فاعلية المتخيل الشعري في مجموعة إبحار على متن الكلمات للأديب علي أبي رعد/ نزار حنا الديراني



عن دار ناريمان للنشر و الطباعة والتوزيع صدر للأديب علي أبي رعد كتابه ( إبحار على متن الكلمات ) المتضمن عشرات النصوص المرسومة على صفحات كتابه والذي يقول عنه ( هذه عناوين لموضوعات متناثرة ، أملْتها ظروفٌ عابرةٌ ومشاهداتٌ لآخرين ...).
منذ البدء أوقفني الغلاف الذي صممه المهندس تمام جمول وأنا أتحسسه وأعكسه على عتبة الاستهلال للكتاب . فالعتبة هي الشفرة المركزية للكتاب كونها تُحيل القارئ الى ما تفترضه من اِستعارة تستدعي ما يمكن أنْ يتوافر عليه الكاتب من طاقة تفترض فكرة المراقبة والاستدعاء، وجرأة في التعرّف على مايجري .
 فمن الملاحظ العتبات النصية بدءً من العنوان مرورا بصورة الغلاف تمثل أولويات الدخول لجسد المتن / النص حيث تأخذ مداها في الكشف والتحري من سحر الغلاف وانجذاب المتلقي باستدراجه للتصفح والقراءة وكأنهُ دعاية اعلامية ... كلاهما العنوان والصورة يستنبطان من المتن التغطية الكاملة لجسد النصوص والتي هي مجموعة من التناصات اليومية التي واكبها الأديب علي أبي رعد فتراءت له على شكل صور شبه متنافرة ومتضادة أفضت إلينا الى التوازن والانضباط والهدوء ، كي يتعرف القارئ بأن ما يمور في الأعماق يتجسد مثل البصمة .
العتبة تقول ( أبحار على متن الكلمات ) هذا العنوان العاكس للصور كالمرايا ، يكشف عن معناه الحقيقي فرغم القلق الذي رافقه طويلا ، اذ جعل كلماته تمور في أسفاره البعيدة ،  ولوحة الغلاف توحي لا يزال المؤلف ( علي أبي رعد ) يقف على ساحل البحر ليلا يهيئ أرضية الأبحار عند الصباح .. ولكن عند الأبحار بين دفتي الكتاب تبين لي أن المصمم قد أبحر بكفاءة فكر الأديب علي وتبين له فعلا انه لا يزال يهيئ الأرضية. فمحتوى الكتاب هي عبارة عن مجموعة صور جميلة حبلى بايحاءات تمتد كأمتداد البحار تشبه صواريخ حكمية عابرة للقارات ... 
جاء الشتاء ...
لملم الخريف أوراقه
تعرت الذكريات ...
غادر الوقت زمانه ...
هجرت الأمكنة مطارحها
فبت حائراً مترنحاً
خارج الزمان والمكان ..
وهذا ما جسده لنا الفنان تمام جمول وهو يرسم لنا البَحار حائرا بين أن يبحر أم يترقب وضع الأبحار ... 
مبدع هذه الصور لا يريدك الأبحار فالقارب المرسوم في صفحات الكتاب بلا سفان ولا مقود لذا حاول الكاتب عكس كل المدن والامبراطوريات الموجودة في عالمك وأحلامك من خلال مجموعة مرايا ... وهو يتساءل :
من أين لي بحقائبَ ...
أجول بها عواصم الدول
ألملم أشلاء وطن ...
عند مداخل السفارات
ومحطات السفر
 من هنا أقول كان العنوان واللوحة أمينة في عكس وترجمة رؤى الأديب علي . 
ان الناظر الى شاعرية علي أبي رعد سيجد ان روحه هائمة في أفق نصوصه المعروضة كمشاهد بانورامية يعرضها كما هي وحيث تنساب اللغة فيها كالنهر ، متدفقة كالموجات تنبثق الأفكار من خلالها ، إذ يتكئ على فضاء من الاستعارات التي تصنع المشهد الشعري لديه، فهو يهجس بها عبر رؤية ينتخب زوايا النظر للمَشاهد التي تخصّه وشعبه، حتى تبدو النصوص وكأنها مرايا، تتسع لمرآى أناه المنطوية، القلقة، والباحثة عن المُضمر والغائب وغير الآمن وكما يقول :
         بيتنا الجبلي ...
    وحيدٌ هذا الشتاء
    الطيور هجرت الأغصان
    النوافذ مغلقة والأبواب
    لا جمر في الموقد ولا نار
نجده يتقصى من خلال نصه هذا أسرار المكان المرابط بسيرته الذاتية وأمه ، إذ تأخذه بواعث الكتابة الى التأمل لما حل بالمكان بسبب رحيل أمه .
قارئ النصوص سيتلمس مدى اِشتغاله على منظومة المعاني الراسخة في الموروث الحضاري ومجاورة الواقع الاجتماعي ورؤيته الحلمية الكونية من جهة والسياسية من جهة اخرى جاهدا على تفعيل حواسه كلها ، كاشفا عن حضور الذات ببلاغة ملفوظاته اللسانية ، فيقول :
نحن لا نعرِفُ إن كنا نمارس الحياة
أم أننا نقضي حكماً مؤبداً مدى الحياة 
