية لم تكن مقصورة على المسلمين، لأنها كانت موجودة قبل الإسلام، وتحدث بها بعض من المسيحيين العرب
لقد استعرب المسيحيون شيئاً فشيئاً، في مصر والعراق وفي الشام وأصبحت اللغة العربية حلقة الاتصال بين جميع المسيحيين في الشرق، وحلت اللغة العربية مكان اليونانية، والقبطية , وربطت بين الروم والسريان والأقباط، والمسيحية لا تعرف لغة مقدسة معينة وصارت ديانة مقبولة في شتى بقاع العالم، بل انتشرت في الشرق الأوسط بفضل المسيحيين العرب مثل «بطرس البستاني» و «ناصيف اليازجي»، اللذين شاركا في ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة العربية. لقد بدأ المسيحيون العرب يشعرون بتحديات منذ دخول الإسلام مصر، فالقرينة الجديدة التي عاشوا فيها دفعتهم لصياغة إيمانهم بتعبيرات لغوية بمفردات جديدة، مع حفاظهم علي أسس إيمانهم.
يرى الاب سمير خليل اليسوعي، ان في بداية الكتابة العربية لا أحد من العلماء يشك أن الخط العربي يرجع إلي أصل مسيحي، فأقدم الكتابات العربية الشمالية وجدت على أبواب الكنائس، مثل «كتابة خرائب زبد، المكتوبة بثلاث لغات اليونانية، السريانية، والعربية سنة 51م، وكذلك نقش حران باليونانية والعربية المنقوش سنة 568م»
ويذكر الأب سمير اليسوعى، عن التراث العربي المسيحي بأنه مجموع ما كتبه المسيحيون فى اللغه العربية، أو ما ترجموه إلى العربية، مؤكدًا على أن التراث العربى المسيحى هو المدخل للأرضية المشتركة بين المسيحى العربى والمسلم، فاللغه والتراث والثقافة والتقاليد هى منطلق الحوار والعيش المشترك،.
وساهم المسيحيون في لبنان خلال القرنين التاسع عشر والعشرين في حركة النهضة العربية، فلعبوا دوراً هاماً في النهضة الثقافية والسياسية العربية كفتح المدارس، إحياء اللغة العربية، إصدار الصحف، تأسيس الجمعيات، والأهم المساهمة في تأسيس الجمعيات السياسية العربية مع المسلمين والمطالبة باللامركزية وبجعل اللغة العربية رسمية في إدارة الدولة والمحاكم وغيرها.
وبالنسبة للاقباط فرغم انهم يتحدثون اللغة العربية الا انهم يعرفون انفسهم جزء من القومية والشعب القبطي. وهنالك عدد من المسيحيين العرب غير قبطي عاشوا في مصر وهم اساسًا أبناء المهاجرين من الشام وقد لعبوا دورًا طليعيًا في تحديث المجتمع وعصرنته والانفتاح على الغرب الأوروبي وإنشاء دور الصحف وتحديث الطباعة والنشر وكذلك العمل في المهن الحرة والمصارف وكانوا جزءًا من الطبقة الثرية والمتعلمة
والنهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بدأت في عهد محمد علي باشا وتسارعت وتيرتها أواخر القرن التاسع عشر، وكانت بيروت والقاهرة ودمشق وحلب مراكزها الأساسية، وتمخض عنها تأسيس المدارس والجامعات العربية والمسرح والصحافة العربيين وتجديد أدبي ولغوي وشعري مميز ونشوء حركة سياسية نشطة عرفت باسم "الجمعيات" وخلال النهضة تم تأسيس أول مجمع للغة العربية اشترك فيه عدد من المسيحيين وإدخال المطابع بالحرف العربي، وفي الموسيقى والنحت والتأريخ والعلوم الإنسانية عامة فضلاً عن الاقتصاد وحقوق الإنسان،
ولا يمكن حصر ميادين النهضة الثقافية العربية في القرن التاسع عشر بهذه التصنيفات فقط إذ إنها امتدت لتشمل أطياف المجتمع وميادينه برمته، ويكاد يعمّ الاتفاق بين المؤرخين على الدور الذي لعبه المسيحيون العرب في هذه النهضة سواءً في جبل لبنان أو مصر أو فلسطين أو سوريا، ودورهم في ازدهارها من خلال المشاركة ليس فقط من الوطن بل في المهجر أيضًا. يذكر على سبيل المثال في الصحافة سليم العنجوري مؤسس «مرآة الشرق» عام 1879 وأمين السعيل مؤسس مجلة الحقوق وجرجس ميخائيل فارس مؤسس «الجريدة المصرية» عام 1888 واسكندر شلهوب مؤسس مجلة السلطنة عام 1897 وسليم تقلا وشقيقه بشارة تقلا مؤسسا جريدة الأهرام،
