" سُعود الأسَديّ سيّد اللغتين " هو عنوان مؤلف للكاتب العراقي الكبير، والمفكر الاسلامي التنويري، الباحث في حقول الفكر والمعرفة والتراث د. صالح الطائي، صادر عن منشورات معالم الفكر في بيروت، وجاء في ١٦٠ صفحة، تزين غلافه صورة الشاعر الأسديّ.
ويتناول الكتاب اخوانيات الشاعر الفلسطيني، ابن دير الأسد المقيم في الناصرة، أمير التراث وسيد اللغتين، الفصحى والعامية، الأستاذ سعود الأسدي.
ويستهل الطائي كتابه بقصيدة غاية في الروعة والسحر والجمال، كتبها الأسدي له، يقول فيها:
أُهْدِيكَ يا صَـالحَ الأَعْمَالِ من جُمَلِي
ما شِئْتَ يا صَادَقَ الأَقْوالِ وَالعَمَلِ
يا ابْنَ العِــرَاقِ وَعِرْقي مِنُهُ أَثّلَنِي
وَأَثْلَتِي منهُ أَهْدَتْ شُعْلَـــةَ الأَمَــلِ
حُبُّ العِرَاقِ وَمُنْذُ البَدْءِ أَثْمَلَنِي
أَسْعَــى إليْــــهِ بَقَلْبٍ بِالهَوَى ثَمِلِ
وَجَدُّكمْ حاتِــــمٌ وَالدَّهْرُ يَذْكُرُهُ
أَنْحَى على الخَيْل لِلضِّيفانِ والجَمَلِ
وَمَنْ يُضَحِّ بأَغْلَى ما لَدَيْهِ فلا
يَبْخَلْ بِسَرْجٍ ولا رَحْلٍ لِمُرْتَحِلِ
إذا أَتَيْــتَ لِبَيْتِي زَائِــرًا فأنا
لَكُمْ أُضَحِّي وَمَا عِنْدِيْ سِوَى حَمَلِ
ويحدثنا د. صالح الطائي عن صداقته الافتراضية وعلاقته الوجدانية مع أبي تميم الأسدي الديراوي من خلال موقع صحيفة " المثقف " في سيدني - استراليا، التي يشرف عليها المفكر والمثقف العراقي ماجد الغرباوي، هذه العلاقة التي كانت في بدايتها خجلة - كما يقول - ثم أصبحت من المتانة والرصانة لدرجة أن كلام سعود معه تحوّل الى فضاء من الشعر الوجداني، الذي يجمع بين شعر الوصف، وشعر المديح، وشعر الحكمة.
وعن ذلك يكتب د. صالح الطائي: " من بين الوجوه التي التقيت بها في موقع صحيفة المثقف، كان وجه سعود الأسديّ الشّاعر الفلسطيني الكبير بارزًا ، يحتّل موقعّا في الصّدارة، ينشر مقاطع وقصائد فيها الكثير من العذوبة والسحّر، بدأت تروق لي كثيرًا، وأصبحت من المتابعين المدمنين لما ينشر، ومع كل قصيدة جديدة كان إعجابي به يزداد ويكبر، فبدأت أعلّق على بعض قصائده التي ينشرها، وكان من مواصفات موقع صحيفة المثقّف التي تفتقر لها الكثير من المواقع الأخرى أنّ المتداخلين جادّون وواعون ومثقفون، تعطي مداخلاتهم للموضوع زخمًا وإضافة نتيجة التّفاعل الجادّ معه، أمّا الردود عليها فلم تكن بأقلّ منها إجادة وكفاءة وإفادة، لكن استوقفني شيء باهر في ردود الشّاعر سعود الأسديّ على مداخلاتي ومداخلات الآخرين، وهو أنه كان يردّ عليها شعرًا لا نثرًا، وبقدر ما استغربت من هذه الطريقة، وأسعدت بها، بدأت أشعر أنه يترجم مشاعره الحقيقيّة نحوك في تلك المقطوعات، التي تفضح حقيقة للإنسان الآخر المقابل له ".
