تكثيف الفعل القصصي والبناء السردي في مجموعة الثالثة بعد منتصف الليل للقاصة مشلين بطرس/ نزار حنا الديراني

عن دار أبعاد للنشر والتوزيع صدر للقاصة مشلين بطرس باكورة أعمالها القصصية (الثالثة بعد منتصف الليل ) ، والمجموعة تضم بين دفتيها (11) قصة قصيرة و( 71) قصة قصيرة جدا .
منذ الوهلة الأولى تثير عنونة المجموعة (الثالثة بعد منتصف الليل) وهي عنوان لإحدى قصصها عدة تساؤلات لدى القارئ وذلك لأهمية العنونة بإعتبارها من المفاتيح المهمة في اقتحام أغوار المجموعة والولوج في أعماق نصوصها القصصية .. 
عنونة المجموعة الثالثة بعد منتصف الليل ... تُفضي إلى تأويل افتراضي لعوالمها الغامرة ولافتة دلالية ذات طاقة مكتنزة وأنت تتساءل لماذا الثالثة بعد منتصف الليل ؟؟ وحيث كل شئ يكون في سباته العميق، إلا أن القاصّة من خلال انتخاب عناوينها الداخلية (على شفير الحياة ، ضفاف تبحث عن أمكنة، نجمة تبعثر تلاشيها ، أجنحة ترمم ريشها، وحوش برسم التصفيق ، الأرض .. تموت، و غفلت الساعة، طفولة ...) تلفت انتباه القارئ ، ليجعل منها علامات دالة على العمل، وهي تأتي في إطار السياقات النصية حيث تظهر طبيعة التعالق القائمة بينها وبين العمل، وكما تقول في قصتها: (الثالثة بعد منتصف الليل) :
- (أمسكتُ بالقلم علّي أكتب براكينَ تكاد تتفجر في داخلي، لكنّ البياض ظلّ ناصعًا يقهرني، حاولتُ النومَ، وعبثًا ما حاولتْ.  لمعتْ في رأسي فكرةٌ فأمسكتُ بجوالي أتصفح عناوينه، وفجأة بدأتْ خفقات قلبي تطير من صدري. إنني أُهاتفُ الوطن، رن ... رن ... لا أحد يجيب.!!  )
القاصّة مشلين بطرس في مجموعتها هذه تسلّط عدستها على الشارع والبيت والوسط الإجتماعي، لتلتقط بذكاء ودقة شخصوصها الفاعلة سياسيًا وأدبيًا وأجتماعيًا في الساحة التي تمكّنها لتكون قناعًا تعكس الواقع الذي تنوي القاصّة تجسيده للقارئ لتجعله يُستفز من وقع الأخطاء المتراكمة من الماضي والتي كانت السبب في محاولة السمكة الكبيرة لإبتلاع الصغيرة منها ...  
فعلى سبيل المثال نجد أن القاصة مشلين بطرس ركزت في قصتها (خرافةٌ ترسمُ جنتَها) على تمثال يشير الى عمق حضارتها والحدث هو إنكساره، وفي قصتها (هدير الليل) تركز القاصة على القضية الفلسطينية التي تشير اليها بعقد الحياة، وفي قصتها (راصور) تكون المرأة في نظر مجتمعها هي المحور فأشارت إليها بالراصور الذي يعني النابض لتنقل لنا نظرة المجتمع الذي يؤمن بأن المرأة كالراصور يجب الدعس على رأسها كي يبقى حجمها بالحجم الذي تراه لكَ مناسبًا. وفي قصتها (عطية ... بخيل) تعالج الهوة الشاسعة التي تفصل الفقير عن الغني وفي قصتها ( مدارس معاصرة ) تزاوج بين طموحات الفتى الذي يبيع المناديل وشوقه لما يعج الشارع من الكتب ، وهكذا في بقية قصصها ... 
ومن أجل ان تكون القصة مشوّقة حاولت القاصة خلق الحيوية والديناميكية والحرارة في العمل من خلال أهمية الموضوع. 
وفيما يخص البناء الشكلي لقصصها القصيرة جدًا علينا ألا ننظر إليها فقط من خلال القصر، وإنما ما يحويه النص من مرتكزات رئيسية مهمة تميزه عن القصة الطويلة والمتوسطة الطول، وذلك من خلال براعة القاصّة في الاختزال والتكثيف في الحدث السردي من خلال الإكتفاء بأقل ما يمكن من الشخصيات، بالإضافة إلى زمكانية مقننة، إذ أنها تقفز مباشرة إلى الحدث المركزي بدون مقدمات، مكتفية بالأطر التي يوفرها ذلك المركز لخلق أجواء القصة، إذ أنها تعتمد على حبكة بسيطة في فضاء زمكاني مختزل.
لذا فالتكثيف هو من العناصر المهمة في القصة القصيرة والقصيرة جدًا كونه هو الذي يحدد بنية القصة من خلال فاعليته المؤثرة في إختزال الموضوع وطريقة تناوله، وإيجاز الحدث والقبض على وحدته وهذا ما قامت به القاصّة من إنتقاء عناصر الصورة وموضوعها إنتقاءً موفقًا وتشكيلها تشكيلاً موحيًا.
 لقد أستطاعت القاصة مشلين بطرس في مجموعتها هذه أن تبتكر فضاء لغتها فنجحت في تقديم فكرة متوهجة مستفيدة من الفنون الأخرى كالفن التشكيلي والمونتاج والدراما والشعر.. مما سهّل عليها شحن الكلمات بأكثر ما يمكن من المعاني والتعبير عنها بأكثر ما يمكن من الأفعال وبأقل ما يمكن من المفردات، وهذا لا يتآتى إلا من خلال توالي أكتساب لغة لها القدرة على التكثيف الهائل للمعاني.
إن اللغة لدى القاصة مشلين تمتلك انزياحاتها التأويلية، لأعتمادها في أكثر الأحيان على لغة أهلتها كي تحافظ على توازن البناء السردي بدلاً من الإنجرار وراء الحدث إلى خارج سرب القصة ، فهذه الإنزياحات هي التي قادتنا للتأويل عن الواقع الحقيقي الذي تعيشه للدلالة على ما تريد الوصول إليه. 
ففي قصتها (خرافةٌ ترسمُ جنتَها) تستخدم الأفعال (تحمله، تضمه، تتحدث إليه، تغطيه،.... ) تسعة أفعال في نص قصير، وفي نصها مدارس معاصرة تستخدم 13 فعل ( صفعت، غفا، راح، هبّ، غنى، رقص ....) وفي قصتها (بغماليون) إستخدمت 17 فعل في نصها الذي يحوي على ما يقارب 45 كلمة وهكذا في بقية نصوصها ... 
نلاحظ أن ضرورة التكثيف في لغتها بدا واضحًا .. لذا فأهم أركان السرد لديها كان من خلال رسم شخصياتها وهي ( تعمل) بدلاً من أن تخبرنا عن (أفعالها) ومن هنا تكون الأفعال عنصرًا غاية في الأهمية في لغة القصة القصيرة والقصيرة جدًا ، فكثرة الأفعال يعني كثرة المعاني وكثرة الأحداث وسرعة الحركة. فهذه الأفعال هي التي جعلت السرد متماسك وفاعل بوساطة اللغة الشعرية المبطنة في فعل القصّ. 
فالتكتيك في القصة القصيرة والقصيرة جدًا يتخذ من اللغة شكلاً ليس كشكلها المعتاد في الأدب القصصي . إنها لغة مكثفة ، ففي القصة (إمرأة) نلاحظ الكثافة المعنوية الهائلة التي حملتها العبارة ( ... أتركك لأبحث عن ذاتي، وأحقق قراري..) و (.. دعني وشأني، لقد حطمتُ قبوري) . وفي نصها (مساواة) : 
  - (أرادوا تحريرها، ومعاملتها كأخيها ، أحضروا لهما الكتب المدرسية، وكل ما يلزم لتعليمهما ، فتح الأخوان كتاب الصفّ الأول، قرأا أول جملتين
- رباب تكوي، باسم يقرأ!! 
فما الذي تريده المرأة بعد؟) 
نجد الكثافة المعنوية في تقديم فكرة المساوات بين الرجل والمرأة ... وهكذا في بقية قصصها (دمعة وأرزة و ... وطن، الأرض ... تموت ، الأسئلة تفتح أبوابها ، دبوس..) 
هذه القصص تحوي جملاً قصيرة اختزلت الكثير من الكلام ، وأغنت القاصّة عن العودة إلى أحداث ماضية توحى بها إلى القارئ.
 فالقصة القصيرة والقصيرة جدًا تسعى إلى توليد الدهشة في ذهن القارئ إعتمادًا على تكتيكات لغوية خاصة، تفرض المساحة الصغيرة المتاحة للقاصّ ولغة تمتاز بالكثافة العالية.
ونظرًا لدخول الحكاية كمكوّن أساسي في بناء القصة السردية، فإن الحوار يأخذ حيزًا مهما قي قصص القاصّة مشلين ، وبشكل مكثف وقصير كي لا  يضعف الفعل القصصي لديها ، وهو الذي يولّد الحركة والحيوية في النص فالحوار لدى القاصة مشلين بطرس جاء في قصتها (عطية ... بخيل ) من خلال: 
( طالبه فقير متوسلاً القليل من ذاك اللحم، علّه يتلذذ برائحة الشواء )
(وفي قصتها  راصور) جاء الحوار من خلال:
( - فقال لجاره
- أتعرف الراصور؟ )
وفي قصتها: (على شفير الحياة) : 
 (تسرعُ بخطاكَ زارعًا الغرفة بضجيج دخانك، تطقطق أصابعكَ، يتفصّد منك تعب الحياة، توقظُ كتابًا من غفوته، تقلّب صفحاته، فيصله توترك، وتشمئز الحروف من يأسك
بريقٌ ما يشدني إليه، أستطلع ما عساه أن يكون؟؟)
وفي قصتها: (ضفاف تبحث عن أمكنة) :
( أجبته بحماس: إذًا فلتعلمني الرقص بالخنجر، علّي أغزل دوائر النور أنا أيضًا.) 