وفي فقه اللغة العربية يذكر إبراهيم اليازجي وناصيف اليازجي وبطرس البستاني. وفي الوقت ذاته دخلت إلى حلب على يد المطران ملاتيوس نعمة المطبعة الأولى بأحرف عربية إلى بلاد الشام واستمرت في الطباعة حتى 1899. من جهة أخرى، ساهم المسيحيون العرب في مقارعة سياسة التتريك التي انتهجتها جمعية الاتحاد والترقي وبرز في حلب على وجه الخصوص المطران جرمانوس فرحات والخوري بطرس التلاوي، وتأسست المدرسة البطريركية في غزير التي خرجت عددًا وافرًا من أعلام العربية في تلك المرحلة، ولعبت الجامعات المسيحية كجامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية في بيروت وجامعة الحكمة في بغداد وغيرها دورًا رياديًا في تطوير الحضارة والثقافة العربية.
وكان للمسيحية تأثير في تطوير معالم الحياة الإسلامية والشرقية. ففي عهد الدولة العباسية نشط المسيحيون في الترجمة من اليونانية إلى السريانية ومن ثم للعربية، حيث كان معظم المترجمين في بيت الحكمة من المسيحيين، ونشطوا أيضًا بالطب والعلوم والرياضيات والفيزياء فإعتمد عليهم الخلفاء كما وقاد المسيحيون النهضة العربية بصحفهم وجمعياتهم الأدبية والسياسية. وحتى اليوم لهم دور فعّال في العالم العربي والإسلامي في مختلف النواحي الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وكذلك الأمر في الشرق الاقصى والهند للمسيحية إرث عريق ولا يزال في كافة المجالات خاصًة في التعليم والرعاية الصحية. ]
وقد أثرى الكثير من شعراء المسيحيين وغيرهم اللغة العربية بتعبيرات لم يسبقهم إليها أحد وكان عمالقة حركة الترجمة كانوا فلاسفة ومفكرين مسيحيين أمثال «قسطا بن لوقا»، و «حنين بن إسحاق» وقد نشر المسيحيون العرب الكثير من المؤلفات التي تثبت اتفاق العقيدة المسيحية رغم اختلاف الفلسلفات والمصطلحات
ويؤكد جواد على، أن الذين كتبوا بالقلم العربي الشمالي، الذي أخذ منه قلم مكة، هم من العرب النصارى، خاصة رجال الدين لحاجتهم إلى الكتابة في تعليم أولاد النصارى الكتابة، وتثقيفهم ثقافة دينية. فكانوا يعلمونها في المدارس الملحقة بالكنائس. أثري الكثير من شعراء المسيحيين وغيرهم اللغة العربية بتعبيرات لم يسبقهم إليها أحد، فأصبحت وما زالت، على ألسنة كثيرين، ويسرد «لويس شيخو» بعضاً من أبيات الشعر لشعراء المسيحية ما زال يرددها البعض حتي الآن،
وهناك بعض من أخبار شعراء المسيحية الأوائل، مثل «حنظلة الطائي» الذي عرف معني الوفاء في المسيحية، وكان شاعراً إنسانيا و«هند بنت النعمان» التي عاشت مسيحية حتي ماتت ولها دير باسمها في الحيرة بالعراق و «عدي بن زيد العبادي» شاعر الحيرة، وله الكثير من الشعر الديني، وكان شعره يعكس إحساسا إنسانياً مسيحياً، والأعشي الكبير، الذي فضله «يدعود» على سائر شعراء الجاهلية، وانتظمت أوزانه الشعرية وأصبحت موسيقاها محببة إلى كل الآذان، وقصائده تصور أفكار مسيحي، يدعو فيها إلى تعاليم مسيحية و «أمية بن الصلت» الذي اطلع على التوراة والأناجيل، وفي شعره الكثير من مقتبسات الكتب المقدسة و «عمر بن كلثوم» الشاعر المسيحي الشجاع، حين كان يمر بالقتلى والجرحى لا يتأثر وكان يعرف العربية كتابة وتدويناً و «قس بن ساعدة»، الذي انتفع الأدباء بشعره في الجاهلية وعرفوا منه أخلاقه وديانته وإيمانه بالمسيحية و«النابغة الذبياني» الذي عكس المعاني النصرانية على بعض صور شعره، وكان من الشعراء الذين كانوا يكتبون العربية و «ورقة بن نوفل» الذي كتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب، واعتزل عبادة الأوثان في الجاهلية وطلب وقرأ الكتب، وقال في وحدانية الله وقدرته وبقائه.