ويضمّن الطائي المساجلات التي جرت بينه وبين الشّاعر سعود الأسديّ، فكان يكتب له نثرًا، ويرد عليه الأسديّ شعرًا، ويتحدث عنه كما رآه بعينه، وفي عيون الآخرين، ويقتبس نماذج من أشعاره الجميلة العذبة، مشيرًا الى ان من مواصفاته الفريدة، التي تنم عن مقدرته الشعرية الفائقة الفذّة، هي قدرته على الارتجال بالعامية والفصحى، وله في ذلك شواهد كثيرة لا تحصى، منها قصائده " إنتظرنا ولم تعودي إلينا "، و حبيبتي لا تغاري "، و " هكذا الحُبّ "، بالاضافة الى ارتجاليته في ذكرى استشهاد الحسين عليه السلام " ارتجالية في يوم عاشوراء " التي نشرت في العديد من الصحف والمواقع العراقية.
ويتحدث الطائي ايضًا عن الناصرة في حياة الأسديّ، منوهًا الى أنه في مرابع النسيج القدسيّ، حيث المآذن تكبًر، والكنائس تقرع الأجراس، كان صوت سعود الأسدي يخترق الحجب، لينقل للعالم صورة مدينة خلف القضبان، منتهك فيها حقّ الإنسان!. ومن فيض هذه الأناشيد كان هذا الكتاب تخليدًا وذكرى.
ويتوقف عند سعود الأسدي والزجل والعتابا، ذاكرًا أن رحلة سعود مع اللغة العامية الفلسطينية اكتسبها من بيئته الغنية بها، وهي لغة ثرية بالموروث الزّجلي وقد وسع الموروث الزجلي رواية وحفظًا كما رأيناه في الشعر والأدب الفصيح، وارثا ذلك عن أبيه وعموم من قال الزجل في شرق البحر المتوسّط، وقد أدهشه سعود الأسدي بمعرفته عتابا قاسم الجبوري العراقي وأزجاله. مضيفًا إلى أنه علّم فنّه إلى أولاده، لينقل هذا الموروث عبر الأجيال، وهو وأبناؤه، أصبحوا أسرة فنية تتفاعل مع الموروث الشعبي الفلسطيني، وتتناقله كمنتج حضاري يقوي رابطة الإنسان بأرضه وتقاليده وتراثه.
ثم يقدم الطائي نماذج مختاره من أزجاله الشعبيه ويعلّق عليها، باسلوب نقدي مشوق.
وبعد ذلك يتناول فن المداخلة لدى سعود الأسدي، وهو احد الفنون الجميلة والجديدة التي أوجدت على هامش استحداث النشر الالكتروني، وكانت مداخلات الأسدي عن طريق الشعر غالبًا فيما يخصّ بعض أصدقائه المقرّبين، إلا في المواقف التي يحتدم فيها النقاش، مستخدمًا في هذه الردود أسلوبًا جزلًا جميلًا عذبًا مبتكرًا- كما يقول صالح الطائي.
ويعرض الى وطنيات وعراقيات الأسدي، حيث شارك شعبه وشعب العراق والشعوب العربية المقهورة والمظلومة الهموم، فغنى لبغداد ودجلة والفرات والشام ودمشق وفلسطين أجمل الأغاني، ويذكر ان سعود الأسدي كان ولا يزال ينتهز الفرص ليصوغ لبغداد قصائد العشق السّرمديّ، وقد جمع ما تمكن من جمعه وفاته الكثير من هذه القصائد الوطنية التي قالها في العراق، من أبرزها قصيدته العصماء " بغداد على الصليب " التي كتبها يوم غزا الامريكان ومن خلفهم العراق "، ويستهلها بقوله:
بغدادُ يا مُهْجتي! يا نبْضَ شرْياني!
غنّيتُ فيكِ مواويلي بألحاني
غنّيتُ تمّوز لمّا ثارَ ثائرُهُ
صيفًا فصار َ ربيعًا مثل َ نيسانِ
هاتي " الأبوذيّة " السّمْراء أعْزِفُها
معَزْفًا يفوقُ عزيفَ الإنس والجانِ
وَرَدّدي من " عتابا جاسمٍ " فأنا
مُتيّمٌ بعتابا فيكِ تلقاني
ويأتي بعد ذلك الى طائيات سعود الأسدي، وهي مجموعة قصائد يشيد بها بعشيرة طي، لمجرد أن صديقه صالح الطائي منها، وفيها يركز على الأصالة والعراقة والجود والكرم.
ثم يعرج إلى قصائد وأغنيات تدل على شاعرية سعود الأسدي، وتلهب المشاعر، مؤكدًا على أن القصيدة في دنيا سعود الأسدي تتحول إلى أغنية، والأغنية إلى قصيدة، ثم يبحر في عمق قصائده الاجتماعية الموشحة بنوتة الغناء، وفيها فيض من المشاعر الجياشة.
وينتقل بعد ذلك للحديث عن الطرفة في شعر الأسدي، ثم يتطرق إلى غزل آخر العمر، موضحًا " أن سعود الأسدي لم يترك غرضًا من أغراض الشعر إلا وخاض غماره، وفاج بحاره، وعرف قراره، وفك أسراره، وجاب دياره، وكان الغزل احد أرق وأعذب تلك الأغراض، أنتج روائع في منتهى الأبّهة والفخامة، روائع من المؤكد أن الشباب بعجزون عن مجاراتها، وليس بأيديهم سوى التمتع برقتها وعذوبتها وجمالها الأخاذ". ويقتطف الكثير من أشعاره الغزلية التي تذكرنا بكبار شعراء الغزل في الأدب العربي. ومن هذه الغزليات الرائعة قصيدته " أن تسألي عنّي "، ومطلعها:
يا حُلْوَة العَيْنين خفْقُ جوانحي
يعلو فإذْ خفْقي لدَيْكِ وَجيبُ
إن تسألي عَنّي فإنّ رسائلي
عَنّي إذا أنا لم أجِبْكِ تُجيبُ
حالي عجيبٌ في هواكِ ومن رأى
حالي ولم يَعْجبْ فذاكِ عجيبُ
تنأيْن عَنّي والبعادُ يشوقُني
وإذا نأيت فإنني لقريبُ
وينهي الطائي رحلته والتجوال في عالم ودنيا سعود ألأسدي الزاهية المشرقة المورقة المزهرة، بالاشارة إلى أن المكانة الكبيرة التي يشغلها في دنيا شعر العرب، ومواقفه الوطنية النبيلة، تستوجب من القائمين على تنظيم مهرجان المتنبي، الذي يعقد في محافطة واسط سنويًا أن يستضيفوا هذا الشاعر المجيد الكبير، ليتيح للشعراء العراقيين والعرب ولا سيما الشباب منهم أن ينهلوا من عذب موارده ويتمتعوا بجميل شوارده.
وفي النهاية، لقد راقني جدًا كتاب الصديق الكاتب والباحث البغدادي العراقي د. صالح الطائي عن صديقنا الشاعر المبدع الملهم حارس تراثنا الأستاذ سعود الأسدي، واستمتعت بقراءته أيما استمتاع، وعشت مع كل حرف من حروفه، ومع كل فصل من فصوله، فهو كتاب وجداني يدخل في باب " الأخوانيات "، كتب بأسلوب سلس مشوق، ولغة أدبية جميلة طلية عذبة، وبروح دافئة فيها الكثير من الجمال الروحي والوفاء الانساني، فو فعلًا كتاب مدهش مُلذ ماتع إلى أبعد الحدود.
فللصديقين الجميلين د. صالح الطائي، والأستاذ سعود الأسدي تحياتي ومحبتي وتقديري لهما، ولعطائهما الثر، واسهامهما في رفد الابداع الراقي والثقافة الأصيلة .
0 comments:
إرسال تعليق