حاول الأديب علي أن يواكب العصر في نصوصه هذه من جوانب عديدة ومنها الأيجاز، ما أعني أن يكون النص قصيراً واضح الدلالة بسيط التركيب لا يحتاج إلى كد الذهن كقوله :
كان القطار سريعاً ...
والصحراء تهربُ ...
ولا تدلُنا على مدينة ...
فعوالمه ومنطلقاته الفكرية تسير على وفق معطيات نصوصه الجميلة المحملة برؤاه وتقنيات السرد فنيا وجماليا لتخرج معانيه الى صور شعرية مشبعة بانعكاسات ورؤى مؤثرة  من اجل خلق الدهشة كقوله :
يا صديقي 
أقبل ايلول
أفتح نافذتك
فلربما
بين طيوره عصفورة
لا تطلب منك حنطة
وقد تهديك من عمرها
وقتا للسمر
فلتكن نافذتك
لاستراحتها محطة ...
من الملاحظ عن نصوصه انها تتميز بمعطيات فنية وتقنيات شكلية استوعبت التجربة والرؤيا بشكل معاصر..من خلال نصوصه المتوهجة بتكثيف جملها المقتصدة في الفاظها  .فهو يرسم لوحاته المشهدية المشحونة بتموجات الذات المهمومة باعتماد الكثافة اللفظية حيث يستأصل الاشياء من بيئتها ليعكسها على شكل صور حسية تتشكل داخل بنية يومية في اوطاننا وهي تتجاوز واقعيتها بموحياتها البيئية ليعطيها دلالات واقعية كقوله :
وغادرت أسراب الطائرات
بعد أن رسمت لوحةً من نار
الكلُ مات ...
حتى حفار القبور
وصفارة الاِنذار
نرى كيف جاءت لوحاته المشهدية متفاعلة مع تفاصيلها المنحصرة بتداخل الصور المستمدة من الأحداث التي يعايشها الشاعر لتضفي عليها قدرا من الكثافة فكان التصعيد والاِتقاد في النص نتاج لحظة تفاعل واِصطدام..
دائما نجده يقدم لنا مشاهدا تاملية تنسجم وتسهم في تنمية المسارات الايحائية وهي تسبح في دلالاتها التي تنساب في اِتجاهات متعددة من أجل كشف الرؤيا والمضامين الموحية كقوله :
أحنُ ... الى أيام طوتها السنون
الى دروب تعانق الياسمين والزيزفون
الى تنور عابقٍ برائحة الخبز والفطير
الى بيت من طين
الى جلسة على حصير
الى حبل غسيلٍ تراقصه الريح
الى ناي رائعِ بين القطيع
ما تحمله نصوصه من شحنات توترية يكون اساسها محور الذات الشاعرة، المتأثرة، والعلاقة القائمة بينها وبين الصورة التي تصطادها مخيلته، من ذوات العلاقة الوطيدة بحياته اليومية، خصوصا عندما يتعلق الامر بالحضور المكاني حيث تتولد الرؤى، وتنبثق المواقف، وهي ترسخ لمعاني متشظية .. وأجوبة تتجوهر وتتشاكل مع وعيه ومخيلته النشطة لتنتج حوارا بين الأنا والآخر /الذاتي والموضوعي
فنجده يقول معبرا عن حيرته في المواجهه مع الذات وحيث تمتزج المفردات بلغة اكثر مباشرة، وقربا للفؤاد، مما يسمح للصور الشعرية بالتوالد والانصهار بتجربته:
لست فرحاً كي أضحك
ولست حزينا كي أبكي
ملتبس ... أنا
كسحب الخريف
تبددها الرياح
كلما أوشكت على البكاء
فالكاتب يقترب بصوره من الوضوح في إجلاء الصورة الشعرية من خلال الأخذ بالمعطيات الحسية لتقوم بعكس العلاقة الشعرية بين المشبه و المشبه به على وجه يرتضيه المنطق و تقره الذائقة البلاغية. 
فالنص الخلاق المبدع إن لم يكن متوهجاً بالتخييل، لا يخلق لذته، ولا يبني إثارته، لان النص الخلاق، هو الذي يمنح المتلقي"اللذة" ؛ كما يقول الناقد العراقي محمد الجزائري ولعل هذه الانفعالية الواضحة، هي التي حملت الشاعر على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي، كقوله :
وأنت تغادر .. لا تترك البيت
وحيدا .. فالبيوت
عندما يغيب سكانها
لا تبكي ... إنما تموت
أو :
كان القطار سريعا ...
والصحراء تهرب ...
ولا تدلنا على مدينة
وختاماً أقول :
أستطاع الأديب علي بمجمل نصوصه أن ينسج لنا لوحات مشهدية أو صوراً شعرية 
مشحونة بتموجات الذات المهمومة جسدت دلالات الرؤية والتخيل لدينا من خلال الربط بين هذه الجزيئات للحصول على اللوحة البانورامية الجميلة بعوالمها الوامضة والمحفوفة بظلال المشاعر لتقوم بدغدغة مشاعرنا وحثها على الأستفاقة .... وبذلك قدم لنا عبر نصوصه المبنية بناءً سرديا صور مشهدية تبدو الكتابة فيها وكأنها حكايات مسكونة بتمثلات وجودية، واضاءات جمالية بايحاءات تنطوي على دلالات ومضمونات انسانية كاشفة عن ازمة الذات والموضوع.

CONVERSATION

0 comments:

إرسال تعليق