والدور المسيحي في الترجمة اختلف الدارسون حول وجود ترجمة عربية للكتب المقدسة ترجع إلى ما قبل الإسلام من عدمه، فقد دافع الاب «لويس شيخو» عن وجود ترجمة عربية في الجاهلية، وتبعه «عبدالمسيح المقدسي» في مقال قيم ظهر في مجلة «المشرق»، أما الدكتور «جواد علي» فلم يستبعد وجود ترجمات للكتاب المقدس في الحيرة، لما عرف عنها من تقدم في الثقافة وفي التعليم وكانت اول ترجمة مهمة للعهد القديم، التي قام بها «سعيد الفيومي المصري» «89 -94م» .
و نشر المسيحيون العرب الكثير من المؤلفات التي تثبت اتفاق العقيدة المسيحية رغم اختلاف الفلسلفات والمصطلحات، ومنذ القرن التاسع الميلادي حتى منتصف القرن الثالث عشر ظهرت عدة مؤلفات لاهوتية باللغة العربية.
وبلغ الأدب العربي شوطاً كبيراً قبل عصر الكتابة والتدوين، فكان ينقل شفاهة من جيل إلي جيل ومن موقع إلي موقع واللغة العربية في عصورها الأولي شأنها شأن سائر اللغات، تداولها أصحابها أولا قبل الكتابة. وأدي الاعتماد علي الذاكرة أن يكون للشعر نصيب أوفر من النثر في التدوين فيما بعد، حيث إن الشعر بأوزانه وموسيقاه وقوافيه كان أيسر من النثر للذاكرة
كما أن عمالقة حركة الترجمة كانوا فلاسفة ومفكرين مسيحيين أمثال «قسطا بن لوقا»، و «حنين بن إسحاق»، و «يحيي بن عدي»، و «تيموثاس الأول»، و «أبي فرج بن الطيب»، وغيرهم ومن المعروف تاريخيا أن الخليفة العباسي المأمون كان قد أسس «دار الحكمة» في مدينة بغداد، ودار الحكمة هي «دار نشر» اهتمت بنقل التراث الفلسفي غير العربي إلى اللغة العربية وقد برع في دار الحكمة بشكل خاص «حنين بن إسحاق»، العالم السرياني
يذكر د.القس عبد المسيح اسطفانوس في كتابه بعنوان المسيحية والمسيحيون واللغة العربية في القرون حتي سنة 600م أن الأقباط وقد أمروا أن لا يتكلموا بلغتهم القبطية فى الدواوين الحكومية، ورغم أن العربية ليست لغتهم، لكنهم أبدعوا فيها، وكان من بينهم من هو فى قوة سيبويه في قواعد اللغة العربية، بل إنهم أيضاً تفوقوا فى الخط العربي، وكتبوا آيات الكتاب المقدس بالخط الكوفي .
ويؤكد القس إسطفانوس أنه كانت توجد ترجمة باللغة العربية للكتاب المقدس، وكانت هذه الترجمة أساساً عندما طبع الكتاب المقدس باللغة العربية، تحت إشراف أساتذة مسيحيين عرب متفوقون، منهم المعلم البستاني، وناصيف اليازجي، حيث جاءت أول طبعة عربية 23 أغسطس1864م، بينما أنجز فهرس الكتاب المقدس للعلامة جورج يوست فى عام 1875م..
0 comments:
إرسال تعليق