وهكذا في بقية قصصها ... 
فالحركة في القصة هي الطريقة التي تسير عليها القصة لبلوغ هدفها، ويكون البناء فنيًا إذا اعتمد طرائق التشويق وكان متلاحمَ الأجزاء بحيث يتكون منه ما نسميه "الوحدة الفنية" وهي نوعان: 
-  حركة عضوية، تحققت لدى القاصة مشلين بطرس في الحوادث التي تقع في (تَحَطُم التمثال، سرقة المفتاح، حركة الراصور، حركة الطفل وهو يبيع المناديل الورقية، حركة قطعة اللحم على الفحم .... وهكذا في بقية القصص)
- والحركة الذهنية التي تتحقق في سلوك الشخصيات التي تتمثل في القصة للوصول نحو الهدف الذي تهدف إليه القاصّة. 
ولأن كل حركة في الوجود لا يمكن أن تحدث خارج الإطار الزمكاني.  لذلك جاءت القصة السردية لديها" ذات بنية زمانية ومكانية تتشكل من خلالها معالم الحكاية.
فالمكان لدى مشلين بطرس في قصتها ( خرافةٌ ترسمُ جنتَها ) و(راصور) هو الشارع، وفي قصتها (هديل الليل) هو المساحة المحصورة بين فلسطين وسوريا ولبنان وفي قصتها  (مدارس معاصرة ) المكان أيضا هو الشارع الذي يعج بعمالقة الأدب العربي  وهكذا في بقية قصصها .. 
بحكم أن فنيّة القصة القصيرة والقصيرة جدًا تتطلب الإيحاء والتركيز والشدّ إلى المفاصل المهمة من العلاقة بين فنيّة القصة وتاريخية المكان فالشخوص لدى القاصّة يتصرفون وفقًا لما مرسوم لهم من المكان الواجب التحرك فيه لتجعل القارئ يتفاعل تفاعلاً عاطفيًا وفكريًا ونفسيًا مع شخوصها، فالمكان (المتمثل في الشارع الذي يلعب فيه الأطفال أو يباع فيه الكتب أو فلسطين أو ...) كان حيّزًا مفترضًا أو متخيلاَ يتفاعل معه القارئ لأهميته. 
وأحيانًا تكون بنية المكان في القصة مكثفة ، كون المسافة بين الشخص والحدث مسافة قصيرة جدًا كما في (دمعة وأرزة و ... وطن ، الأرض ... تموت، الأسئلة تفتح أبوابها، دبوس، ولادة أبدية و...) 
ومن الجدير بالذكر أنّ السرد الحكائي في النص القصصي لدى القاصّة مشلين بطرس هو الذي نقل تجربتها القصصية ألى خارج الطابع الغنائي الذاتي، فنصوصها ليست تعبيرًا عن تجربة ذاتية بقدر ما هي تصويرًا لتفاعل أحداث، وصراع شخصيات، فأحاطت بالموقف إحاطة كاملة، فتحولت التجربة الذاتية القصصية لديها إلى تجربة إنسانية، فإن المتأمل في تجربتها يجدها غنية بالطابع السردي والمشهدي والتوظيفي كتوظيفها قصة لعازر الواردة في الكتاب المقدس في قصتها (ولادة أبدية) بشكل جميل كقولها: 
( ..أنا الذي برّد أليعازر لساني بطرف إصبعه، فعدتُ من أغوار جحيم عقيم)"
 وما يراه القارئ من فعل غنائي في حقيقة الأمر ليس ذاتي شخصي بل هو تجسيد للأنا الكلية وكما تقول في قصتها (شاعرة : شغل ابداعها حديث الصحفيين، عادت إلى المنزل تذرف دموعها المعتادة تطالب زوجها بنصوص جديدة)، أو في قصتها (بكتيريا : نحن العطب المتجذر منذ قرون، نحن العفن الذي يجتاح العالم في الزمن المقبل ).. وهكذا في بقية قصصها ... 
وفي الختام أقول: 
تميزت القاصّة مشلين بالأصالة اللغوية ، نحتت في صخر المفردات فأنتجت مكونات جميلة وبراقة، أبدعت في بلورة وتكثيف الحدث وكشف صورة "الآخر فسلّطت الضوء على مظاهر الفساد الإجتماعي متبعة الواقعية والمنطق في تشخيصها.
لقد أظهرت القاصَة في قصصها هذه صورًا شفافة للأحداث الدرامية للفئة الأضعف في المجتمع ... وهذا دليل على وعيها وتمكّنها من شحن اللغة المستخدمة بالحيوية وطاقات تعبيرية .. فإلى المزيد من العطاء. 

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق