الديك الذي صار سياسيا/ نبيل عودة

(من المجموعة القصصية "نبيل عودة يروي قصص الديوك")

صحيح انه من الصعب فهم مسار أفكار الديوك، الملاحظ الذي لا يختلف عليه اثنان انها متيقظة الذهن، سريعة البديهة، حادة الرؤية، وجاهزة دائما للدفاع عن نفسها بمنقارها الحاد، لذا ليس بالصدفة انها تدير خممها (جمع خم) أفضل من أي جهاز حكومي لبني آدم. لدرجة ان البعض يروج ان أفلاطون العظيم تأثر بممكلة الدجاج لصياغة فكرته العبقرية عن جمهوريته وتقسيمها الاجتماعي والطبقي بين حكام، هم الديوك المتسلطون، والحراس، من الديوك الناشئة، والشغيلة من عنصر الدجاجات .. كأفضل نظام لتأسيس جمهورية بلا قلاقل وتمردات وثورات وانقلابات وأحزاب سياسية ونقابات وبرلمانات، يتبادل فيها النواب الديوك من جميع أصناف المخلوقات الحوار بالأيدي، أو المناقير ... بدل اللسان، وكل ما يمت بصلة من مؤسسات دولة فسادها مضمون في بداية طريقها. 
في أحد الخممة، عاش ديك صيغت حوله قصص وحكايات مثيرة بسبب تميزه وذكائه وسطوته على دجاجات خمه، وتعاليه على ديوك سائر الخممة في محيط بلده. 
كان صوته الأقوى فجرا والمميز بين الأصوات، منذ تولى مهامه الخمية، ولكنه لم يكن مجرد ظاهرة صوتية، وقد توصل الديك بعد تفكير الى رؤية ثاقبة بأن ما يجري داخل الخممة أكثر قيمة من مجرد علاقة بين دجاج وديوك. والموضوع لا ينحصر بالمميزات البيولوجية بين الدجاج والديوك. انما الموضوع هو فن تسييس الدجاجات من ديوكها.  لذا الموضوع ينحصر في فن السياسة .. وفن الممكن مع الدجاج .. أي كيف تسيس دجاجاتك؟ تماما كما يجري في عالم البشر.. حيث ان الحكومة الناجحة، ليست بسبب عدلها واهتمامها بحياة الناس، انما بحسن تسييسها للناس، وحتى لو عدت عليهم انفاسهم .. وأذاقتهم الويلات ...
لشدة ذكاء ديكنا أطلق عليه لقب "ديك الجن" تيمنا بشاعر قديم .. مما يميزه عن غيره من ديوك البلد. وكان ديك الجن يصر ان التسمية الخاصة أيضا سياسة، وأن هذا التعبير (تسييس وسياسة) ليس وقفا بالأصل على ابناء البشر، لأنه تعبير نشأ أصلا من تسييس الحمير والخيل ... والتسييس من أصل السياسة، والمسيس (بكسر الياء) صار سياسيا. والمسيس (بفتح الياء) ظل على حاله من الخضوع. فصار تسييس البشر من الضرورات في المجتمعات الحديثة، ليخضعوا لأولي الأمر الذين بيدهم الحل والربط، كما أقر ذلك أفلاطون في جمهوريته أيضا. وهنا لا بد من اشارة الى أن تعابير " الحل والربط " التي هي من صفات السياسيين، هو تعبير جاء من عالم الدواب، عالم الخيول والحمير والبغال والبقر والجمال. كان أصحابها يسيسونها ويتحكمون بحلها وربطها، ولو خبطت ولبطت ضد قيودها من الفجر وحتى المغيب، قرار حلها وربطها ليس بيدها، انما بيد مسيسها الذي صار في عصرنا الحديث سياسيا يسوس الناس .. ويحل ويربط على ذوقه، تحت غطاء الكلمة السحرية " سياسة ".
سبحان الله .. كيف غاب عن ذهن الديوك، في مؤتمرات قمتهم المتعددة، ان السياسة هي حاجة ضرورية ليبقى الحل والربط في جمهوريات الديوك ملك أيمانهم .. بدون تدخل من أصحاب الخممة التابعين لمختلف الأحزاب، والمختلفين دائما حول من دجاجته ألذ على الموائد، ولماذا يفضل أصحاب الحل والربط في الحزب وجبة فاخرة من دجاجاته عن دجاجات جاره. ولكن الحقيقة انهم يرفعون من قيمة دجاجات الذي يفرد لهم المائدة، أي ان كل أصحاب الخممة يحصل كل منهم على بدوره على تقييم يثلج الصدر للحوم دجاجاته. وهذا فتح جبهة نقاش وخلاف بين أصحاب الخممة. ويقول البعض ان هذا الخلاف حول وجبات الدجاج هو من ضمن سياسات الحل والربط التي يتحكم بها أصحاب المراتب العليا في الأحزاب، مهما تعددت أشكالها وألوانها !!
الديك كان على قناعة انه لولا السياسة وتسييس التابعين، لقامت الفوضى في عالم البشر أيضا. وأن السياسيين في عالم البشر استفادوا من خبرات ساسة الحمير والخيل والبغال والجمال والبقر واساليب تسييسها وترويضها لخدمة احتياجات أصحابها ورفع مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية، وفي بعض الحالات مكانتهم الثقافية أيضا ... وما شابه !!
كانت مشكلة الديك جهله بلغة البشر. ولو فهمها لفوجئ ان تعابير سياسة الدواب المذكورة، هي نفسها تعابير رجال السياسة في بلدنا، وربما في كل اللغات التي أوجدها الله لاستعمال البشر. 
مثلا من بعض التعابير التي تستعمل بالسر أحيانا وبالعلن أحيانا أخرى، سجلنا هذه الجمل: " هذا لا يسلك الا بالعصا ... فلان مربوط في خان الزعيم في الحزب ... هذا البغل لا ينفع لتمثيل الجماهير... مجموعة فلان لا تنفع لغير الحرث والركوب ... اللي عند الحمار دلاه .. فلان حصان، ولكنه شديد الرفس يجب لجمه جيدا... التحالف بين البغل والحمار يجعل السياسة كارخانة.. اولئك لا ينفعون الا في النهيق والصهيل... قوته قوة بغل يحمل الزعيم لوحده دون تعب .. يريد منصبا؟ اعلفوه بكمشة قمح ... خطاب منافسي مثل نهيق الحمير ... لا تخبط وتلبط بقدميك، قراري نهائي... من أجل ان تتقدم عليك بصبر أبي صابر... وصوتوا لفلان الذي يعرف كيف يلجم الأعداء... نحن جمالك يا زعيم ودائما نسير وراءك ... " 
كانت النتيجة التي توصل اليها الديك بعد تفكير وبحث مضن، انه يجب ان يكون شديد الفخر بحسن بديهته، وسرعة فهمه واستيعابه لأهمية السياسة في التعامل مع الدجاج أيضا، وجعل التسييس ضمن خطط القيادات الديكية. وربما في التعامل مع أصحاب الخممة المسيسين مثل الدجاج في خدمه أوامر ونزوات زعيمهم. وبالتلخيص ما حدا أحسن من حدا. الدجاج يخضع للديوك، وأصحاب الخم يخضعون لزعيم بشري مكانته في حزبه بمكانة الديك في خمه. وهكذا دواليك دجاج وديكة مهما اختلفت التسميات والأصناف، حتى أعلى منصب في الدولة ... وبنفس الوقت كان الديك أشطر من أن يتورط بمواجهة مع صاحب خمه بسبب ان الربط والحل في الخم بيده. أي يتحكم بسياسة الخم بشكل عام. تاركا للديك تسييس الشؤون اليومية الطارئة، والحفاظ على النظام الأفلاطوني ... وكان الديك يسمي صاحب الخم ب " البغل الغبي ".. ويضطر للترحيب به رافعا عقيرته .. ولكنه في داخله يضمر له العداوة لأن دينه يختلف عن دين الديوك .. وبطنه لا تعرف الشبع، ولولا نجاعة الانتاج لصار جميع مواطني خمة وجبات على موائد البغل، ولأقفل الخم أبوابه من وقت طويل!!
كان حضور البغل يثير الرعب في اوساط الدجاجات والديوك من فصيلة الحراس . . ويُشغل حتى الديك عن متابعة سياسة الخم.
الأمر الذي كان يقلق الديك هو لون ريشه ... الذي يميل أكثر للألوان الغامقة. وهي ألوان تحتاج الى ضوء قوي لتنعكس في أعين البغل صاحب الخم المسيس من ديك حزبه.
كان الأمر الذي يرعب الديك، ان يتوهم البغل، صاحب الخم، انه صار زعيما مثل مسيسه الحزبي، ويجرب الحل والربط بمواطني الخم، فيخرب النظام السياسي الذي يديره الديك بإتقان وموهبة فطرية تجعل حضوره بارزا في كل وقت. وأيقن طبقا للمعطيات الاساسية التي لمسها، انه عليه مهمة عظيمة، بتغيير لون ريشه بألوان زاهية أكثر، تتوهج حتى في الضوء الخافت، عندها سيبرز بمكانته ويشد الأبصار بجمال ريشه وترتفع قيمته في بورصة السياسة. وقد لاحظ ان بعض دجاجاته، يتمتعن بريش يتلألأ في الضوء الخافت، ولا يكف عن اللمعان حتى في الظلمة. كيف رزق الله أولئك الغبيات، بهذا الريش المتوهج الذي يليق بمكانة الديوك فقط؟ حقا ان طرق الرب غير مفهومة للديك. واستقر رأي الديك أن يجري عملية تجميل شاملة لنفسه، ليصبح مقامه أعظم وأكثر لياقة في عالم السياسة والسياسيين المتحكمين بالحل والربط، واتخاذ القرارات المصيرية بحق الحمير والخيل والبغال والبشر، وهو مصمم ان يجعل للديوك مكانا محترما في سلسلة رجال السياسة، بحيث يضاف الدجاج الى الحمير والبغال والخيل والبشر، المسيسين من رجال السياسة، وسيكون ذلك انقلابا سياسيا تاريخيا، عندما يصير الديك ضمن السياسيين المتحكمين بالصغيرة والكبيرة في هذا العالم .. يحل ويربط على ذوقه. ولم لا ...؟ وهو ديك لا تنقصه الفصاحة ولا البلاغة، وربما لو جرى امتحان لغوي بإشراف الداهية في اللغة العربية " أبو العلاء شمشم" لاحتل الديك المكان الأول في الاملاء سابقا حتى السياسيين الرجال الذين يسقطون في الاملاء لأنهم مجرد نهاقين لا يقرأون ولا يكتبون.
وعليه، اعتمد الديك على الله وعلى ذكائه، وقرر تنفيذ مشروع لتغيير ريشه، باستبداله بريش براق يزين أجنحة دجاجاته، ويليق بأن يكون لون ريشه ليبهر الجميع بما فيهم البغل صاحب الخم.
كانت خطته بسيطة، وكان الديك يعرف ان البساطة هي العبقرية بذاتها، وقد تجعله أبرز رجال السياسة والتسييس، صراخا وعقلا وشكلا.
كانت خطته ان يقتلع كل ليلة بضع ريشات من احدى الدجاجات، حين تكون دائخة في أحضانه، فلا تشعر بالألم وهي في قمة لذتها، ويبقى الموضوع مستورا.
كان تقديره ان الموضوع يحتاج الى شهر قمري كامل، يجمع فيه الريشات ويستبدل ريشه، ويظهر بشكله الجديد الزاهي الذي يخطف البصر والألباب، محققا معجزة ديكية لم يذكر التاريخ السياسي او تاريخ التسييس، او تاريخ الخممة أو أفلاطون في جمهوريته ... مثيلا لها. 
وانتهت المهمة السرية على أكمل وجه. وفي فجر مشرق أصيبت الدجاجات بالذهول وهن يستمعن لصياح ديكهن بألوانه الزاهية الجديدة. ولولا معرفتهن لصوته لأنكرنه .. ولكن لصغر عقولهن، أسوة بسائر الاناث، جعلهن لا يفهمن كيف صار الديك زاهي الألوان بين ليلة وضحاها؟
هل يكون قد عاد زمن استجابة الرب لطلبات أولي الأمر من الساهرين على الدين والنظام ؟!
غير ان الرياح تجري بما لا تشتهي السفن.
في فجر اليوم التالي جاء البغل صاحب الخم لجمع البيض واختيار دجاجة لتحضير وجبة مدعو لها زعيم حزبه وحاشيته من المصفقين ذوي الأهمية في الحزب. 
نظر البغل حوله وانقض على الديك زاهي الألوان، وعبثا ذهب صياح الديك لينبه صاحب الخم انه ديك الجن نفسه سائس الخم .. كانت السكين الحادة أسرع .. وعندما تزعفل الديك بدمه تطاير ريشه الجديد الزاهي كاشفا ريشه القديم، فخبط صاحب الخم على رأسه بأسى متأوها: 
- آه يا ديكي العزيز ... سامحني .. لم أعرفك بهيئتك الجديدة !!
Nabiloufeh@gmail.com

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق